يعاني الاقتصاد السوداني منذ سنوات من ضائقة مالية شديدة جعلت منه “فريسة سهلة” لدول التحالف العربي، خاصة السعودية والإمارات، حيث لجأت الدولتان إلى اللعب على الوتر الحساس وممارسة أساليب الضغط على الحكومة السودانية للخروج بنتائج تلائم موقفهما السياسي تجاه حصار قطر، والعسكري تجاه الحرب في اليمن.
ولم تلبث الحكومة السودانية إعلان موقفها بشأن سحب قواتها من اليمن حتى انهالت عليها العروض الاقتصادية المفاجئة من الرياض وأبو ظبي، بعد أيام قليلة من الحديث عن تقييم تجربة المشاركة في التحالف العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، لتصبح الخرطوم في مرمى الاهتمام الخليجي الكبير من جديد لأسباب تثير تساؤلات عما تخفيه الدولتان وراء الأيدي التي تمدها للسودان بعد سنوات من القطيعة.
تقارب مفاجئ
تمثل التقارب الخليجي المفاجئ للخرطوم في الأيام الأخيرة في أحد أكثر نقاط الضعف التي تؤرق الجانب السوداني، فعلى نحو مفاجئ، تداولت الأوساط السودانية أخبارًا عن زيارة غير معلنة لوفد سوداني رفيع إلى السعودية يرأسه وزير النفط والغاز عبد الرحمن عثمان ووزير الدولة بالمالية الدكتور عبد الرحمن ضرار ومحافظ بنك السودان المركزي حازم عبد القادر، وذكرت وسائل إعلام محلية أن الزيارة جاءت بناءً على دعوة من الجانب السعودي لبحث التعاون النفطي بين البلدين.
وعقب عودة الوزير السوداني من الرياض، أعلنت الحكومة السودانية أنها توصلت مع السعودية إلى مسودة اتفاق للحصول على المواد البترولية بإجراءات سهلة الدفع لخمس سنوات مقبلة، ومن المقرر إتمام الاتفاق في الأيام المقبلة بعد استكمال الجوانب المالية للاتفاق، بحسب تصريحات مصدر في القصر الرئاسي السوداني لوكالة الأنباء السودانية.
كلام الوزير السوداني لم يفصح عن شروط الاتفاق طويل الأمد، لكن الشيء الملاحظ بقوة أن الأخبار التي جاءت مؤخرًا في الصحف المحلية والسعودية والإماراتية خلت تمامًا هذه المرة من عبارات المجاملات
في سياق ذلك، قال الوزيرعبد الرحمن عثمان في تصريحات صحفية عقب اجتماع ترأسه الرئيس السوداني عمر البشير، يوم الإثنين الماضي، لبحث موقف إمداد النفط بالبلاد إن الاتفاق النفطي مع السعودية يقضي بتزويدها بنحو 1.8 مليون طن من النفط سنويًا، في وقت يعيش فيه السودان أزمة وقود حادة تضرب البلاد منذ أشهر؛ ما يفسر الضغوط الممارسة على الجانب السوداني للرضوخ للشروط السعودية.
كلام الوزير السوداني لم يفصح عن شروط الاتفاق طويل الأمد، لكن الشيء الملاحظ بقوة أن الأخبار التي جاءت مؤخرًا في الصحف المحلية والسعودية والإماراتية خلت تمامًا هذه المرة من عبارات المجاملات التي كانت تأتي في كل خبر عن زيارات الوفود السودانية إلى الدول العربية، فاختفت عبارات: توطيد الصداقة بين البلدين وتقوية أواصر العلاقات بين الشعبين، وحل محلها عبارات أخرى غير معتادة.
أما الإمارات، وخلافًا للعادة منذ زمن طويل، فُقد أعلن، منذ أيام قليلة، وصول وفد إماراتي رفيع إلى السودان، تضاربت بشأن أسبابه الأنباء، إذ أرجع مصدران مطلعان لوكالة لوكالة “سبوتنيك”، أسباب الزيارة المفاجئة إلى إجراء مباحثات مع وزارتي الخارجية والدفاع السودانية، ولم يوضح المصدر طبيعة المباحثات.
بينما أرجع مسؤول رفيع بوزارة الخارجية السودانية سر الزيارة التي قام بها الوفد الإماراتي برئاسة مساعد وزير الخارجية الإماراتي للشؤون الاقتصادية محمد شرف، إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين البلدين، ولم يذكر بيان وزارة الخارجية موعد وصول المسؤول الإماراتي أو مدة الزيارة.
المساعي السعودية والإماراتية لنجدة البشير ما هي إلا وسيلة واضحة للضغط على أهل السلطة في الخرطوم
الضغط الاقتصادي لأهداف سياسية وعسكرية
التحرك الإماراتي السعودي غير المعتاد جاء ردًا على الحكومة السودانية التي أعلنت إعادة النظر في موقفها من استمرار المشاركة في حرب اليمن، وذلك بعد أن تصاعدت دعوات من بعض الأحزاب وبرلمانيين السودانيين، مطالبةً بسحب القوات من اليمن، في ظل تطاول أمد الحرب وكلفتها الإنسانية الباهظة وخسائرها الفادحة على الصعد كافة بلا طائل.
وكان وزير الدولة بوزارة الدفاع السودانية علي سالم، صرح قبل أيام أن وزارته تجري دراسة لمراجعة وتقييم مشاركة القوات السودانية مع التحالف العربي في حرب اليمن الذي تدعمه الإمارات وتشارك فيه، كما نقلت صحيفة أخبار اليوم السودانية عن مصادر وصفتها بالمطلعة بروز اتجاه قوي لدى قيادة الدولة لسحب القوات المسلحة السودانية من التحالف العربي.
ويأتي تلويح الجانب السوداني بالانسحاب هذه المرة بعد تصاعد الغضب السوداني على خلفية التجاهل الخليجي للسودان، منذ فبراير/شباط الماضي، عندما دخلت البلاد في أزمة اقتصادية أدت إلى ارتفاع الأسعار وانهيار العملة السودانية أمام الدولار، حيث تجاوز حاجز الـ40 جنيهًا مقابل الدولار، لأول مرة في تاريخه.
وعلت في الأيام الأخيرة أصوات ناقدة لقلة الدعم المالي الخليجي للخرطوم، وأشعل بعض البرلمانيين والصحفيين والكتاب المقربين من الحكومة الشرارة الأولى، حين وجهوا انتقادات للسعودية بدعوى تقاعسها عن دعم الخرطوم التي تعاني من أزمة خانقة في المواد البترولية، أصابت البلاد بالشلل منذ مارس/آذار الماضي.
وأشعل بعض الصحفيين والكتاب المقربين من الحكومة الشراراة الأولى من خلال توجيه انتقادات للسعودية بدعوى “تجاهل” دعم الخرطوم، وتبع ذلك البرلمان السوداني، وطالب بعض نوابه بسحب الجيش من اليمن، مما دفع الحكومة إلى الإدلاء بتصريحات عن سحب القوات السودانية من اليمن.
يمكن النظر إلى الأخبار التي جاءت مؤخرًا عن المساعي السعودية والإماراتية لنجدة البشير على أنها لا تعني مساعٍ من أجل السودان بقدر ما هي وسيلة واضحة للضغط على أهل السلطة في الخرطوم
هذه التصريحات، بحسب الصحفي ماجد محمد، كانت الإشارة التي جعلت الحلفاء الخليجيون يصوبون اهتمامهم نحو الخرطوم، لا سيما أنهما من أغنى الدول النفطية، فكيف لحليفهما الأساسي في حرب اليمن، يعاني من نقص في المواد النفطية، مضيفًا: “كانت الرسالة واضحة لهذه الدول باعتبار أن ذلك يعد تغييرًا في موقف السودان تجاه حرب اليمن وتأكيده الدائم أن قواته باقية”.
ويعيد ذلك الأذهان إلى توقيت سيئ حامت فيه الشكوك حول دور السعودية في تأجيل رفع الحظر الاقتصادي على السودان، كما كان لها دور كبير في التوسط لرفع العقوبات التي امتدت ثمانية سنوات، مكافأةً للسودان على دوره في حرب اليمن، ورغم عدم وجود تأكيدات، فإن الدور السعودي يبدو حاضرًا في الضغط على البشير الذي من المؤكد أنه ناقش القرار الأمريكي في أثناء الزيارة الأخيرة للرياض.
ويرى المتابعون أن الأمر الذي سرع من وتيرة الحراك الإماراتي السعودي نحو الخرطوم، استمرار حرب اليمن لأكثر من ثلاث سنوات وغياب القوات السودانية سيكون نكسة كبرى للتحالف العربي، وربما يخسر التحالف بسببها حتى الجنوب اليمني إذا انسحبت القوات السودانية.
ويمكن النظر إلى الأخبار التي جاءت مؤخرًا عن المساعي السعودية والإماراتية لنجدة البشير على أنها لا تعني مساعٍ من أجل السودان بقدر ما هي وسيلة واضحة للضغط على أهل السلطة في الخرطوم لإبقاء القوات السودانية في اليمن وإضافة المزيد من الضباط والجنود السودانيين متى استدعت الضرورة.
تزايد ظهور قطر في الساحة السودانية لفت انتباه أبو ظبي والرياض إلى إمكانية أن تتطور علاقات الدوحة مع الخرطوم
التقارب السوداني مع قطر مصدر قلق
في كل الأحوال لا تريد السعودية والإمارات أن يسحب الجيش السوداني قواته الموجودة في أرض اليمن خاصة في هذا التوقيت، ويرى مراقبون أن هذا الموقف يقف وراءه عدد من الدوافع التي تجعل قادة السعودية والإمارات ينتبهون إلى السودان أكثر، خاصة في ضوء علاقات سودانية جيدة مع دول إقليمية (تركيا وقطر وإيران) قد تسهم في تحسين وضعها الاقتصادي دون الحاجة إلى أموال الخليج.
وبالنظر إلى العلاقات السودانية بالدول الثلاثة، نجد أنها أحسن حالاً مقارنة بعلاقات الرياض وأبو ظبي بالدوحة وأنقرة وطهران، إذ شهدت علاقات السودان مع كل من قطر وتركيا في الفترة الأخيرة تطورًا في الجانب الاقتصادي، فقد وصلت قيمة استثمارات البلدين في الآونة الأخيرة في السودان إلى مليارات الدولارات ولا يزال الرقم في تصاعد.
يرى بعض المحللين السياسيين أن تزايد ظهور قطر في الساحة السودانية، ربما لفت انتباه الدولتين إلى إمكانية أن تتطور علاقات الدوحة والخرطوم أكثر مما هي عليه الآن
وأغضب وقوف السودان الحيادي على مسافات متساوية بين أطراف الأزمة الخليجية دول الحصار التي تهاجم قطر لدعمها لنظام الإخوان المُسلمين، ما دفعها للتحرك بشكل متسارع إلى أحضان السودان، خاصة أن أكبر الأحزاب المعارضة للبشير هو حزب “الأمة” الإسلامي الذي يترأسه الصادق المهدي، وهو أحد أكبر الزعماء الإسلاميين الذين عارضوا مشاركة بلاده في حرب اليمن؛ لذلك فالانتخابات الرئاسية القادمة التي ستشهدها من المؤكد أنها ستفرز أحد أبناء التيار الإسلامي، إذا افترضنا خسارة البشير.
كما يرى بعض المحللين السياسيين أن تزايد ظهور قطر في الساحة السودانية، ربما لفت انتباه الدولتين إلى إمكانية أن تتطور علاقات الدوحة والخرطوم أكثر مما هي عليه الآن، فقد وقعت الحكومتان السودانية والقطرية، في 26 من مارس/آذار الماضي، اتفاقية تأهيل ميناء “سواكن” المطل على البحر الأحمر (شرق)، بقيمة 4 مليارات دولار، وفتح خطوط ملاحية جديدة من ميناء حمد (جنوب شرق الدوحة)، إلى ميناء سواكن شرقي السودان، ومن المتوقع الانتهاء منها في عام 2020.
لقاء الرئيس السوداني بالرئيس التركي
الخوف من اللجوء إلى أعداء دول الحصار
لم ينته الأمر عند هذه القضية، فقد تورطت وسائل الإعلام الإماراتية في الترويج لأكاذيب “رخيصة” من تأليف الإعلام المصري عن زيارة الرئيس التركي للسودان بالحديث عن حلف إخواني وقاعدة تركية في سواكن، رغم أن السودان أعلن بوضوح حقيقة هذا المشروع وأنه مشروع استثماري بحت، وسبق أن تجاهل الإمارات الرد على العرض السوداني للاستثمار في قطاع السياحة السودانية.
وفي إطار استياء الرئيس عمر البشير من حلفائه في الخليج، وتحديدًا الإمارات والسعودية، تضع قراءات منح السودان إدارة جزيرة سواكن لتركيا في ضوء التخلي عن دعم البشير، ففي حين يحارب آلاف الجنود السودانيين ضمن التحالف العرب بقيادة الرياض في اليمن، لم تحظ الخرطوم بالدعم المرجو لاقتصادها المنهك، ولا بالدعم السياسي الموعود برفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وبعيدًا عن عناوين التاريخ والاقتصاد التي ساقتها أنقرة لإدارتها جزيرة سواكن، ومن دون إسقاط حقيقة أن الجزيرة السودانية ذات أهمية إستراتيجية بإطلالتها على البحر الأحمر، فإنه بالتالي لا يمكن إخراج الخطوة التركية من التنافس الإقليمي والدولي في النفوذ على البحر الأحمر وتلك البقعة من إفريقيا التي تتكالب الإمارات على فرض نفوذها عليها.
والواضح أن الاتفاق التركي القطري السوداني بشأن جزيرة سواكن، لم يرق للسعودية ومصر والإمارات، وتكيل وسائل إعلام الدول الثلاثة اتهامات وصلت حد الخيانة للحكومة السودانية، باقتراف أفعال تهدد الأمن القومي العربي، بدعوى أنها أعطت قوة إقليمية بحجم تركيا موطئ قدم على بعد كيلومترات من الحدود المصرية والسعودية.
بعض المحللين السياسين يرون أن علاقة السودان بإيران لم تنقطع بشكل نهائي؛ مما قد يفتح الباب لعودتها في أي وقت
وتحدث الكاتب الصحفي ستيفن كوك، في وقت سابق، عن العلاقات القطرية السودانية الأخيرة، قائلاً: “قبل شهور قليلة، جددت قطر علاقاتها العسكرية مع السودان، وهو أمر لم يسعد مصر، مما تسبب في تفاقم التوتر بين القاهرة والخرطوم بشأن حلايب وشلاتين على الحدود بين الدولتين لكنها تخضع للسيطرة المصرية”.
كما يُظهر الرئيس السوداني كذلك غضبه من تجاهل الرياض والقاهرة للخرطوم بتوقيعهما اتفاق ترسيم الحدود المصرية السعودية الذي اعترفت السعودية بموجبه بأحقية مصر في إقليم حلايب المتنازع عليه، وهي الخطوة التي اشتكاها السودان لدى الأمم المتحدة.
أما بالنسبة لإيران، فرغم عدم وجود مؤشرات حاليًّا عن علاقة بين السودان وإيران، بعد قطع العلاقات الدبلوماسية رسميًا في 2016، إلا أن بعض المحللين السياسين يرون أن علاقة السودان لم تقطع بشكل نهائي مع طهران، مما قد يفتح الباب لعودتها في أي وقت، خاصة أن سياسة السودان الخارجية متغيرة، مستدلين بتوجه السودان نحو روسيا مؤخرًا، في خطوة مغايرة لمحاولاته المتكررة لتحسن علاقاته مع الولايات المتحدة، وتوج ذلك بزيارة البشير لروسيا في نوفمبر/كانون الثاني الماضي.