الرياح دومًا لا تأتي بما تشتهي السفن، ففي الوقت الذي قرعت فيه السعودية طبول التأييد والدعم لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، واكتست منصات الإعلام السعودي برايات النصر والفرح لهذه الضربة التي تلقاها الخصم اللدود للمملكة في المنطقة، ربما تتلقى الرياض هي الأخرى صفعة مماثلة لا تقل أبدًا عن تلك التي تلقتها طهران.
الدخول إلى النادي النووي حلم طالما راود خيال السعوديين، اقترب خلال الفترة الماضية من التحول إلى واقع عملي، بعد أن كشفت الرياض النقاب عن أسماء الشركات الفائزة بالمناقصة الخاصة لبناء مفاعلين للطاقة النووية، والمقرر بدء العمل فيهما نهاية العام الحاليّ 2018.
موافقة واشنطن على هذه الخطوة كانت أبرز المعضلات التي ربما تواجه السعودية، وبينما كانت تسير الأمور – وفق ما نقله البعض – إلى تمرير الكونغرس الأمريكي هذا المشروع منتصف يونيو/حزيران المقبل أسوة بما حدث مع دولة الإمارات، غير أن قرار الانسحاب من الاتفاق الموقع مع إيران في 2015 قد يقلب الطاولة مجددًا، ويضع الحلم السعودي في امتلاك مفاعلات نووية على المحك.
حلم طال انتظاره
المفاعلان النوويان اللذان تنتوي المملكة تدشينهما مدرجان تحت إطار المشروع الوطني للطاقة الذرية الذي تهدف المملكة من خلاله بناء 16 مفاعلًا نوويًا على مدى الـ20 – 25 سنة القادمة، تحت إشراف مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، ويهدفان لتمكين المملكة من الاستفادة من الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية في تعزيز مصادر الطاقة الكهربائية.
تعاظم هذا الحلم في مخيلة حكام السعودية بعد نجاح طهران في إقناع العالم بتوقيع الاتفاق النووي في 2015، ومن ثم هرول ولي العهد محمد بن سلمان من أجل الدخول إلى العالم النووي في أقصر وقت، مستخدمًا في ذلك الأوراق التي يمتلكها كافة، ولعل هذا الملف كان على قائمة جدول أعماله خلال زيارته لواشنطن نهاية أبريل الماضي.
محاولة تصدير صورة ذهنية عن قوة وهيبة المملكة وتحسين صورتها دوليًا كانت الدافع الأبرز لهذه الخطوة، كون هذا المشروع يأتي كخطوة مطابقة للبرنامج النووي لإيران من جهة، وإشباع العطش المحلي في المملكة للطاقة من جهة أخرى.
الكونغرس حدد لمناقشة هذا الملف منتصف يونيو/حزيران المقبل للبت في موقف أمريكا تجاه الطلب السعودي بناء مفاعلات نووية، ليتم رفضها أو الموافقة عليها خلال 90 يومًا، في الوقت الذي ينقسم فيه برلمان أمريكا ما بين مؤيد ومعارض استنادًا إلى المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأمريكي.
الدخول إلى النادي النووي حلم يداعب ابن سلمان
تداعيات قرار ترامب
ألقى قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني بظلاله على مستقبل الاتفاق السعودي الأمريكي بشأن بناء مفاعلات نووية في المملكة، حيث من المتوقع أن يكون له تأثير واضح على موقف الكونغرس النهائي من الاتفاقية سواء برفضها بصورة كاملة أم وضع العديد من العراقيل التي تحول دون امتلاك الرياض للطاقة النووية بصورة كاملة.
تشن زاك كين مدير برنامج الشرق الأوسط لمنع انتشار الأسلحة النووية في مركز جيمس مارتن لدراسات منع انتشار الأسلحة النووية في واشنطن في مقال له بمجلة “ناشيونال انترست” أشار إلى أن قرار ترامب الذي وصفه بـ”المتهور” ربما يكون فرصة ذهبية لتعزيز المفاوضات مع السعودية ظاهريًا، غير أن المضمون والتفاصيل شيء آخر.
كين تطرق في مقاله إلى أن نقطة الخلاف بين واشنطن والرياض تتمحور حول ما إذا كان السعوديون سيوافقون على التخلي عن تقنيات الاستخدام المزدوج لمادة اليورانيوم التي يمكن استخدامها لإنتاج الطاقة النووية أو الأسلحة النووية، وبالنظر إلى ادعاء إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق الإيراني على أساس مخاوف عدم الانتشار، فإن لديها الآن نفوذًا لتطبيق السياسة نفسها على الرياض.
لضمان التوصل إلى اتفاقية مع الولايات المتحدة يمررها البرلمان، قد يتفق السعوديون على وقف اختياري للتخصيب وإعادة المعالجة
الإدارة الأمريكية الحاليّة تأمل التوصل إلى اتفاق نهائي مع المملكة بشأن هذا الملف، كونه يمثل أهمية لواشنطن في الحصول على المزيد من الاستثمارات وفتح الباب أمام عدد من الشركات الأمريكية المتعثرة على رأسها شركة Westinghouse ما قد ينعكس لاحقًا على الاقتصاد الأمريكي.
التخوف الذي ساقته إدارة ترامب لتبرير انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني ربما يمثل المعضلة الأكبر أمام تمرير الاتفاق مع السعودية، إذ ليس من المنطقي أن ترفض أمريكا اتفاقًا موقع عليه من كبريات الدول العظمى وتقبل باتفاقية أخرى محل شك من الجميع، خاصة بعد الاتهامات التي وجهت للمملكة بشأن حربها في اليمن التي خلفت المئات من القتلى والمصابين وساقت الشعب اليمني إلى كوارث إنسانية غير مسبوقة في تاريخ البلد الذي كان يلقب بـ”اليمن السعيد”.
الأمر هنا يتوقف على مدى موافقة السعوديين على التخلي عن تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود المستنفد، وهما تكنولوجيتان للاستخدام المزدوج يمكن استخدامها لإنتاج وقود يستخدم في المفاعلات النووية وإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب أو البلوتونيوم اللازم للأسلحة النووية.
الولايات المتحدة تضغط لأجل قبول السعودية بالنموذج الإماراتي، حيث تعهدت الإمارات خلال الاتفاق على بناء مفاعلها النووي قبل عقد تقريبًا بعدم الانخراط في أي أنشطة تخصيب أو إعادة معالجة سواء كانت المواد أو التسهيلات مقدمة من الولايات المتحدة أم غيرها، وذلك وفق المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأمريكي (مادة في قانون الطاقة الذرية الأمريكي تفرض قيودًا على تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود المستهلك وكلاهما يمكن استخدامهما في إنتاج قنابل نووية).
السعودية وإبان فترة ولاية باراك أوباما رفضت الشروط الأمريكية للموافقة على تدشين مفاعلات نووية، ما أوصل المفاوضات حينها إلى طريق مسدود، غير أنه مع قدوم ترامب الذي تربطه علاقات جيدة مع ولي العهد السعودي، بات الحلم أقرب للواقع، خاصة بعد إعادة طرحه مرة أخرى على موائد النقاش داخل الكونغرس.
تداعيات سلبية لقرار ترامب بشأن إيران على الاتفاق النووي مع السعودية
ماذا بعد؟
لضمان التوصل إلى اتفاقية مع الولايات المتحدة يمررها البرلمان، قد يتفق السعوديون على وقف اختياري للتخصيب وإعادة المعالجة، ولكن حتى لا تتخلف كثيرًا عن قدرات طهران، فمن المرجح أن تربط الرياض تعهداتها بأنشطة تخصيب إيران، حسبما توقع مدير برنامج الشرق الأوسط لمنع انتشار الأسلحة النووية في مركز جيمس مارتن لدراسات منع انتشار الأسلحة النووية في واشنطن.
في مارس الماضي حذر ولي العهد السعودي من امتلاك إيران قنبلة نووية، لافتًا إلى أنه حال حدوث ذلك فسوف تتبعها المملكة في أقرب وقت ممكن، وهو تحذير أثار قلق الجهات السياسية في أمريكا، ما دفعها للحيلولة دون حصول أي من كلتا الدولتين على هذه التكنولوجيا، فكان قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ويبقى مصير الاتفاق مع السعودية مجهولًا.
التخوف الذي ساقته إدارة ترامب لتبرير انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني ربما يمثل المعضلة الأكبر أمام تمرير الاتفاق مع السعودية.
بعض المحللين في البيت الأبيض ذهبوا إلى أن الاتفاق مع إيران جعل من الصعوبة إلزام السعودية بقانون 123، ومن ثم ليس أمام الأمريكان سوى التعاطي مع المطلب السعودي لدخول عصر الطاقة الذرية، لكن وفق ضوابط وضمانات لا تتعارض مع سياسة مكافحة الانتشار النووي، بحسب كريستوفر فورد مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن الدولي في تصريحاته لـ”واشنطن بوست“، لكن وبعد التخلص من هذا الضغط ربما يعاد النظر في المطلب السعودي مجددًا.
ومع اقتراب موعد البت في تلك الاتفاقية، شهر تقريبًا، باتت إدارة ترامب أمام خيار شائك، ما بين الرغبة في تمرير الاتفاق من أجل الحصول على حزمة من المكاسب الاقتصادية قد تعيد التوازن إلى عدد من الشركات الأمريكية الكبرى التي تعاني من تراجع خلال السنوات الأخيرة، والتخلي عن مرتكزاتها الأساسية في سياساتها النووية القائمة منذ 50 عامًا التي تسعى إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية.