يومًا بعد يوم تبدأ ملامح “صفقة القرن” الأمريكية تظهر وتكشف وجهها الحقيقي تدريجيًا من خلال التسريبات التي تخرج عن محتواها الذي يهدف لضرب القضية الفلسطينية لصالح المحتل “الإسرائيلي”.
هذه المرة دخلت الإدارة الأمريكية في معركة حرب الديموغرافيا الشرسة والهوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وحاولت طرح أفكار “خبيثة” تساند الاحتلال في معركته على حساب الحق والوجود الفلسطيني على أرضهم.
تقرير صحفي إسرائيلي أفاد أن الولايات المتحدة سوف تطالب الحكومة الإسرائيلية بالخروج من أربعة أحياء في القدس الشرقية وتسليم إدارتها إلى الفلسطينيين، ضمن إطار خطة السلام الأمريكية، وذكر التقرير الذي نشرته صحيفة “جيروزاليم بوست” أن مسؤولين أمريكيين أبلغوا وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بهذه الخطة في أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن.
وأوضح التقرير أن تسليم إدارة أحياء (جبل المكبر والعيساوية وشعفاط وأبو ديس) طُرح أمام ليبرمان كجزء من خطة السلام التي تعمل واشنطن عليها على مدى العام الأخير، مضيفًا أن المسؤولين الأمريكيين يتوقعون من الحكومة الإسرائيلية القبول بهذه الخطة بعد إعلانها رسميًا، رغم أنها تشمل “تنازلات مؤلمة” بالنسبة لتل أبيب.
في التصريحات الأخيرة لنتنياهو في الأيام الماضية، كرر عدة مرات أن “إسرائيل” لن تتنازل عن حائط البراق ولا عن المسجد الأقصى
كما كشفت صحيفة “معاريف” أن عضو الكنيست عنات بركوا عرضت خلال لقاء تم بينها وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أشهر خطة فصل الأحياء الفلسطينية عن الأحياء الإسرائيلية شرق القدس المحتلة. ووفقًا للصحيفة، فقد أعدت بركوا خطة الفصل مرفقة بخريطة للأحياء الشرقية للقدس مع صور التقطت من الجو للأحياء الفلسطينية شرق القدس، حيث رسمت الخط الفاصل للأحياء الفلسطينية التي لم تكن أبدًا من قبل ضمن الحدود البلدية لبلدية القدس.
خطة عضو الكنيست التي عُرضت على نتنياهو تتضمن أن يحصل الفلسطينيون على المسؤولية عن أحياء في شرق القدس، حيث تتضمن المسؤولية الفلسطينية على تلك الأحياء من التعليم والصحة والخدمات الأخرى، على أن تقوم “إسرائيل” بسحب الهويات الإسرائيلية الزرقاء من الفلسطينيين سكان هذه الأحياء، وبذلك توفر دولة الاحتلال ملايين الشواكل لخزينتها.
ووفقًا لـ”معاريف” فإن نتنياهو لم يلق بالخطة في أدراج مكتبه، وتحدثت مصادر سياسية أنه طلب الاحتفاظ بتلك الخطة، وطلب نتنياهو من باركو ألا تعلن خطتها لوسائل الإعلام. وفي التصريحات الأخيرة لنتنياهو في الأيام الماضية فقد كرر عدة مرات أن “إسرائيل” لن تتنازل عن حائط البراق ولا عن المسجد الأقصى، فتصريحات نتنياهو لم تشمل الأحياء الشرقية التي عرضتها باركو في خطتها.
حذر الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، من مخاطر نقل الأحياء، ويرى أنها تأتي في سياق ما يعرف بـ”صفقة القرن”
تصفية القضية الفلسطينية
يرى محللون وسياسيون أن مطالبة الولايات المتحدة لـ”إسرائيل” بتسليم أربعة أحياء شرقي القدس للسلطة الفلسطينية، تأتي في سياق ما يعرف بـ”صفقة القرن” التي تعهد الفلسطينيون بإفشالها لدورها في تصفية القضية الفلسطينية.
وقال المحلل السياسي أمجد شهاب المختص في شؤون القدس، معقبًا على هذه الخطة: “هدف الاحتلال هو التخلص من التجمعات السكانية المزدحمة لمصلحة التفوق الديموغرافي اليهودي في القدس”، وأضاف أن نسبة المقدسيين حاملي الهويات الزرقاء ستصبح ضئيلة جدًا، وبالتالي تثبيت يهودية القدس وسيطرة الاحتلال على المدينة.
شهاب أشار إلى أن الاحتلال يعدّ هذه الأحياء المكتظة، عبئًا على بلدية الاحتلال؛ لأن الفلسطينيين يسيطرون على معظم أراضيها، موضحًا أن الاحتلال سيدعي من خلال ذلك أنه تنازل عن بعض المناطق للفلسطينيين، بدلاً من القدس القديمة التي تضم بجنباتها أقدس مقدسات المسلمين وهو المسجد الأقصى والمناطق الأثرية. ويرى أن وجود السلطة الفلسطينية في هذه الأحياء من شأنه أن يضبط الأوضاع فيها، لكونها أصبحت قنبلة موقوتة في السنوات الأخيرة تؤرق الاحتلال.
بدوره حذر الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، من مخاطر نقل الأحياء ويرى أنها تأتي في سياق ما يعرف بـ”صفقة القرن” (الخطة الأمريكية لتسوية الصراع في المنطقة، ويرى فيها مراقبون تصفية للقضية الفلسطينية)، وتحمل في طياتها ثلاثة أهداف: أولها أن الترويج لخطة نقل الأحياء الفلسطينية هو الترويج لضم وتهويد القدس.
وأضاف أن الهدف الآخر هو محاولة تنفيذ عملية تطهير عرقي عنصري للقدس من خلال سحب الهويات المقدسية من نحو 130 ألفًا من المقدسيين، (مجموع سكان الأحياء الأربعة، بهدف تعديل التركيبة السكانية لمدينة القدس لمصلحة اليهود الصهاينة).
بحلول عام 2000، فهمت “إسرائيل” أنها بصدد خسارة المعركة الديمغرافية بالقدس، فبين عامي 1967 و2015 ازداد عدد السكان اليهود في المدينة ووصلوا إلى 174 ألف نسمة، ولكن السكان العرب ازدادوا في هذه الفترة الزمنية نفسها ضعفين أو أكثر
وختم القول بأن الهدف الثالث، محاولة التحضير والترويج للفكرة الخبيثة والمرفوضة فلسطينيًا، باستبدال مدينة القدس عاصمة لفلسطين، بأحياء أو بلدات في محيطها مثل أبو ديس، والعمل في الوقت نفسه على إخماد المقاومة الشعبية في هذه الأحياء التي تميزت بالتصاعد والبسالة منذ سنوات.
الحرب الديموغرافيا
يذكر أن سبب الاهتمام الإسرائيلي الأول من ضم وفصل مناطق قريبة من القدس هو الاعتبار الديموغرافي وضمان الأغلبية اليهودية في المدينة المقدسة، ووفقًا لذلك فإنها تعمل الآن على إبعاد بعض الأحياء المكتظة بالسكان خارج أسوار الإدارة الإسرائيلية للمدينة لتجعلها تابعة لإدارة بيت لحم أو السلطة الفلسطينية.
فبحلول عام 2000، فهمت “إسرائيل” أنها بصدد خسارة المعركة الديمغرافية بالقدس، إذ تؤكد معطيات الكتاب السنوي الإحصائي للقدس الذي أصدره الاحتلال عام 2017، أنه بين عامي 1967 و2015 ازداد عدد السكان اليهود في المدينة ووصلوا إلى 174 ألف نسمة، ولكن السكان العرب ازدادوا في هذه الفترة الزمنية نفسها ضعفين أو أكثر.
وهنا يقول عماد أبو عواد الباحث المختص بشؤون القدس: “زيادة أعداد الفلسطينيين في القدس ونسبتهم بالمقارنة مع اليهود، المحرّك الأبرز لأصحاب فكرة التنازل عن الأحياء العربية في مدينة القدس مثل يتسحاك هرتسوغ وحاييم رامون وغيرهم من القيادات، حيث يُعتبر الخزان البشري الفلسطيني مهدد من وجهة نظرهم لديموغرافيا المدينة، وغالبيتها اليهودية”.
كما وصف الدكتور جمال عمرو المختص بقضايا القدس ما نشرته صحيفة “معاريف” بأنه خلط خطير للأوراق، وتحويل لقضية القدس المقدسة التي تعتبر القاسم الوحيد المشترك بين أبناء الشعب الفلسطيني والعربي والمسلمين والمسيحيين في العالم على حد تعبيره.
أكد عمرو أن خطر هذه الأحياء على “إسرائيل” يكمن بأنها كتلة بشرية هائلة جدًا وذعر ديمغرافي بالنسبة لهم
وأضاف “هكذا سنبدأ بتجزئة المدينة وتحويلها لبازار والمقايضة على أحياء متفرقة غير متصلة ببعضها البعض واختصار القضية الخطيرة والكبيرة لأربعة أحياء متقطعة الأوصال، موضحًا أن المطلع على خريطة القدس يرى حجم التباعد بين الأحياء التي لا يمكن أن تشكل عاصمة بأي شكل من الأشكال.
ويؤكد عمرو أن خطر هذه الأحياء على “إسرائيل” يكمن بأنها كتلة بشرية هائلة جدًا وذعر ديمغرافي بالنسبة لهم لذلك تريد أن تتخلص منها، مما يعني التخلص من البيوت والهويات والحقوق والإدارة القانونية والإنسانية والصحة والتعليم، وبالتالي محوها من سجلات التعداد السكاني للقدس، ثم يمنع سكانها منعًا باتًا من دخول المدينة.
ويلفت عمرو إلى أن الأمر قد يبدو أمام العالم الآن بأن “إسرائيل” تريد أن تمن على السلطة بإعطائها جزءًا من العاصمة الإسرائيلية المعترف بها أمريكيًا، وهذا ما يجب أن ينتبه له أهالي القدس والعرب والمسلمين في الخارج، ففي ذات الوقت لا تستطيع السلطة بناء عاصمة ذات مغزى سياسي أو سياحي كما أن المنطقة المقدسة والحوض المقدس كله الآن تحت إدارة “إسرائيل”.
الصفر الكبير
عمرو تساءل: ما فائدة أن نعود بجزء من القدس دون البلدة القديمة؟ وما فائدة البلدة القديمة دون الأقصى؟ وهذه الصفقة تعني أننا حصلنا على صفر بل على تحت الصفر من العاصمة المقدسة وهو قمة الخسران.
يشار إلى أن جبل المكبر يبلغ عدد سكانه نحو 30 ألف نسمة، ويعاني من الإهمال والتهميش كغيره من الأحياء الفلسطينية، ولم تخصص له بلدية الاحتلال أي ميزانية، ليبقى دون خدمات أساسية، لكنه عرف بمقاومته للاحتلال الصهيوني، إذ نفذ عدد من أبنائه عمليات دهس ضد الاحتلال وجنوده.
قرية العيساوية تقع إلى الشمال الشرقي من البلدة القديمة للقدس، يبلغ عدد سكانها نحو 20 ألفًا، وحرمت سلطات الاحتلال القرية من أراضيها وصادرتها لمصلحة المستوطنات والجدار وما يسمى “الحديقة القومية”
أما مخيم شعفاط شرقي القدس فقد تأسس أوائل عام 1964، ونقل إليه سكانه من حارة الشرف بالبلدة القديمة من المدينة، وجميعهم ممن هجروا من بلداتهم وقراهم في الأراضي المحتلة عام 1948، ويبلغ عدد سكانه نحو 80 ألفًا، وقد أحاط الاحتلال المخيم بجدار عازل، وجعل حاجزًا عسكريًا بينه وبين القدس، ثم أحاطت به العمارات السكنية العالية نظرًا لحرص السكان على الإقامة داخل حدود بلدية الاحتلال؛ حفاظًا على بعض حقوقهم التي يحاول الاحتلال انتزاعها.
وقد خرج العديد من أبناء المخيم لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال منهم الشهداء: إبراهيم العكاري ووسام فرج وأحمد صلاح ومصطفى نمر ومحمد علي وآخرون. أما قرية العيساوية تقع إلى الشمال الشرقي من البلدة القديمة للقدس، يبلغ عدد سكانها نحو 20 ألفًا، وحرمت سلطات الاحتلال القرية من أراضيها وصادرتها لمصلحة المستوطنات والجدار وما يسمى “الحديقة القومية”.
وتتعرض القرية لاعتداءات عديدة وإغلاقات واقتحامات منذ سنوات طويلة، واعتقل العشرات من أطفالها، وهدم العشرات من منازلها ومنشآتها التجارية، بحجة عدم الترخيص. أما بلدة “أبو ديس” فتقع شرقي القدس، وأقام الاحتلال عام 2005 على الحدود الفاصلة بينها والقدس، جدارًا عازلًا يمنع أهاليها من زيارة المسجد الأقصى وممارسة حياتهم اليومية بسهولة وتنقلاتهم بشكل اعتيادي.