أصدرت منظمة العفو الدولية – وهي حركة عالمية تضم ما يزيد على 7 ملايين شخص، وتعرف نفسها بأنها منظمة مستقلة عن جميع الحكومات والعقائد السياسية أو المصالح الاقتصادية أو المعتقدات الدينية، وتتلقى تمويلها من أعضائها ومن التبرعات العامة – أحدث تقاريرها عن الأوضاع الحقوقية في مصر. ووثقت في التقرير الذي حمل عنوان “سحق الإنسانية: إساءة استخدام الحبس الانفرادي في السجون المصرية” مأساة ساكني زنازين الحبس الانفرادي في السجون المصرية.
أداة عقاب للسجناء السياسيين
تؤكد منظمة العفو الدولية في تقريرها أن السجون المصرية تشهد أزمة فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان، مع تفشي التعذيب وقصور ظروف السجون عن الوفاء بالمعايير الدولية لمعاملة السجناء، كما يعاني السجناء من وضع أعداد كبيرة منهم في زنازين صغيرة الحجم، والافتقار إلى ما يكفي من الأطعمة المغذية والأغطية والأسرّة وأبسط معايير النظافة والمياه والصرف الصحي، فضلًا عن سوء التهوية والإضاءة.
وترى العفو الدولية من خلال البحوث التي أجرتها على 14 سجنًا في 7 محافظات، وفحصت من خلالها حالات 36 شخصًا تعرضوا للحبس الانفرادي منذ نحو سبتمبر 2013، من بينهم صحفيون ومدافعون عن حقوق الإنسان وسجناء رأي مثل هشام جعفر وجهاد الحدّاد ومحمود حسين ويوسف شعبان ومحمد القصّاص وعمرو علي، ترى أن السلطات المصرية تستخدم أسلوب الحبس الانفرادي كأداة لإنزال عقاب إضافي بالسجناء، لا سيما السجناء ذوي الخلفية السياسية، بشكل تعسفي ودون إشراف قضائي.
قالت العفو الدولية في تقريرها إن سجناء الحبس الانفرادي يعيشون في ظروف غير إنسانية
تعتبر المنظمة أن ذلك التنكيل يشكل نوعًا من المعاملة اللاإنسانية والمهينة، يرتقي إلى حد التعذيب، حيث يُحتجز بعض السجناء رهن الحبس الانفرادي المطول أو إلى أجل غير مسمى أو يُوضعون في زنازين تتسم الظروف فيها بأنها غير إنسانية أو يتعرضون لعقاب جماعي، وفي بعض الحالات يتعرض السجناء لتعذيب بدني أيضًا.
زنازين غير إنسانية
قالت العفو الدولية في تقريرها إن سجناء الحبس الانفرادي يعيشون في ظروف غير إنسانية، فالزنازين صغيرة وتتسم بسوء الإضاءة والتهوية وتفتقر إلى الأسرِّة والأغطية. ومن خلال توثيقها لعدد من الحالات، أشارت المنظمة إلى أن السجناء يعانون من عدم وجود مراحيض في الزنازين، فيضطرون إلى التبوّل والتبرّز في أوعية بلاستيكية أو معدنية، وفي حالات أخرى كانت هناك مراحيض ولكنها كانت مكسورة وتنبعث منها روائح كريهة وتجلب الحشرات.
وفي هذا السياق تناولت المنظمة قضية علا القرضاوي التي ألقت السلطات المصرية القبض عليها رفقة زوجها حسام خلف عضو المكتب السياسي لحزب الوسط في 30 من يونيو 2017، واستنكرت حبسها الانفرادي بسجن القناطر للنساء لمدة تزيد على 300 يوم، دون مراعاة لكونها امرأة تجاوزت الـ55 عامًا.
وقالت المنظمة إن ظروف حبس عُلا لا يمكن وصفها إلا بالتعذيب، حيث تحتجزها سلطات “سجن القناطر للنساء” في زنزانة انفرادية لا يوجد بها مرحاض، ولا تسمح لها حارسات السجن بالخروج منها إلا 5 دقائق في صباح كل يوم للذهاب إلى مرحاض خارجي، ولهذا تجد نفسها مضطرة لتقليل ما تتناوله من حصتها من الطعام، وهي حصة ضئيلة أصلًا، لكي تتجنب الحاجة للذهاب إلى المرحاض.
تؤكد منظمة العفو الدولية أن سلطات السجون تحرم السجناء المحبوسين انفراديًا بشكل مستمر من أي اتصال ذي معنى مع السجناء الآخرين في الوقت القليل الذي يقضونه خارج زنازينهم
حبس 24 ساعة
لاحظت العفو الدولية نمطًا ثابتًا في كل الحالات التي وثقتها، يتمثل في حبس السجناء في زنازين انفرادية مدة تقترب من 24 ساعة في اليوم. ونقلت المنظمة عن سجينة الرأي السابقة يارا سلام التي قضت 15 شهرًا في سجن القناطر للنساء قولها: “كل السجينات اللاتي يُرسَلن إلى زنازين التأديب الانفرادية في سجن القناطر بسبب مخالفة قواعد السجن يُحرمن من التريّض أو قضاء وقت خارج الزنازين طوال مدة حبسهن الانفرادي، ولا يُسمح لهن بالذهاب إلى المرحاض إلا مرة أو مرتين في اليوم”.
ونقلت كذلك ما قالته نهى دعادر زوجة عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط، التي أكدت أن زوجها يُحبس في زنزانته لمدة 23 ساعة على الأقل في اليوم، ويُسمح له بقضاء ساعة خارج الزنزانة في ممر العنبر، ولكن سلطات السجن ألغت الساعة التي يقضيها خارج الزنزانة في الممر لمدة لا تقل عن 3 أشهر عقب تعيين وزير الداخلية الحاليّ مجدي عبد الغفار في مارس 2015.
فقدان أي تواصل إنساني
تؤكد منظمة العفو الدولية أن سلطات السجون تحرم السجناء المحبوسين انفراديًا بشكل مستمر من أي اتصال ذي معنى مع السجناء الآخرين في الوقت القليل الذي يقضونه خارج زنازينهم.
ففي 11 حالة على الأقل من الحالات التي درستها المنظمة، كان السجناء المحبوسون انفراديًا في 6 سجون يُحرمون بشكل مستمر من الاتصال بغيرهم من السجناء خلال الوقت الذي يُسمَح لهم بقضائه خارج الزنزانة.
قالت العفو الدولية في تقريرها إن النيابة العامة لا تمارس صلاحياتها في الإشراف على السجون على نحو فعّال
الحرمان من الزيارات العائلية
أكدت العفو الدولية أنه كثيرًا ما تحرم سلطات السجن السجناء المحتجزين في الحبس الانفرادي من زيارات عائلاتهم لفترات طويلة ولا تتيح لهم – خلافًا للسجناء الآخرين – أي خصوصية خلال الزيارات في الحالات التي تسمح فيها بالزيارة.
ووفقًا للنتائج التي توصلت إليها المنظمة، فقد مُنعت الزيارات في “سجن العقرب” و”سجن ليمان طُرة” لمدد تقترب من 18 شهرًا.كما أشارت إلى شكوى باسم عودة وزير التموين والتجارة الداخلية في حكومة الرئيس الأسبق محمد مرسي نوفمبر2017، إلى محكمة الجنايات بالقاهرة من أنه لم يُسمح له بتلقي زيارة واحدة في “مجمع سجون طُرة” لمدة 364 يومًا.
الظلم القضائي
قالت العفو الدولية في تقريرها إن النيابة العامة لا تمارس صلاحياتها في الإشراف على السجون على نحو فعّال، فوفقًا لبعض السجناء حتى في الحالات التي زار فيها أعضاء النيابة السجون، فإنهم لم يزوروا الزنازين ولكن مكاتب إدارة السجن.
وذكر بعض المحامين الذين أجرت المنظمة مقابلات معهم أن النيابة تتقاعس أيضًا بصفة دائمة عن التحقيق في الشكاوى التي تُقدم إليها بخصوص الظروف في السجون أو الحالة الصحية للسجناء في الحبس الانفرادي، ففي مقابلة مع محمد عيسى محامي السجين أحمد دومة قال إنه تقدم بـ4 شكاوى بالنيابة عن موكله في 26 من فبراير 2017 بخصوص تدهور صحة دومة في الحبس الانفرادي ورفض إدارة السجن نقله إلى زنزانة عادية أو توفير الرعاية الطبية اللازمة له، ولكن جميع هذه الطلبات من أجل التحقيق في الأمر لم تلق أي استجابة حسب عيسى.
قال السجين السابق محمود حسن للعفو الدولية: “لا يوجد عنبر خاص للمحكوم عليهم بالإعدام في (سجن ليمان طُرة) فهم يُوضعون في زنازين انفرادية مُخصصة للتأديب، ويُحرمون من وقت الفُسحة خارج الزنازين باستثناء دقائق قليلة كل أسبوع”
شهادات مروعة
عرضت منظمة العفو الدولية عدة شهادات مروعة عن الانتهاكات التي تمارسها السلطات المصرية في حق المحبوسين انفراديًا. السجين السابق كريم طه عضو حركة 6 أبريل الذي سبق وتعرض للحبس الانفرادي بسجن وادي النطرون يقول: “بعد الأيام القلائل الأولى من عزلي تمامًا في الزنزانة الانفرادية التي كانت تفتقر إلى الإضاءة والتهوية والمرحاض والأغطية والفرش والطعام، دخل أحد حراس السجن وشخص ملثّم إلى زنزانتي ومزّقا ملابسي بالقوة، وبعد ذلك خلع حارس السجن حزامه الجلدي وانهال ضربًا على جميع أجزاء جسمي لما يقرب من 30 دقيقة، وبعد ذلك اقتادني الحارس إلى خارج الزنزانة الانفرادية وكبلّ يديَّ بالقيود وأجبرني على الركوع، وغمر رأسي بشكل متكرر في دلو يُستخدم في الزنازين الانفرادية للتبوّل والتبرّز طوال ما يقرب من 30 دقيقة”.
وتروي منار الطنطاوي زوجة هشام جعفر المحتجز رهن الحبس الانفرادي في “سجن العقرب” مأساة زوجها قائلة: “كانت المرة الأولى التي أرى فيها هشام بعد القبض عليه عندما رأيته في المستشفى، وصف لي زنزانته الانفرادية وما يشعر به هناك، قال إنه لا يستطيع أن يرى أي شيء في ظلمة الزنزانة، كان يعاني من صعوبات في التنفس نظرًا لعدم وجود نافذة أو أي مصدر آخر للهواء في الزنزانة، وقال إنه يشعر بأنه في قبر وأنه سيموت هناك، وأضاف أنه عندما نقله حراس السجن من ذلك المكان قال لي عندها إنه قد فهم معنى أن يُولد الإنسان من جديد، ولكن بعد أن أمضى شهورًا قليلة في المستشفى أعادوه إلى الحبس الانفرادي مرة أخرى”.
كما قال السجين السابق محمود حسن للعفو الدولية: “لا يوجد عنبر خاص للمحكوم عليهم بالإعدام في (سجن ليمان طُرة) فهم يُوضعون في زنازين انفرادية مُخصصة للتأديب، ويُحرمون من وقت الفُسحة خارج الزنازين باستثناء دقائق قليلة كل أسبوع، وهؤلاء الأشخاص يتعرضون للتعذيب بالحبس الانفرادي قبل إعدامهم”.
طالبت المنظمة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، على وجه الخصوص، بالتصديق على “البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة” بعد موافقة مجلس النواب عليه
ويحكي السجين السابق خالد عبد الواحد – اسم مُستعار لجأت إليه المنظمة حرصًا على عدم الإفصاح عن هوية الشخص الذي أُجريت معه المقابلة – أنه حاول في أبريل 2015 تمرير رسالة لقريب كان يزوره، وفي أعقاب ذلك نقلته إدارة السجن إلى زنزانة انفرادية أخرى تنتشر فيها الحشرات وتتسرب إليها مياه الصرف الصحي، حيث أمضى فيها أسبوعين.
وروت نورهان حفظي زوجة أحمد دومة ظروف مأساته للمنظمة، قائلة: “الحبس الانفرادي أشبه بعقاب جسدي دون قرار قضائي، وزوجي محبوس في زنزانة انفرادية منذ ما يزيد على 3 سنوات، فسلطات السجن تعزله عن أي اتصال إنساني مع سجناء آخرين، وقد عانى من آلام مبرحة في أجزاء مختلفة من جسمه نتيجة حبسه في زنزانته لأكثر من 22 ساعة في اليوم في ظروف سجن متدنية، ولم يُبلّغ بمدة حبسه الانفرادي، وقد قدّمت عدة شكاوى إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان وأقمت دعوى أمام القضاء الإداري مطالبة بوضع حد لحبسه الانفرادي، لكن كل هذه الخطوات لم تلق أي استجابة من السلطات”.
توصيات العفو الدولية
في نهاية التقرير أهابت منظمة العفو الدولية بالسلطات المصرية أن تبادر بإصلاح نظام الحبس الانفرادي بأكمله، بما يكفل أن يتماشى مع القانون الدولي والمعايير الدولية، وألا يكون بمثابة نوع من التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة.
وفي هذا السياق، طالبت المنظمة السلطات المصرية باتخاذ عدة إجراءات، من بينها:
١) الإنهاء الفوري لجميع حالات الحبس الانفرادي ما لم يكن مُطبقًا على نحو يتماشى بشكل كامل مع “قواعد نيلسون مانديلا”، ومن بينها هذه الشروط، على سبيل المثال:
– ألا يُستخدم الحبس الانفرادي إلا في ظروف استثنائية وباعتباره الملاذ الأخير.
– أن يُطبق بموجب إجراءات عادلة تخضع للمراجعة.
– ألا يُطبّق على فئات معينة مثل الأطفال والنساء الحوامل، وعندما يكون من شأنه أن يفاقم من مشكلات الصحة العقلية.
– أن يُستخدم لفترة لا تزيد على بضعة أيام، وألا تتجاوز مدته في جميع الأحوال 15 يومًا متتالية.
– أن يُحتجز السجناء الخاضعون للحبس الانفرادي، شأنهم شأن المحتجزين الآخرين، في ظروف معيشية تحترم حقوقهم في الغذاء الكافي والرعاية الطبية وتوفر مرافق النظافة الشخصية والصرف الصحي والضوء الطبيعي والتهوية والهواء النقي والتريّض والزيارات في جميع الأوقات.
٢) الإنهاء الفوري لجميع الأشكال الأخرى للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وأن تقدم إلى ساحة العدالة مرتكبي هذه الانتهاكات، بما في ذلك من يفرضون الحبس الانفرادي لفترات طويلة أو لأجل غير مسمى.
كما طالبت المنظمة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، على وجه الخصوص، بالتصديق على البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بعد موافقة مجلس النواب عليه، وإنشاء آلية وطنية وقائية مستقلة وفعّالة وتتسم بالمهنية وتتوفر لها الموارد الكافية، بحيث يكون مصرحًا لها بزيارة جميع الأماكن التي يُحرم فيها أشخاص من حريتهم، وكذلك بمقابلة جميع المحتجزين والسجناء على انفراد، بما يتماشى مع أحكام ذلك البروتوكول.