لا يُمكن قياس حالة الاحتقان أو الشماتة بشكل دقيق، تلك الحالة التي أصبح يكنها الجمهور المصري تجاه ممثلي بلاده في المحافل الرياضية الدولية، لكن يُمكن النظر إلى وجودها ونموها على ضوء عيّنات أخرى، كتفاعل المصريين بالأخص مع الأخبار التي تُغطي فعاليات رياضيهم في صفحات السوشيال ميديا للمنصات الرياضية الكبرى المصرية مثل “في الجول” و “يلا كورة” ومنصة “كورة بلس” التابعة للمخابرات.
إذا أخذنا مثالًا، أحد المنشورات في منصة “في الجول” الأشهر والأكبر، تتناول هزيمة لاعبة تنس الطاولة المصرية، هنا جودة، في الأولمبياد، ستجد أن الضحك هو التفاعل الذي يسود المنشور، والشماتة في التعليقات. ولا يختلف الأمر كثيرًا مع منشور عن هزيمة الفتاة المصرية، سارة حسن، ومنشور يُغطي هزيمة لاعبة أخرى.
ورغم أن تلك الحالات السابقة تُخص فتيات لا تتخطى أعمارهن 16 عامًا، فإن ما يدحض اتهام وجود عامل جندري وراء تلك الشماتة، يتجلى في أحد المنشورات الذي يغطي هزيمة منتخب كرة اليد الأول من الرجال، كما أن حلول أحد اللاعبين الذكور في مركز متأخر جدًا في منافسات القوس والسهم، جعل من ذلك المنشور هو الأكثر تفاعلًا من السخرية والشماتة.
إذًا، فما تلك الحالة التي أوصلت قطاعًا من الجماهير المصرية للشماتة بدلًا من المواساة وبعث الأمل، وتفريغ غضبهم من الوضع العام في البلاد بالرياضيين، كنوع من أنواع الضرب في المساحات الآمنة.
احتقار الجماهير واستعدائهم
إذا أردنا أن نتتبع جذور تلك الحالة، فإن بحثنا يعود إلى ما قبل منافسات الأولمبياد الجارية في باريس حاليًا، إنها نتاج عشر سنوات من حكم النظام الحالي، لم تسلم فيها الرياضة كما لم يسلم فيها أي شيء آخر، من تطبيق سياسات إقصائية وطبقية، حزبت المصريين ضد بعضهم بعضًا.
لقد أسس النظام منظومة قمعه على أساس إخلاء الفضاءات وأي حيز يمكن أن يضم مجموعة من الناس يشكلون تكتلًا، لذلك وبشكل بديهي استهدف النظام مدرجات الملاعب ودخل في حالة من العدائية مع الجماهير.
في ثلاث مناسبات مختلفة منذ أن تولى قيادة المنتخب المصري في نهاية عام 2022 تكلم المدرب السابق، روي فيتوريا، عن الحضور الجماهيري لمباريات المنتخب الوطني بشكل سلبي، حتى انفجر في إحدى المرات وهاجم بشكل واضح تلك الظاهرة قبل إحدى المباريات، حين قال: “مصر أمة كبيرة، ونحن نفعل ما علينا للفوز، نتمنى أن نرى جمهورًا في مبارياتنا ويهتموا بالحضور، أشعر بالحزن عندما أرى منتخبات بعناصر أقل فنيًا لكنها تحظى بدعم جماهيري أكبر منا”. فيتوريا، كان كغيره من المدربين الأجانب الذين عملوا في مصر، وظلوا يهرفون بما لا يعرفون عن الحضور الجماهيري القليل في مصر بالمؤتمرات الصحفية، حيث إن مترجميهم لم يحكوا لهم القصة المثيرة لإفراغ الملاعب من سكانها.
استهل النظام حكمه بما عُرف بمذبحة الدفاع الجوي 2015، والتي قتلت فيها قوات الشرطة 20 من مشجعي نادي الزمالك كانوا في طريقهم للدخول إلى ملعب كرة القدم، تلك المذبحة التي حملت أوزارها لقادة رابطة أولتراس نادي الزمالك، ليتم حبسهم حتى تلك اللحظة وعلى رأسهم سيد مشاغب، وفي أعقابها تم تجريم روابط الأولتراس بشكل رسمي واعتبارهم جماعة إرهابية محظورة، فلقد كانت الدولة العميقة في مصر تحمل ضغائن ضدهم بسبب مشاركاتهم في ثورة 25 يناير وأعقابها.
على مدار سنوات تلت تلك المذبحة، حُرمت الجماهير من الحضور إلى ملاعب كرة القدم، إلا بأعداد قليلة جدًا في مناسبات استثنائية، بعد المرور من جولات تفتيش لا إنسانية تُصادر فيها أغطية زجاجات الماء، كما تُصادر أدوات التشجيع الذي من الطبيعي وجودها في أي مُدرج في العالم.
وحينما أصبح ملف الحضور الجماهيري في السنوات الأخيرة، لا يتناسب مع صورة الدولة التي تروجها عن نفسها كدولة أمن وأمان، فتحت الدولة مدرجات ملاعبها مرة أخرى بعد أن استقرت للقضاء على الأولتراس واستئاصله بصفة تامة، كأي منظمة أخرى في البلاد.
جاءت الدولة بمنظومة جديدة للمراقبة والإخضاع تُدعى شركة “تذكرتي” والتي من خلالها وبشكل حصري، يستطيع الجمهور قطع التذاكر، بعد أن يكون قدم على ما يُعرف ببطاقة المشجع التي من خلالها يُسلم كل بياناته وحتى صورته الشخصية، من أجل أن يحضر مباراة كرة قدم، لكن الأمور لم تسر بشكل جيد مع “تذكرتي” بسبب ما يتعرض له الجماهير من معاناة في قطع تذاكر المباريات، كما في التفتيش من أجل دخول الملاعب.
تحول الهجوم على “تذكرتي” وسياستها، إلى هجوم على الدولة وسياساتها الأمنية القمعية، في مايو/أيار 2023، اُعتقل 39 مشجعًا من جماهير النادي الأهلي من منازلهم، بسبب دعوتهم لمقاطعة شركة “تذكرتي”، بعد حضورهم إحدى المباريات وعبروا عن شعورهم بالغضب على السوشيال ميديا، بسبب تعرضهم لأساليب قمع من أجل دخول الملاعب.
اعتقال هؤلاء الشباب من منازلهم، بعد يوم واثنين من نهاية المباراة، أوصل رسالة للجماهير مفادها أن أذرع الدولة طويلة إلى هذا الحد، ولم تكن تلك السابقة الأولى للاعتقال على أساس البيانات، ففي عام 2018 وقبل فرض “تذكرتي” نفوذها، سلم رئيس النادي الأهلي بيانات بعض مشجعي النادي الذين حضروا إحدى المباريات لتسهيل القبض عليهم، حين قاموا بسب الرئيس ووزارة الداخلية، وترديد هتاف “حرية” الشهير الملتصق بمظاهرات يناير.
وفي عدد من المرات الأخرى تم القبض على عدد من المراهقين والأطفال بسبب هتافات مثيلة، كل ذلك، وجماهير الطبقات العليا الذين يحجزون تذاكر كبار الزوار والمقصورة والدرجة الأولى يذهبون إلى الملاعب، ودون أي تضييق يقيمون احتفالات بأعياد ميلادهم، أي أنهم يدخلون ولاعات وشموع وزجاجات مياة غازية، ولا تصادر منهم أغطية زجاجات المياة المعدنية كجماهير الدرجة الثالثة.
لقد أصبح حضور مباراة كرة قدم في مصر وإعطاء بياناتك بشكل بريء وطوعي إلى جهة رياضية، بمثابة تسليم نفسك إلى قسم شرطة، لذلك اتخذت الجماهير رد فعل مقابل غير مُنظم أو مُحشد من خلال السوشيال ميديا، وأصبح حضور مباريات منتخب مصر ضعيفًا، إلى درجة خروج وزير الشباب والرياضة في كل مباراة للمنتخب الوطني ليخفض سعر التذكرة بنسبة 75%، وفي النهاية لا يملأ الحضور عين أحد، ويلعب اللاعبون كأنهم في صحراء.
عطن الرياضة ورموزها
تُعد الرياضة في مصر نموذجًا مصغرًا لفساد وعشوائية الدولة وانعدام تخطيطها، ويشكل المشهد الرياضي صورة عن الواسطة والشللية وتوارث المناصب، حينما يقوم المشاهد بتقليب قنوات التلفاز يجد أبناء أشخاص رياضيين في الماضي أصبحوا إعلاميين في الحاضر، ويجد أبناء إعلاميين أصبحوا لاعبي كرة قدم في فرق، كأحمد شوبير وابنه مصطفى شوبير، أو فاروق جعفر وابنه سيف فاروق جعفر. إنها عائلات وأسر تشابه مثيلاتها التي تحتكر العمل في مؤسسات القضاء والشرطة والجيش، غير أنهم يعملون في القوة الناعمة وليس في مؤسسة سيادية.
غير ذلك، وعلى مدار 10 سنوات ماضية، كانت فضائح المجال الرياضي في مصر هي التي تتصدر المشهد دائمًا، والمغزى أن كل المسؤولين آمنوا الحساب، فوزير الشباب والرياضة مستقر في منصبه من الأبد إلى الأبد، ونفس الوجوه لا تتغير.
تُدار الرياضة في مصر بعشوائية مُضجرة كذلك، لا ينتظم جدول دوري كرة القدم في مواعيده منذ 10 سنوات، لم ينجح أي جهبذ في جهاز الرياضة في حل مشكلات ذلك الجدول الذي يخالف سير جداول الكوكب، كما أن مدرب منتخب مصر يتم تعيينه وفقًا لتوجيهات الأمر العالي من السيد الرئيس مباشرةً، حيث أمر الرئيس في أحد مؤتمراته التي كان يشكر فيها شركة “تذكرتي” بتعيين مدربين مصريين.
كذلك أصبحت تحوي الرياضة في مصر مُدخلات لغسيل الأموال وتبييض السمعة، وآخرها كان دخول إبراهيم العرجاني ذي السيرة المشبوهة واللغط الدائم إلى رعاية النادي الأهلي المصري، أكبر نادي جماهيري في مصر.
فقط في الأيام الأخيرة، التي سبقت الأولمبياد وخلالها، حفل الوسط الرياضي في مصر بالعديد من الفضائح، كان أولها قضية لاعبة الدراجات، شهد سعيد، والتي كانت ستشارك في أولمبياد باريس رغم تعمدها إصابة زميلتها جنة، ولولا الضغط القوي من السوشيال ميديا، لكانت شهد تُشارك الآن في الأولمبياد.
قضية شهد، قد غطت على قضية كانت مثار الجدل، وذروة الضيق بالرياضة المصرية والاحتجاج عليها جماهيريًا، وهي قضية وفاة اللاعب أحمد رفعت قبل أيام قليلة، متأثرًا بإصابته في القلب وحالته النفسية السيئة التي كان قد أفصح عنها في حوار تلفزيوني قبل أسبوع من مماته.
لقد أتت قضية رفعت – التي مس فيها الجدل مؤسسات الدولة المحظور الحديث عنها كالمؤسسة العسكرية والتجنيد الإجباري – برأس رئيس رابطة الأندية المصرية الذي اتهم بالتسبب بتلك الكارثة النفسية التي أودت بحياة اللاعب، طمعًا في 500 ألف دولار، وهو النائب وعضو حزب مستقبل وطن أيضًا أحمد دياب، وأدت – ضمن مساعي التستر عليها وطمسها سريعًا – إلى الإطاحة بأحمد شوبير، رمز الإعلام الرياضي في مصر، والذي لطالما أحاطت به شبهات الفساد.
ولا ينتهي سلسال فساد الرياضة المصرية، ففي شهر يوليو/تموز 2024 وحده، أثناء المنافسات الأولمبية، جرى استبعاد لاعبة الملاكمة يمنى عياد، لتخسر مصر أول مشاركة نسائية لها في تلك اللعبة في تاريخها بالأولمبياد. كان هذا الاستبعاد سببه زيادة وزن اللاعبة 700 جرام. وأخذ المسؤولون يتقاذفون الاتهامات بتلك الفضيحة فيما بينهم على وسائل الإعلام، وانتهت إلى تبييضها ببيان صحفي نشره اتحاد الملاكمة النسائية يُرجع فيها سبب تلك الزيادة إلى “العوامل الفسيولوجية للمرأة التي نتحفظ على ذكرها بما يتناسب ويراعي قيمنا الأسرية المصرية”.
إن هذا الأولمبياد الذي لا يُمر يوم إلا ويحمل معه خبرًا يثير الشماتة والفضيحة يخص البعثة المصرية، قد كلفت الدولة أكثر من مليار جنيه، في وقت كانت الدولة تُعاني فيه اقتصاديًا، ورغم ذلك، وتماشيًا مع نمط البهرجة الذي يحبه النظام، أرسلت مصر أكبر بعثة أولمبية في تاريخها، ليكون نتاجها هزيلًا حتى اللحظة، وتوقعات بقادم أسوأ، في الوقت الذي أرسلت فيه دول غنية ومستقرة مثل السعودية والإمارات وقطر والمغرب عددًا قليلًا من اللاعبين.
ورغم تلك المليار جنيه، لا ينفك لاعبو الرياضات المصرية عن الهروب لتمثيل جنسيّات أخرى، مدعين أنهم لا يتلقون مكافآت ورعاية سوى الفتات، مثل المصارع سيف الكومي، والمصارع أحمد فؤاد، وغيرهم من الذين فروا في رياضات أخرى على مدار السنوات السابقة.