في إطار متابعة “نون بوست” لاستكشاف تاريخ الممالك التي سادت في إفريقيا قبل وصول الاستعمار الأوروبي، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ننتقل هذه المرة إلى جنوب شرق القارة، حيث نشأت مملكة موتابا التي كانت تعتبر من أبرز القوى الاقتصادية والعسكرية في المنطقة.
برزت مملكة موتابا كقوة تجارية عظمى، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وسيطرتها على موارد طبيعية غنية، ولم تكن المملكة مجرد كيان سياسي قوي، بل كانت حضارة مزدهرة تركت أثراً عميقاً في تاريخ إفريقيا.
في هذا الجزء من ملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار”، سنسلط الضوء على نشأة المملكة، دورها الاقتصادي والسياسي، والتحديات التي واجهتها حتى سقوطها.
مملكة موتابا
في القرن الحادي عشر الميلادي تأسست مملكة “زيمبابوي” على يد شعب الشونا في وسط جنوب أفريقيا واستمرت حتى القرن الخامس عشر، وكانت تقع في المنطقة التي تشمل اليوم زيمبابوي وأجزاء من بوتسوانا وموزمبيق، واشتهرت بمعمارها الحجري الضخم، وأبرز معالمها هو المجمع الحجري الهائل الذي يُعرف بنفس الاسم “زيمبابوي العظمى”.
سيطرت مملكة زيمبابوي العظمى على مناطق واسعة في جنوب القارة الإفريقية بفضل مجتمع قوي ومنظم، واشتهرت بتجارة الذهب والنحاس والعاج مع أجزاء أخرى من أفريقيا والشرق الأوسط.
مع بداية القرن الخامس عشر أصبحت المملكة عرضة للجفاف والمجاعة وأسراب الجراد والأمراض، ما دفع شعب الشونا إلى الهجرة شمالًا بحثا عن الغذاء والملح، كان من بينهم أمير محارب يُدعى نياتسيمبا موتوتا.
أسس موتوتا جماعة تحت إمرته سُمّيت باسم “موتابا” وحمل لقب موينيموتابا الذي يعني “سيد الأراضي المنهوبة”، ليبدأ سياسته التوسعية ويؤسس إمبراطورية شاسعة ومتكاملة، امتدت من وادي زامبيزي إلى الأراضي المنخفضة في موزمبيق ونحو أطراف صحراء كالاهاري، أي ما يعرف الآن بأنغولا وزامبيا وزمبابوي وجزء من موزامبيق.
وسّعت الاكتشافات الجديدة للملح نفوذ “موتابا” وزادت من ثروتها، الأمر الذي دفع أميرها إلى التوسع في أراضي زيمبابوي مستغلًا ضعفها فخاض ضدّها معارك كثيرة تمكن على إثرها من بسط سيطرته على مناطق واسعة في جنوب القارة السمراء.
نجحت إمبراطورية “موتابا” في توحيد عدد من الشعوب المختلفة في جنوب إفريقيا، من خلال بناء جيوش قوية ومدربة تدريبًا جيدًا وتشجيع الدول المجاورة على الانضمام طواعية أو على الأقل ممارسة بعض أشكال الهيمنة عليها. وعرض العضوية في المجلس العظيم للإمبراطورية لأي شخص ينضم دون مقاومة.
كان حكام إمبراطورية موتابا يحملون اللقب الملكي “مويني موتابا” وهو لقب كان يطلق على الملك أو الحاكم الأعلى للإمبراطورية، ويعني هذا اللقب “الرب” أو “الملك”، ويشير إلى السلطة السياسية والدينية التي تمتع بها الحكام في هذه الإمبراطورية الكبيرة.
وكان الحكام يرتدون أو يحملون شارة منصبهم وهي الفأس والرماح المصنوعة من الذهب والعاج، ويعيشون في مجمع مغلق به مبان منفصلة للملكة ومجموعة أخرى للخدم الملكيين.
إضافة إلى مجموعة تتكون عادةً من الذكور الذين تقل أعمارهم عن 20 عامًا، الذين ينتمون إلى عائلات الزعماء القبليين الخاضعين، وكان وجودهم يضمن الامتثال لحكم موتابا، وعندما يبلغ هؤلاء الذكور الشباب السن المناسب ليصبحوا محاربين، كانوا يُرسلون إلى ديارهم ويُمنحون قطعًا من الأرض أو مناطق خاصة بهم ليحكموها من أجل ضمان ولائهم في المستقبل.
اقتصاد “موتابا”
كانت المملكة تتمتع باقتصاد متنوع وقوي، يعتمد بشكل رئيسي على الموارد الطبيعية من الزراعة إلى التجارة البحرية والصناعة الحرفية، حيث زاد الحكام ثروة البلاد من خلال فرض الضرائب والتجارة في أماكن بعيدة، وأنشأوا أسواقًا على طول نهر زامبيزي، كما تاجروا عبر المحيط الهندي، إلى جانب تجارتهم مع مناطق بعيدة مثل الصين والهند والشرق الأوسط والشرق الأدنى وشرق وغرب إفريقيا، ومع مناطق إقليمية أخرى.
واعتمد اقتصاد المملكة بشكل كبير على تجارة الملح في الشمال إضافة إلى النحاس والعاج، كما ازدهرت أيضًا صناعة الفخار والحدادة، وشملت السلع التجارية الأخرى مجموعة متنوعة من الخرز الزجاجي والأسلاك النحاسية والأصداف البحرية والأسلاك الحديدية ورؤوس الفؤوس والأزاميل، وكانت السلع المحلية تشمل الأجراس الحديدية والأسلاك الذهبية والخرز وأطباق الصابون وغيرها من الأشياء.
كما كان فن صناعة النسيج شائعًا في البلاد، إذ كانت موتابا تزرع القطن، وتنسج قماشها الخاص والمعروف في اللغة المحلية باسم نجو، أو ماشيرا، وكان القماش من السلع المصدرة الراسخة جدًا في هضبة زيمبابوي، كما كانت الماشية مؤشرًا مهمًا للثروة ووسيلة للحفاظ على الحياة والبقاء بالإضافة إلى كونها مفيدة كسلع.
أما أشهر التجارات كانت تجارة الذهب، الذي مثّل المصدر الرئيسي للدخل في موتابا، وكان يتم بيع وتجارة الذهب دوليًا عن طريق التصدير عبر مدينة سوفالا على ساحل إفريقيا الجنوب شرقي والمطل على المحيط الهندي والموانئ البرتغالية لاحقًا.
وكانت المملكة قادرة على استخراج الذهب من قيعان الأنهار والجداول المجاورة، كما أجبروا الناس في المناطق المسيطرة عليها، على استخراجه، وكانت مواقع مناجم الذهب سرية لا يعرفها جميع سكان البلاد، ومن يدلي بأي معلومات عنها يُعاقب بالإعدام.
وبفضل مواردها المحلية من الذهب والعاج، تاجرت المملكة مع التجار المسلمين على ساحل شرق إفريقيا ثم البرتغاليين خلال القرن الـ16 الميلادي، إلا أن ذلك كان سببًا في تنامي الأطماع الأجنبية وتوافد المستعمرين على البلاد، وخاصة البرتغاليين الذين أقاموا محطات تجارية وحاولوا الاستيلاء على خزانات الذهب حتى يتمكنوا من الهيمنة على التجارة بين إفريقيا والهند.
وصول البرتغاليين
انتشرت أخبار ثروة إمبراطورية موتابا وتجارتها المزدهرة مع الهند إلى مسامع البرتغاليين، مما دفعهم لتوجيه أساطيلهم نحو هذه الأراضي بهدف السيطرة على التجارة عبر المحيط الهندي واحتكار ثروات البلاد، بالإضافة إلى نشر المسيحية.
في عام 1561، وصل أحد المبشرين البرتغاليين إلى بلاط موينيموتابا وبدأ بنشر المسيحية، لكن هذا التحرك لم يلق قبولاً من التجار المسلمين في العاصمة، الذين حثوا الملك على قتل المبشر، مما وفر للبرتغاليين الذريعة التي احتاجوها للاستيلاء على مناجم الذهب والسيطرة على طرق العاج.
أقام البرتغاليون محطات تجارية وتمكنوا من الهيمنة على التجارة بين إفريقيا والهند، ونجحوا في خططهم وحصلوا على امتيازات لاستغلال معادن الإمبراطورية عبر الوسائل السياسية والخداع والحيلة.
في البداية، دخل حكام المملكة في تحالفات مع البرتغاليين لحماية مصالحهم والحصول على المساعدة للتصدي لمضايقات الدول المجاورة، لكن فيما بعد تأزمت العلاقة بعد أن علموا بأهداف البرتغاليين ورغبتهم في السيطرة على بلادهم.
اضطر الأهالي والحكام للمقاومة، فاختار البرتغاليون بداية سنة 1633 سياسة أكثر عدوانية للسيطرة على موارد المنطقة والقضاء على منافسيهم الكبار، فهاجموا مملكة موتابا، التي أسهمت الحروب الأهلية في إضعافها بسبب الصراعات بين الملك الجديد وبعض حكام الأقاليم التابعة
سيطر البرتغاليون على أغلب مناطق المملكة وخلعوا الإمبراطور وأجبروا خليفته على منحهم امتيازات تجارية وتعدينية واسعة النطاق، لكن سرعان ما فقد البرتغاليون اهتمامهم بالمنطقة عندما تبين أن الذهب الذي كانوا يأملون في الحصول عليه أقل كثيرًا من الكمية التي تم العثور عليها في أماكن أخرى مثل غرب إفريقيا أو الإنكا في بيرو.
تجدد الاهتمام الغربي بمناطق المملكة، وهذه المرة كان على يد البريطانيين، الذين وجهوا تجارهم وقاموا بشراء والسيطرة على ما تبقى من ممتلكات موتابا.
وبحلول أوائل القرن الـ20 الميلادي، كانت المنطقة تحت سيطرة شركة جنوب إفريقيا البريطانية (بي إس إيه سي) التي تأسست سنة 1889، بموجب معاهدات مشكوك فيه مع الزعماء المحليين للمنطقة، وفي سنة 1911 تم تشكيل دولتين جديدتين وهما روديسيا الشمالية والجنوبية، أصبحت الأولى دولة زامبيا الحديثة في سنة 1964، بينما أصبحت الثانية سنة 1980 دولة زيمبابوي.