ترجمة وتحرير: نون بوسىت
كان الخميس الماضي في إيران كغيره من الأيام، حين أعلنت ساعة الذروة المسائية عن قدوم نهاية الأسبوع، ليتدفق الإيرانيون، قادمين من كل حدب وصوب، على الطرقات المخصصة للمشاة، إما متجهين إلى منازلهم أو قاصدين أحد المطاعم. وعلى جانب الطريق، كان شاب يرتدي قبعة عليها صورة أحد فرق البيسبول، وهو جالس على كرسي متحرك، يغني أغنية “شخص مثلك” للمغنية “أديل”، بينما كانت أخته تحرك أناملها على البيانو.
في الأثناء، قال أحد المارة لصديقه: “لا أفهم كلمات الأغنية، ولكنها حقا رائعة”. ومن ثم، مرّ من أمامهما رجل يحمل خبزا طازجا، وفي آخر إحدى الطرقات الجانبية، جلس مراهقان يدخنان السجائر بينما كانت ضحكاتهما تملأ المكان. لقد كان من السهل نسيان أن هؤلاء الذين يشقون طريقهم عائدين إلى منازلهم، قد تغيرت حياتهم بقرار خارجي تم اتخاذه من على بعد آلاف الأميال. فقبل ساعات قليلة فقط، قرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي يضم إيران وست قوى عظمى أخرى.
في الواقع، يمكن أن تكون الحياة في إيران أشبه بركوب الأفعوانية، حيث أن الأشخاص العاديين قليلا ما يظلون ساكنين في الوقت الذي يرسم فيه قادتهم، وفي بعض الأحيان قادة الدول الغربية، المنحى الذي ستتخذه الأوضاع، وهم نادرا ما يبقون تحت السيطرة. في هذا الصدد، قال علي أكبري، وهو طالب في إحدى كليات التقنية ويبلغ من العمر 33 سنة، وتغطي وجهه لحية كثيفة: “لا أحد يستمع إلينا أبدا. إن هذا هو الوضع وعلينا التعايش معه”.
يحاول المواطنون البسطاء المضي قدما في حياتهم. أما فيما يتعلق بالأشخاص الذين كانوا يأملون في انفتاح اقتصادي عقب الاتفاق النووي، فعليهم أن يعيدوا حساباتهم، وذلك على الأقل خلال الفترة القادمة
بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، أُلقي بالإيرانيين في دوامة أخرى، حيث كان العديد منهم يعلقون آمالا كبيرة على أن يمنحهم هذا الاتفاق راحة البال ويُعجّل بازدهار البلاد اقتصاديا. ولكن، بات الإيرانيون يواجهون في الوقت الحاضر مجموعة جديدة من العقوبات التي تلوح في الأفق، في ظل وضع اقتصادي ينخره الفساد وسوء الإدارة.
من جانبهم، يحاول المواطنون البسطاء المضي قدما في حياتهم. أما فيما يتعلق بالأشخاص الذين كانوا يأملون في انفتاح اقتصادي عقب الاتفاق النووي، فعليهم أن يعيدوا حساباتهم، وذلك على الأقل خلال الفترة القادمة. في الوقت ذاته، يحاول الإيرانيون، الذين شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة، بالإضافة إلى رجال الأعمال، التكيف مع الواقع الجديد.
على صعيد آخر، كانت المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان، نسرين ستوده، تقف في قاعة إحدى المحاكم في المدينة الصحراوية، كاشان، أثناء دفاعها عن امرأة تظاهرت ضد الحجاب القسري. والجدير بالذكر أن ستوده قد زجّ بها في السجن عدة مرات سابقا. أما فيما يتعلق بالاتفاق النووي، فقالت ستوده إن إلغاءه مثّل فرصة ثمينة بالنسبة لمن ينتقدون الحكومة دون هوادة.
في اتصال هاتفي معها، أفادت ستوده “أن الخطوة التي أقدم عليها ترامب عززت موقف السياسيين المتشددين، الذين سيبدؤون في إثارة المتاعب داخل البلاد. وخلال الفترة القادمة، سنشهد انتهاكات بالجملة في حق النشطاء المدنيين ونشطاء حقوق الإنسان”. وبالعودة إلى طهران، اتهم رجل الأعمال الإيراني، حميد رضا فرجي، البالغ من العمر 35 سنة، هؤلاء المتشددين بتردي الأوضاع. والجدير بالذكر أن فرجي تمكّن من افتتاح متجر للعطور في أعقاب التوقيع على الاتفاق النووي في سنة 2015.
في البداية، كانت التوقعات تشير إلى أن هناك نموا تجاريا في الأفق، خاصة وأن الحكومة وعدت الإيرانيين بتحقيق مداخيل كبيرة بفضل قدوم العديد من المستثمرين الأجانب. في هذا الإطار، استطرد فرجي قائلا: “كنت أتوقع كسب المزيد من الأموال من خلال بيع الكثير من العطور”. في المقابل، كان فرجي يقضي أيامه في المتجر دون أن يحقق أرباحا تذكر. وكان يقدم تخفيضات كبيرة للعدد القليل من الزبائن الذين كانوا يقصدونه لشراء العطور. وفي نهاية المطاف، أغلق فرجي متجره نهائيا كي لا يتكبّد المزيد من الخسائر.
أشار الطالب علي أكبري إلى أن ردة فعله الأولى على هذه المستجدات كانت: “سترتفع الأسعار مرة أخرى، ما يعني المزيد من البؤس”.
في السياق ذاته، أوضح فرجي أن “المتشددين في الولايات المتحدة وإيران بذلوا جهودهم الحثيثة لعرقلة الاتفاق النووي. أما الآن، فنحن نشهد على هذا الاتفاق وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة”. مع ذلك، بدت الأوضاع في إيران خلال هذا الأسبوع شبيهة بتلك التي عاشتها البلاد خلال الثورة الإسلامية في سنة 1979، وخلال سنوات الحرب الثمانية مع العراق، وتماما مثلما كان الحال أثناء الاحتجاجات الأخيرة ضد الحكومة، وخلال السنوات الطوال من العقوبات التي سلطت على طهران.
من جانبه، لم يتابع الطالب علي أكبري نشرة الأخبار التي أُعلن فيها عن قرار ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق النووي. وخلال يوم الأربعاء التالي، استيقظ أكبري كالعادة وانطلق إلى جامعته وجلس في مقعده ليستمع إلى المحاضرة. ومن ثم، أخبره أحد زملائه في الجامعة أن الرئيس الأمريكي ألقى في الليلة السابقة خطابا مهما، وأن البلاد ستسلط عليها العقوبات من جديد.
في هذا الصدد، أشار أكبري إلى أن ردة فعله الأولى على هذه المستجدات كانت: “سترتفع الأسعار مرة أخرى، ما يعني المزيد من البؤس”. في الأثناء، كانت سماعات الأذن البيضاء تتدلى من على كتفي أكبري، وهي تصدح بموسيقى الهيب هوب. وقد تابع أكبري حديثه قائلا: “أحب موسيقى الهيب هوب، فهي تمثل صوت الأشخاص المحبطين”.
في طهران، تمتلئ محطة المترو بالركاب تارة وتخلو منهم تارة أخرى. في الوقت ذاته، تتوقف الحافلة الوردية، القادمة من شارع شهید بهشتي، في ميدان صادقية، لتترجّل منها مجموعة من النساء المسنات. وبعد ذلك، تعود الحافلة أدراجها في رحلة روتينية، بيد أن شيئا من الغرابة كان يطغى على الأجواء هذه المرة.
كان هناك طبيبة تحمل أكياسا للتسوق، سألتني عما إذا كنت أستطيع توفير عمل لابنتها. وأضافت الطبيبة، التي تدعى مرزيه ميرزاي، قائلة: “لقد درست ابنتي الإدارة الصناعية وهي فطنة للغاية. ولكن، تمثّل عرض العمل الوحيد الذي حصلت عليه في وظيفة في صيدلية مقابل مليون تومان شهريا. فهل تعرف كم يُقدّر هذا المبلغ بالدولار؟” عندها، أجبتها: “حوالي 150 دولارا.” فسألتني الطبيبة: “حسنا، هل تقبل أن تعمل مقابل هذا المبلغ؟”، فأجبتها بالنفي.
شارك عدد قليل من الأشخاص من طهران في الاحتجاجات الأخيرة، التي اكتسحت البلاد في أكثر من 80 مدينة خلال كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني / يناير الماضي
في المقابل، رفض رجل آخر، يدعى أمير، الحديث عن قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بادئ الأمر. وقد كان أمير، الذي يبلغ من العمر 36 سنة، وهو أب لولدين، يجلس في كشك صغير يقع في مركز غلريز للتسوق، حيث كان يبيع قارورات المياه وقداحات الزيبو. وقد قال أمير: “إلى أي مدى وصل بنا البؤس حتى بات ترامب هذا يلعب دورا في حياتنا. وكم نحن بائسون لدرجة أن قادتنا يبحثون باستمرار عن افتعال الشجارات مع الجميع.” علاوة على ذلك، ألح الرجل عليّ أن أكتب ما يلي: “أريد أن أعيش حياة طبيعية. أمير من إيران يريد أن يحظى بحياة طبيعية”.
في الحقيقة، شارك عدد قليل من الأشخاص من طهران في الاحتجاجات الأخيرة، التي اكتسحت البلاد في أكثر من 80 مدينة خلال كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني / يناير الماضي. لكن، ظن معظم سكان المدن، الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، أن الاحتجاجات كانت بمثابة وسيلة للتعبير عن الإحباط والغضب أكثر من كونها حركة ذات هدف واضح. وبعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، صرحت سيدة تقطن في طهران، كانت قد شاركت في الاحتجاجات، أنها تكره ترامب، لكنها ذكرت أيضا أنها ستنزل إلى الشوارع في أقرب فرصة ممكنة.
محمد أميري، يبلغ من العمر 27 سنة، ويبيع نبات الصبار على أحد أرصفة الشوارع في طهران.
ذكرت شادي، البالغة من العمر 28 سنة، والتي تعمل مُدرسّة بيانو، أن “الناس يخشون في الوقت الراهن من انعدام الاستقرار ويفضلون التمسك بالأشياء الصغيرة التي يملكونها ولا يريدون المخاطرة بأي شيء. مع ذلك، أنا مستعدة للخروج مرة أخرى للاحتجاج”. تجدر الإشارة إلى أن شادي لم تفصح عن اسم عائلتها خوفا من التتبعات.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت شادي إلى أن البعض قد يعتبرها خائنة إذا ما خرجت للاحتجاج مجددا، لكنها، أكدت أن هذه الاتهامات هي آخر همها، وأوضحت قائلة: “إن شعاري لم يتغير: خبز، عمل، حرية”. وأضافت شادي: “لا أعتقد أن هذه المطالب لها علاقة بترامب أو بالوحدة الوطنية”. وفي سياق متصل، ألقى الكثيرون ممن خرجوا إلى الشوارع اللوم على ترامب وزعمائهم على حد السواء، بشأن البؤس الذي يعيشون فيه، على الرغم من أنه كان من الواضح من يقف وراء القضاء على الاتفاق النووي.
أما فاطمة، التي تبلغ من العمر 22 سنة، وتعمل في متجر لبيع أغطية الرأس، فقد قالت: “لقد جعلنا ترامب بؤساء”. ولم ترغب فاطمة في الإفصاح عن اسم عائلتها، وإنما اكتفت بالتبسّم عندما سُألت عن سبب رفضها. في الأثناء، دخلت امرأة برفقة ابنتيها المراهقتين إلى المتجر فترامى إلى مسامعها الحوار، وسرعان ما دخلت في نقاش مع رجل ما، وقالت: “الجميع يعمل على تدميرنا”. فأجابها الرجل:” لقد عايشنا الحرب، وبالتالي، لا يعد ما يحدث الآن أمرا عظيما”. عندها، أفادت المرأة أن “الأمر قد يبدو كذلك بالنسبة لك، إلا أنني أريد للبلاد أن تتقدم. وهل يجب أن تكون الحرب هي المعيار لتقييم خطورة الوضع؟”. وقد رأى البعض أن هناك حلا واحدا فقط، بيد أنه بدا مستبعدا في الوقت الحالي.
من جانبه، قال محمد حسين، البالغ من العمر 28 سنة، والذي كان يجلس وراء آلة الصرافة في أحد المقاهي: “يجب على قادتنا والقادة الأمريكيين أن يجلسوا على طاولة الحوار ويتناقشوا”. وفي الواقع، رفض محمد حسين أيضا الإفصاح عن اسم عائلته، خاصة بعد أن ظهر رئيسه في العمل، علي رضا، الذي لم يكن يريد ذكر اسمه. وقد أصر علي رضا على أن “لا أحد هنا يريد التحدث عن الاتفاق النووي”.
مع ذلك، ردّ محمد حسين ساخرا: “لقد تطرق شخصان لهذا الموضوع في الصباح”. وعلى بعد عدة شوارع، كان محمد أميري، البالغ من العمر 27 سنة، يقف على الرصيف يبيع الصبار. وكان أميري قد استمع إلى الأخبار في مذياع السيارة على الطريق من مدينة كرج إلى طهران، حيث عقّب على ما سمعه بأن هناك ما يكفي من اللوم لإلقائه على الجميع، “ولا أحد مضطهد في هذه القصة”.
حين سألته إحدى السيدات عن سعر نبتة صبار صغيرة للغاية، قام أميري بزراعته بنفسه، قال لها الشاب إن “الأمر استغرق مني سنة بأكملها كي تنمو”. وقد أخبرها أميري أن سعر النبتة لا يزيد عن الدولار الواحد، وأضاف قائلا: “يمكنك دفع 7000 تومان أو أخذها مجانا”، ولكن السيدة أكملت طريقها. وقد كان أميري يرتدي قميصا أصفر اللون لفرقة “بينك فلويد”، التي كان يستمع إليها منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره، حيث ذكر أن “آمالا عالية” هي أغنيته المفضلة، وأورد أنها “أغنية جميلة”. أما حين سألته عما إذا كانت لديه أمال عالية، فأجاب: “لا. آمالي ليست بالشيء الكثير”.
المصدر: نيويورك تايمز