تخيل معي أنه وبعد ضغطك على الزر الذي يقودك لقراءة هذا المقال، صادفتك الرسالة التالية: هذا المقال متاح للقراءة فقط أيام الجمعة من الساعة 15:00 إلى الساعة 16:00؟
أو أنك قمت بشراء كتاب ما ووضعته على رفوف مكتبتك المنزلية، لكن لا يمكنك قراءته بمجرد رغبتك في ذلك، بل عليك احترام ساعات القراءة المحددة من طرف بائع هذا الكتاب والتي لا يمكنك تقديمها أو تأخيرها ولو لدقائق؟
هذا بالضبط، ما كان وما يزال يفعله التلفزيون التقليدي منذ أن رأى النور في بدايات القرن الماضي. إذ أن المشاهد لا يملك حرية مشاهدة ما يشاء في الوقت الذي يشاء على الرغم من أنه دفع مقابل الحصول على ذلك الجهاز وهو على الأغلب لا يزال يدفع بعض الاشتراكات الشهرية أو السنوية... لكن نتفليكس كان لها رأي آخر.
في شهر أغسطس/آب سنة 1997 ظهرت شركة صغيرة تحت اسم نتفليكس Netflix وجاءت لتُغَير قوانين اللعبة بالكامل، اذ أحدثت الشركة الأمريكية المنشئ -والتي بدأت نشاطها كموزع للأقراص المضغوطة DVD داخل الولايات المتحدة- ثورة في عالم الترفيه وغيرت من طريقة استهلاك المشاهد للمحتوى الإعلامي. في هذا التقرير نستعرض معكم أهم التغييرات التي أحدثتها شركة نتفليكس في عالمنا بشكل عام، وعالم التلفزيون بشكل خاص.
التغيير في عقلية المشاهد
تعود المشاهد التقليدي على مشاهدة عروضه المفضلة سواء مسلسلات كانت، أفلاماً أو وثائقياتً بشكل يومي أو أسبوعي، تتخللها غالبا إعلانات تجارية لا تحظى باهتمام الجميع. تُعرَف هذه التقنية بـ ” تقنية المشاهدة بالجرعات” وتقوم على تقديم العرض التليفزيوني بشكل متقطع، ما يولد عقلية تأجيل الإشباع لدى المشاهد.
لم يقتصر التغيير على عقلية المشاهد، وطريقة مشاهدته للتلفاز فحسب بل قامت نتفليكس بإحداث ثورة في عالم التلفاز نفسه
لكن على النقيض من ذلك فإن نتفليكس لا تعرف برنامج بثّ محدد أو عروضاً مباشرة، فمشتركي الخدمة غير مضطرين للمشاهدة حلقة بحلقة بل بإمكانهم مشاهدة جميع حلقات الموسم مرة واحدة. فمؤخرا ظهر مصطلح جديد في عالم الترفيه عرف بـ الافراط في المشاهدة ) binge-watch حسب قاموس كولينز) والذي يقصد به مشاهدة عدد كبير من البرامج التلفزيونية (وخاصة كل حلقات مسلسل واحد) في جلسة واحدة وعلى التوالي. أكثر من ذلك فإن مشتركي خدمة نتفليكس يملكون حرية مشاهدة ما يشاؤون في الوقت الذي يشاؤون أينما يشاؤون، تقريبا على أي جهاز متصل بالأنترنت.
بالتالي فإنه بإمكاننا القول أن نتفليكس غيرت من عقلية المشاهد الذي كان باستطاعته تأجيل إشباعه، عن طريق توفير إمكانية حصوله على اللذّة اللحظية .
ثورة في صناعة المحتوى التلفزيوني
لم يقتصر التغيير على عقلية المشاهد، وطريقة مشاهدته للتلفاز فحسب بل قامت نتفليكس بإحداث ثورة في عالم التلفاز نفسه ومنحت بعدا آخر لكيفية صنع المحتوى التلفزيوني.
من المؤكد أنك سمعت عن محتوى نتفليكس الأصلي؟ (Netflix originals) والذي يُقصد به المحتوى الذي تقوم الشركة بتمويل إنتاجه ليعرض حصريا على منصتها. على غرار مسلسل بيت من ورق (house of cards) وبيت المال La Casa De Papel الانتاج الإسباني للشركة.
قد يبدو هذا أمرا عاديا فجميع القنوات التقليدية تقوم بنفس الأمر منذ سنوات، لكن العبقري في انتاج محتوى سينمائي أصلي يعرض على منصة لا تخضع لبرنامج بث محدد، هو إمكانية التحكم في مدة الحلقات لجعلها تتناسب أكثر مع حبكة المسلسل.
خذ على سبيل المثال مسلسل “المرآة السوداء” Black mirror، المسلسل البريطاني الذي بدأ عرضه على القناة الرابعة في المملكة المتحدة سنة 2011. قامت القناة الرابعة بإنتاج الموسمين الأول والثاني للمسلسل، لكن نتفليكس استولت على المسلسل بعدها –في صفقة قدرت بـ40 مليون يورو- وقامت بإنتاج موسميه الثالث والرابع.
الخدمة التي بدأت قبل 20 سنة في توزيع الأقراص المضغوطة جعلت ما كنا نتمناه قبل سنوات ممكنا، تكفي كبسة زر فقط
كان متوسط مدة عرض الحلقة في الموسمين الأول والثاني 50 دقيقة، تقريبا ككل المسلسلات التي تعرض على التلفاز التقليدي. في الموسم الثالث قفز هذا الرقم إلى 64 دقيقة وزاد عدد الحلقات من 4 إلى 6 حلقات.
التغيير في بنية المجتمع:
كانت تلك اللحظات التي يجتمع فيها أفراد العائلة معا في صالون البيت لمشاهدة برنامج أو فلم معين من أجمل اللحظات العائلية، نفس الشيء حينما يتفق مجموعة من الأصدقاء على الذهاب إلى قاعات السينما. لكن هذه التجمعات الحميمية تواجه خطر الانقراض في عصر الفيديو حسب الطلب. فعند النظر إلى خطط العضوية لخدمة نتفليكس نلاحظ امكانية المشاهدة على أكثر من جهاز في آن واحد، ما يعني أن كل واحد من أفراد الأسرة سيشاهد ما يريد بشكل منفرد على جواله أو حاسوبه المحمول.
ضف على ذلك أن التخلي عن تقنية المشاهدة بالجرعات وتوفير إمكانية المشاهدة بالمواسم أنهى تلك الأحاديث الصغيرة التي كان يخوضها الأصدقاء لتوقع ما سيحدث في الحلقات القادمة من المسلسل، وخفف من الضجة التي تحدثها المسلسلات نفسها. فتخيل أن مسلسل لعبة العروش Game of thrones مثلا كان من إنتاج نتفليكس، لا حرق للأحداث ولا انتظار حلقة كل أسبوع، من المؤكد أن هذا سينقص من حدة الحديث عن المسلسل مهما كانت جودته.
قد نختلف حول طبيعة التغييرات التي أحدثتها نتفليكس في عالم التلفاز وربما في عالمنا كبشر أيضا. لكنه من الواضح أن العالم قبل خدمة نتفليكس ليس نفسه بعدها. فالخدمة التي بدأت قبل 20 سنة في توزيع الأقراص المضغوطة جعلت ما كنا نتمناه قبل سنوات ممكنا، تكفي كبسة زر فقط.