“لا إصلاح حقيقي للحكم إلا بإصلاح المجتمع، الفساد لا يحبطنا، لأن التاريخ علمنا أن الإصلاح يجب أن يتجه إلى النظام السياسي والمجتمع كذلك”، بهذه الكلمات لخص عبد الرازق مقري رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية – ذراع الإخوان في الجزائر – رؤيته للإصلاح، بعد سلسلة مناكفات مع نظام الرئيس بوتفليقة الذي تعكف أجهزته هذه الأيام على جمع تقارير تنبش من خلالها قدرة الإسلاميين على تحريك الشارع، حال ترشح الرئيس لولاية خامسة.
عبد الرازق مقري يتحدث عن ضرورة العودة لإصلاح المجتمع أولًا
المشهد السياسي في الجزائر
مراجعات مقري أو استسلامه للأمر الواقع أو ربما فهمه لما يحدث من تغيرات على الساحة الجزائرية التي لا يمكن أن تنفصل عما يجري في الأوساط الإقليمية تجاه الحركة الإسلامية، جاءت بعد انتكاسة التيار الإسلامي في انتخابات المحليات الأخيرة بالجزائر، فرغم خوض السباق عبر تكتلات وتحالفات شملت معظم صفوفه وألوانه، فإن حصيلة مكاسبه كانت مخيبة للآمال ولم تتجاوز 51 بلدية و156 مقعدًا بالمجالس الولائية لحركة “حمس”.
بينما فاز تحالف “من أجل العدالة والنهضة والبناء” ثاني أكبر ائتلاف حزبي للاسلاميين بالجزائر برئاسة 8 بلديات فقط، في الوقت الذي حافظ حزب “جبهة التحرير الوطني” الحاكم على الصدارة بحصوله على رئاسة 603 بلديات من أصل 1541 و711 مقعدًا بالمجالس الولائية، يليه التجمع الوطني الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء بـ451 بلدية و527 مقعدًا بالمجالس الولائية.
النتائج الأخيرة للامتحان الانتخابي بجانب تسريب نص التقارير الأمنية التي أوصى بها الرئيس بوتفليقة قبل أشهر لتفسير الاضطرابات ودعوات مقاطعة الانتخابات الرئاسية المستقبلية في البلاد، أكدت أن المعارضة الحقيقية بعيدة تمامًا عن أي تأثير للإسلاميين – وهي التقارير التي نشرتها إحدى الصحف الجزائرية المقربة من النظام، قبل أن تُحذف بشكل مفاجئ بعد أن استنفدت أغراضها وحتى لا تحدث بلبلة غير مطلوبة في البلاد، توضح دون تزيد موقف التيار الإسلامي وحقيقة تأثيره ونظرة السلطة له في الوقت الحاليّ بالجزائر.
الحصيلة الهزيلة للتيار الإسلامي في الانتخابات التي جرت في نوفمبر الماضي لا يمكن فصلها عن نتائج مخيبة للآمال حققتها الحركة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها الجزائر في مايو من العام الماضي
كيف وقع الإسلاميون في الفخ؟
قبل أشهر من الآن كانت الأطياف المختلفة من التيار الإسلامي تعيش في تقديرات من المكاسب تجافي المنطق والواقع، خاصة أنها كانت بلا ترتيب حقيقي أو تمهيد الأرض لاكتساح انتخابي، وبالغ بعض قادتهم قبيل الانتخابات في الحديث عن قدرتهم على حصد 40% من مجموع المقاعد بانتخابات المحليات التي أجريت أواخر العام الماضي، وكحال الإسلاميين في كل البلدان العربية يبدو أنهم فهموا مؤخرًا أن وجودهم في المشهد والموافقة على استمرارهم مرتبط باعتبارهم مجرد مكملات للديمقراطية المزعومة، ولكن لن يسمح لهم بأي حال الحصول على الأغلبية، وليست الأنظمة الحاكمة وحدها التي تقرر ذلك، بل الإسلاميين أيضًا.
الحصيلة الهزيلة للتيار الإسلامي في الانتخابات التي جرت في نوفمبر الماضي لا يمكن فصلها عن نتائج مخيبة للآمال حققتها الحركة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها الجزائر في مايو من العام الماضي، ولم تتمكن الأحزاب الإسلامية مجتمعة من الحصول على ثقة الناخبين إلا في 48 مقعدًا من أصل 462، بينما كانت الأغلبية كالعادة لأحزاب السلطة بأغلبية مريحة قدرت بـ261 مقعدًا، وبدلًا من الحديث عن الإخفاقات الحقيقية وأسبابها تم الاستناد إلى دعاوى تزوير الانتخابات من السلطة، دون مراجعة منطقية يُفهم منها ما الذي يجعل الإسلاميين في المؤخرة دائمًا.
هناك جملة أسباب موضوعية بالطبع يمكن فهمها من تراجع التيار الإسلامي في الجزائر، حتى دون أن تلجأ السلطة لكتابة تقارير توضح ذلك، على رأسها شيوع وترجيح كفة الخطاب الديني والأيديولوجي عن الخطاب السياسي الواسع والموجه لكل أطياف المجتمع، بجانب عدم امتلاك الإسلاميين برنامج حقيقي يقدم فلسفة اقتصادية تناسب ما يطرح من مثالية أخلاقية لا يتم الاقتداء بها خلال صراعاتهم الداخلية، في تنافر غريب بين ما يقال وما يُنفذ على أرض الواقع.
نجحت حملات السلفيين في تأثيم الإخوان وتحميلهم مسؤولية هدم بعض الدول العربية
حالة الانقسام وصلت في بعض الأحيان إلى الاحتراب بين القوى الإسلامية التي استفحلت بشدة خلال الأعوام الأخيرة، مما أثر بشدة على صورة التيار لدى الجزائريين، بعدما انقسمت حركة مجتمع السلم إلى 3 قوى يعادي بعضها البعض، وهي حركة مجتمع السلم وجبهة التغيير وحركة البناء الوطني، بينما تفككت حركة النهضة إلى عدة أحزاب، وكل ذلك بسبب الأزمة التنظيمية التي تجعل من عملية التسليم والتسلم للقيادة أشبه بولادة مستعصية.
ضريبة التفزيع من الديمقراطية
دفعت القوى الإسلامية في الجزائر التي لا تنفصل عن نظيرتها في الوطن العربي، ضريبة تفزيع أبنائها من الديمقراطية، لذا مارستها شكليًا دون أدنى إيمان بها بسبب الظروف والتحديات الإقليمية والداخلية، واكب ذلك تنام واضح للتيار السلفي المدعوم من الدولة، الذي يعمل بقوة لإبعاد الإسلاميين عن المشاركة في الفعاليات السياسية عن طريق تحريم الانتخابات والمشاركة فيها باعتبارها منافسة لـ”ولي الأمر”، وهو أمر غير جائز في الفهم السلفي للإسلام وأحكامه.
نجحت حملات السلفيين في تأثيم الإخوان وتحميلهم مسؤولية هدم بعض الدول العربية من جراء تداعيات الربيع العربي، فرغم تطرف الموقف السلفي ورؤيته المنعدمة للأحداث، فإنه أثر بشدة على اتجاهات الإسلاميين ومعهم قطاعات عديدة من الجزائريين غير المنخرطين تنظيميًا في الحركات الدينية بشكل عام، ولكنهم بجانب اليأس من التغيير لجأوا واستراحوا لهذه الفتاوى التي تريدهم “دراويش” في الحياة، لا ناقة لهم ولاجمل.
بالمقابل لم تنجح محاولات البعض بالالتحاف بالسلطة والسير في ركابها، ولم يجد زعماء الإسلاميين السابقين الذين أنشأوا أحزابًا جديدة موالية للنظام أي دعم سياسي أو جماهيري، بعدما تخلت عن عقيدتها السياسية والفكرية ولم تؤسس في المقابل إستراتيجية سياسية بديلة تجعلها قبلة للجماهير، لذا فشلت في إحداث أدنى تأثير في الحياة السياسية الجزائرية، وعلى رأس هؤلاء عمار غول القيادي السابق بحركة مجتمع السلم الذي انشق عن الإخوان ليؤسس حزب “تجمع أمل الجزائر” أحد الأحزاب الداعمة بقوة للرئيس بوتفليقة الذي انحصر تأثيره السياسي في تأييد السلطة مقابل تحصيل مكتسبات لم ترق حتى الآن إلى المستوى الذي كان يتوقعه.
الإسلاميون لن تقوم لهم قائمة، إلا إذا أقدموا على تغييرات ضخمة في البناء التأسيسي والأفكار مرورًا بالأهداف العامة
وكذلك لم تنجح محاولات الالتفاف على المفاهيم الليبرالية ومحاولة الظهور بشكل جديد، كما فعل عبد الرازق مقري الذي أجرى حوارًا قبل شهرين مع أحد المواقع الدولية، وقال إن “حمس” لا تفكر بالطريقة القديمة، بل انتزعت وسام الوطنية بجدارة واستحقاق وبمعزل عن التيارات الإسلامية الأخرى.
لم يكتف مقري خلال محاولته إنقاذ رقبة الإخوان بتورط التيارات الإسلامية الأخرى التي لا تزال بحسب سياق تصريحاته غارقة في الحشد لمرجعيتها الأيدلوجية لحسابها الشخصي على حساب المسؤولية الوطنية، ولكنه أوقع نفسه في فخ التناقض من وجهة نظر من يخاطبهم، بعدما أشار إلى عدم وجود ما يمنع المزج بين الدين والسياسة، دون توضيح معالم ما يقول كقضية كبرى لا يمكن تناولها بهذا التبسيط، وشرح فلسفته على جميع المستويات.
فكما الليبرالية لديها تنظير وأطر وشروحات تسير عليها معظم بلدان العالم المتقدم في السياسة والحريات والحقوق والاقتصاد والأنظمة السياسية وتطبيقاتها، يجب أن تكون الفكرة الإسلامية الحديثة واضحة كذلك، ولماذا تناسب العصر بالنسبة للبلدان الإسلامية عن غيرها من الأفكار المستوردة من الخارج.
يمكن القول إجمالًا، بجانب التقارير الأمنية والسيادية التي أكدت عدم قدرة الإسلاميين على التأثير في الشارع السياسي والاجتماعي الجزائري، سواء في وجود الرئيس بوتفليقة أم حال تركه الحكم، أن الإسلاميين لن تقوم لهم قائمة إلا إذا أقدموا على تغييرات ضخمة في البناء التأسيسي والأفكار مرورًا بالأهداف العامة، وتبني خطاب جامع قائم على اقتناع وفهم ويتعلق بالقومية الوطنية على حساب المصالح الضيقة للإسلاميين، وتوطين فكر اقتصادي يناسب الفكرة التي يتم الترويج لها بما يجد حلولًا واقعية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يأن منها المجتمع الجزائري، وإلا فنهاية الإسلام السياسي في الجزائر والبلدان العربية والإسلامية كافة على الأبواب، شعبيًا وجماهيرًيا، وحتى من داخل التنظيمات نفسها قبل وأدها من الأنظمة وأجهزتها .