ترجمة وتحرير: نون وست
في السادس من شهر أيار/مايو، أجرى لبنان أول انتخابات برلمانية منذ ما يقارب العشر سنوات. ومنذ سنة 2009، يواجه لبنان العديد من التحديات الجديدة بداية من الأزمة الاقتصادية وأزمة رفع النفايات وصولا إلى تدفق اللاجئين السوريين للبلاد. ولذلك، تعد الانتخابات، التي نظمت يوم الأحد، الفرصة الأولى للناخبين اللبنانيين، لمساءلة البرلمان عن مدى تقدمه في إطار مواجهة هذه التحديات.
من جهة أخرى، كانت الانتخابات فرصة لسن قانون انتخابي جديد يتطرق لعنصر التمثيل النسبي، وبطاقات الاقتراع الموحدة، ويسمح للمغتربين بالتصويت. فضلا عن ذلك، شهدت الانتخابات مشاركة عدد قياسي من المرشحات وائتلاف مجتمع مدني واسع يعارض النخب التقليدية. وقد سلطت نتائج الانتخابات الضوء على جانبين رئيسيين. ففي المقام الأول، تبين أن الأحزاب التقليدية انتصرت على منافسيها من المجتمع المدني، مع العلم أن هذا الفوز قد جاء في خضم توجيه اتهامات لها بتزوير الانتخابات. ثانيا، برزت خلال هذه الانتخابات الأحزاب المسيحية وائتلاف حزب الله في صورة أقوى، في حين أن التحالف الداعم لرئيس الوزراء كان ضعيفا للغاية.
انتصار مثير للجدل للأحزاب التقليدية
في أعقاب أزمة النفايات سنة 2015، وعجز حركة الاحتجاج “طلعت ريحتكم” عن تحقيق مكاسب ملموسة، لجأت شرائح متنوعة من المجتمع المدني إلى خيار الانتخابات لحسم المسألة. وخلال الانتخابات البلدية لسنة 2016، برزت حركة “بيروت مدينتي”. بحلول سنة 2018، وفي خضم موجة النشاط الانتخابي تم إنشاء تحالف “كلنا وطني”، الذي يضم 11 مجموعة من المجتمع المدني. وقد أقدم هذا التحالف على تحدي الأحزاب الحاكمة في 9 مدن من أصل 15 مدينة في لبنان.
سجلت الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات ارتكاب حوالي سبعة آلاف انتهاك خلال يوم الانتخابات
على الرغم من الأزمات المستمرة وجهود المجتمع المدني لتقديم بديل عملي، إلا أن الناخبين ساهموا في تحقيق نصر واضح لصالح نخب المؤسسات الحاكمة على اختلاف انتماءاتهم السياسية. فمن بين مقاعد البرلمان، البالغ عددها 128، فازت منظمات المجتمع المدني بمقعد واحد فقط. ووفقًا لنتائج غير رسمية صدرت مساء الأحد، فازت الناشطة والكاتبة جمانة حداد، التي تعد أول مرشحة ملحدة في لبنان بمقعد آخر لصالح المجتمع المدني. لكن بحلول يوم الاثنين، فندت النتائج الرسمية هذه المعطيات وأكدت خسارة حداد في الانتخابات. وعلى ضوء هذه الأخبار، دعا مؤيدو حداد، على الفور، إلى ارتكاب أعمال عنف، وفي الوقت ذاته قاموا بتنظيم احتجاجات أمام وزارة الداخلية.
سجلت الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات ارتكاب حوالي سبعة آلاف انتهاك خلال يوم الانتخابات. ولم يتفاجأ المراقبون بهذه النتيجة، نظرا للنفوذ المالي والإعلامي الذي يحظى به السياسيون التابعون للمنظومة الحاكمة، فضلا عن قدرتهم على النفاذ إلى مؤسسات الدولة، الأمر الذي خلق بيئة غير مستقرة ووضع عوائق هائلة في طريق المنافسين. في الأثناء، تعمل الأحزاب التقليدية على فرض نفوذها من خلال شبكات المحسوبية التي تسيطر عليها.
في هذا الصدد، عمدت هذه الشبكات إلى التأثير على نتائج الانتخابات من خلال اتباع استراتيجية شراء الأصوات، وإبرام صفقات ذات أهداف قصيرة المدى. في المقابل، كشفت دراسة استقصائية حديثة أن الشكل الأكثر فعالية وأهمية للمحسوبية في لبنان يتجسد في العلاقات طويلة المدى التي تشكلها هذه الشبكات، لدرجة أن التصويت للقيادات يصبح بمثابة واجب اجتماعي. كما تشير الدراسة إلى أن الانتماء الطائفي الذي يدين به الناخبون اللبنانيون والذي لا يمكن إنكاره، يسمى ويتفوق على إي اعتبارات مادية.
تتنبأ هذه النتائج بمعركة شاقة من المرجح أن جماعات المجتمع المدني التي لا تملك أي انتماءات طائفية، ستخوضها لنيل مكانة على الساحة السياسية. وعلى الرغم من كل ذلك، تمكن مرشحو المجتمع المدني من ترك بصمتهم، حيث نجحوا في بناء تحالفات وطنية، وتغيير الخطاب العام، فضلا عن أنهم أجبروا النخب التقليدية على اتخاذ مواقف بناء ووضع بعض البرامج الفعالة.
بالنسبة للحريري، فقد بدى انعدام ثقة السعوديين في الزعيم السني واضحا وجليا، خلال خريف هذه السنة، عندما أُحبر على الاستقالة، بصفة مؤقتة، من منصب الرئاسة أثناء وجوده في الرياض
الحريري يخسر مقاعد مهمة، في حين تكسب الأحزاب المسيحية المزيد من المقاعد، ويتعزز نفوذ التحالف التابع لحزب الله
احتفظت العديد من الأحزاب الحاكمة في لبنان بعدد المقاعد ذاته في البرلمان الجديد. وفي حين حظي التيار الوطني الحر، بزعامة الرئيس ميشال عون، بستة مقاعد جديدة، تضاعف عدد المرشحين المستقلين المتحالفين مع حزب الله من أربعة مرشحين إلى ثمانية. وبالتالي، نستنتج أنه سيكون لحزب الله اليد العليا خلال مفاوضات تشكيل الحكومة، حيث يتمتع تحالفه، في الوقت الحالي، بأكبر كتلة برلمانية.
في المقابل، منيت المجموعات المعارضة لحزب الله بنتائج متفاوتة في هذه الانتخابات. فقد خسر تيار المستقبل، الذي يقوده رئيس الوزراء سعد الحريري، 14 مقعدا. في حين فاجئ حزب القوات اللبنانية العديد من المراقبين، حيث تمكن من مضاعفة مقاعده، تقريبا، من ثمانية مقاعد إلى 15 مقعد. وقد تمكن حزب القوات اللبنانية من تحقيق هذه النتيجة على الرغم من ضعف موقفه في البرلمان في السابق وعدم امتلاكه لشركاء أقوياء في الائتلاف. من جانب آخر، يعد نجاح الأحزاب المسيحية، بغض النظر عن موقفها السياسي تجاه حزب الله، عنصرا مهما ومحوريا في الانتخابات.
في واقع الأمر، لا يمكن التشكيك في نفوذ إيران المتنامي في المنطقة بعد أن تمكنت من فرض سيطرتها في لبنان، والعراق، وسوريا. أما بالنسبة للحريري، فقد بدى انعدام ثقة السعوديين في الزعيم السني واضحا وجليا، خلال خريف هذه السنة، عندما أُحبر على الاستقالة، بصفة مؤقتة، من منصب الرئاسة أثناء وجوده في الرياض. وقد ساهم تراجع الدعم السعودي إلى جانب تضاؤل ثروة الحريري في تقويض قوة الخطاب الانتخابي للحزب وقدرته على تمويل شبكات المحسوبية.
يعد أداء الحريري الضعيف في انتخابات يوم الأحد آخر حلقة في سلسلة إخفاقاته
أهمية ديناميات القوى الإقليمية والإرث التاريخي للحزب
تشير أبحاثي إلى أن الأحزاب التي شاركت في الحروب الأهلية تملك قواعد انتخابية أكثر تماسكا، فضلا عن شبكات من المؤيدين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، ودعائم تحميها خلال فترة الأزمات. فقد استطاع حزب الله وحركة أمل وحزب التقدم الاشتراكي ترجمة هذا النفوذ إلى مكاسب انتخابية مباشرة بعد فترة الحرب الأهلية. كما تم تفكيك منظمات الجماعات المسلحة المسيحية (القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر) التي عارضت وجود سوريا في لبنان في فترة ما بعد الحرب في التسعينات، إلا أنها ظلت تتمتع بقدر من النفوذ. فبعد الانسحاب السوري خلال سنة 2005، بدأت هذه الأحزاب بإعادة إحياء شبكاتها وبناء قواعدها الشعبية. وبالتالي، ليس من المفاجئ أن يعملوا على تعزيز أدائهم الانتخابي.
من جهته، يفتقر تيار المستقبل إلى هذا التراث الذي يعود إلى مرحلة الحرب. وتوضح الأبحاث التي أجريت بشأن الدورات الانتخابية السابقة أن ” تيار المستقبل” يبذل جهودا كثيفة، بشكل حصري خلال فترة الانتخابات، حيث يدفع مبالغ صغيرة لعدد أكبر من الناخبين الذين لا يدينون له بولاء فعلي. في المقابل، تركز الأحزاب الشيعية نشاطها على نحو أضيق، ولكنها ترسي روابط أقوى مع الناخبين من خلال تقديمها لعروض أفضل، مثل الوظائف، والقروض. وفي الوقت الذي تعاني فيه عائلة الحريري من ضائقة مالية، من المحتمل أن شبكاتها قد أصبحت ضعيفة وستضمحل تدريجيا.
علاوة على ذلك، يعد تيار المستقبل، الوافد الجديد نسبيا على المشهد السياسي اللبناني، الذي يفتقر إلى نفوذ طائفي وشبكات علاقات تعود إلى زمن الحرب. وبالنسبة لمجتمع سني مهدد بقدوم تدفقات من اللاجئين من سوريا ناهيك عن قوة حزب الله المتنامية، يعد تيار المستقبل أقل استقطابا من المقاتلين السنة الذين يتمتعون بالقدرة والرغبة في المشاركة في مواجهة عسكرية “لحماية” المجتمع. عموما، يعد أداء الحريري الضعيف في انتخابات يوم الأحد آخر حلقة في سلسلة إخفاقاته.
بغض النظر عن ظفر الائتلاف الذي يترأسه حزب الله بنفوذ أكبر في الانتخابات، وتنامي قوة إيران الإقليمية على مستوى السياسات الداخلية للبنان، لا ينبغي تجاهل الديناميات المحلية. ففي الواقع، لا تزال الأحزاب المحلية التي تملك إرثا تاريخيا تحظى باهتمام الناخبين الذين يعانون من عدم الاستقرار المزمن وعدم اليقين. في الأثناء، يواصل المجتمع المدني البحث عن قواعد انتخابية بديلة.
المصدر: واشنطن بوست