في بيان لها صباح اليوم الأربعاء، نعت حركة المقاومة الإسلامية حماس رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، الذي اُغتيل إثر استهداف مباشر لمقرّ إقامته في عاصمة إيران، حيث تواجد هناك للمشاركة في احتفال تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، لتُطوى بذلك صفحة الرجل الذي ترأّس حركة حماس في أكثر مراحلها حساسية إثر عملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها على عمق دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر 2023.
وفيما لم تتبنَّ دولة الاحتلال بشكل رسمي عملية الاغتيال حتى اللحظة، فإن مسؤوليتها عن الاستهداف معرفة لا شك بها، مؤسَّسة على تهديدات رسمية سياسية وعسكرية منذ سنوات لهنية ارتفعت وتيرتها بعد السابع من أكتوبر، لكنها لم تثنِ الرجل عن مواصلة عمله والسعي لاستنهاض الشارع العربي والإسلامي لنصرة القضية الفلسطينية، وكانت آخر مساعيه قبل يومَين حين دعا إلى جعل 3 أغسطس/ آب “يومًا وطنيًا وعالميًا لنصرة غزة”.
تنتهي هنا مسيرة إسماعيل هنية، شهيدًا بعيدًا عن غزة وشعبها مئات الأميال، لكن عمله متصل بها من القلب إلى القلب، كيف لا وهو ابن مخيماتها ومدارسها، وله في شوارعها صولات المربي والمعلم، وجولات القائد والمجاهد.
الميلاد والنشأة
وُلد إسماعيل عبد السلام أحمد هنية في مخيم الشاطئ عام 1963، وتنحدر أصوله لأسرة فلسطينية لاجئة من قرية الجورة في مدينة عسقلان المحتلة، أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ثم حصل على الثانوية العامة من معهد الأزهر الديني بغزة قبل أن يلتحق بالجامعة الإسلامية ويدرس اللغة العربية فيها.
تزوّج في عمر مبكّر من ابنة عمه آمال هنية، وقد أثمر زواجهما 13 ابنًا، خمس من البنات وثمانية من الأولاد، وكان ثلاثة من أولاده قد استشهدوا مطلع أبريل/ نيسان الجاري إثر استهداف إسرائيلي مباشر لسيارتهم، ما أدى إلى مقتلهم مباشرة برفقة ثلاثة من أحفاده.
ورغم ترؤّسه لحركة مقاومة تصاعدَ بأسها بشكل تراكمي خلال سنوات عديدة، وأثبتت صلابتها في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة غربيًا، وموجة من المؤامرات العربية والإقليمية والفلسطينية الداخلية، لكن شخصية إسماعيل هنية وهدوءه وقدرته على تجاوز الأزمات والفجوات الشخصية وحفاظه على علاقات طيبة مع الجميع عربيًا وفلسطينيًا، جعلته “المعتدل الأخير” في الحركة، و العقل الأكثر براغماتية وسط قياداتها.
من السجن إلى النفي وحتى الاستشهـ..ـاد.. نتعرف على أهم محطات حياة إسمــ..ـاعيل هنيـ..ـة النضالية والسياسية. pic.twitter.com/27xSG0lkz2
— نون بوست (@NoonPost) July 31, 2024
في ميدان العمل السياسي
في مراحل شبابه برز هنية في العمل الطلابي، حيث تولى عضوية مجلس طلاب الجامعة الإسلامية في غزة المشكّل من الكتلة بين عامي 1983-1984، قبل أن يتولى منصب رئيس المجلس في الفترة الواقعة في عامَي 1985-1986، وإبّان انطلاقة حركة حماس اُعتقل هنية في سجون الاحتلال بدءًا من العام 1987 لمدة 18 يومًا، وتكرر اعتقاله عامَي 1988 و1989 حيث أمضى 3 سنوات في المعتقل.
ثم أُعيد اعتقاله منتصف ديسمبر/ كانون الأول 1992، وأُبعد مع أكثر من 400 قيادي فلسطيني من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني، وهو الإبعاد الذي ساهم في مأسسة حركة حماس وإيصالها إلى النموذج الحاضر في وعيها السياسي وعلاقاتها الدولية والعربية.
وبعد عودة منظمة التحرير إلى الأراضي الفلسطينية، سجّل هنية موقفًا متقدمًا في تاريخ حركة حماس، حين ارتأى أهمية الحوار والتواصل مع السلطة وتطوير العمل السياسي بتحويل حماس إلى حزب سياسي، وهو ما اعتبره تمكينًا لها في “التعامل مع التطورات الناشئة” مدعومًا برأي رفقاء له من بينهم غازي حمد، لكن النظام العام في الحركة حينها اختار عدم التواصل مع السلطة، معتبرًا أن التواصل هو إشعار قبول للنهج التفاوضي في أوسلو.
وإبّان الانتخابات التشريعية عام 1996، تقدّم هنية بترشُّحه للمشاركة في الانتخابات مع أربعة من قيادات الحركة ومؤسسيها، ليتراجع لاحقًا وينسحب إثر ضغوط من الصف الأول في قيادة الحركة.
بعد الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، الزعيم الروحي والمؤسس الأب لحركة حماس عام 1997، ترك إسماعيل هنية عمله كمحاضر في الجامعة الإسلامية، وتولى مسؤولية إدارة مكتب أحمد ياسين، واستتبع ذلك بتفاعل كبير له مع الفصائل الفلسطينية من مختلف الأطياف والمشارب، مشكّلًا معها علاقات ودية توافقية، مدعومًا بموقف الشيخ أحمد ياسين بتعزيز العمل الوطني الوحدوي، ما أهّله لاحقًا ليكون ممثل حركة حماس في لجنة المتابعة العليا للفصائل الوطنية والإسلامية خلال “انتفاضة الأقصى”.
ومع اندلاع “انتفاضة الأقصى” واشتعال ميدان العمل المقاوم، كان عمل هنية في مكتب الشيخ أحمد ياسين يأخذ أبعادًا كبيرة من المساهمة في العمل السياسي، والاطّلاع على العمل العسكري المقاوم، والحفاظ على نسق المقاومة مشتعلًا بالاتفاق مع الفصائل، ما دفع الاحتلال إلى تنفيذ محاولات اغتيال متكررة بحقّه، كان أبرزها محاولة اغتياله والشيخ ياسين عام 2003 التي نتجت عنها إصابته.
مع التغير الدراماتيكي في تاريخ حركة حماس ووصولها إلى السلطة إثر انتخابات عام 2006، وفوز مرشحي الحركة في قائمة التغيير والإصلاح بـ 76 مقعدًا من أصل 132 في المجلس التشريعي الفلسطيني، ترأّس هنية الحكومة الفلسطينية العاشرة بعد فوز حركته في الانتخابات البرلمانية، حيث تعرضت حكومته لموجة حصار وتحريض دولية وعربية وإقليمية وفلسطينية داخلية.
فقد تم قطع التمويل الغربي والعربي والدولي عنها، وأوقفت البنوك تعاملها مع الحكومة، واستنكف الآلاف من أنصار حركة فتح عن الالتزام بوظائفهم في إصرار على إفشال حكومة هنية، وخلال تلك المدة نُقل عنه تصريحه: “سنأكل الزعتر والملح والزيتون ولن نُطأطئ الهامات ولن نهون ولن نتراجع”، معلنًا التقشّف عنوانًا لحكومته وتحديًا للاحتلال وأعوانه.
إثر ذلك استمرت ملاحقته وحصاره من قبل الاحتلال، بل تم منعه من دخول قطاع غزة بعد جولة دولية له في العام نفسه، وتعرّض منزله لإطلاق نار من قبل أفراد محسوبين على حركة فتح، وأمام حجم الحصار العربي والدولي وجدَ هنية أنه من الأفضل لحركة حماس تجاوز رئاسة الحكومة والاتجاه لحكومة توافق وطني، وبعد سلسلة مشاورات وقّع مع الفصائل الفلسطينية اتفاق الشاطئ عام 2007 في منزله بالمخيم ليتنازل عن رئاسته.
رغم ذلك بقيت شعبيته في الشارع الفلسطيني حاضرة ومدعومة بمواقفه المتوازنة، وحرصه على استمرار الحوار وصولًا إلى التوافق الوطني الكامل، وكانت مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي قد أكدت في أكثر من استطلاع تقدُّم حظوظه في أي انتخابات فلسطينية على منافسين آخرين، مثل محمود عباس أو محمد دحلان.
حماس هنية: عهد جديد على طريق المقاومة
في العام 2017 اُنتخب هنية رئيسًا للمكتب السياسي لحركة حماس خلفًا لخالد مشعل، ليدشن عهدًا جديدًا للحركة برفقة كل من يحيى السنوار رئيس حركة حماس في قطاع غزة، وصالح العاروري رئيس حركة حماس في الضفة الغربية، معيدًا تأكيد بوصلة الحركة نحو المقاومة والانفتاح على أي دعم دولي للحركة، وهو ما حوّل إيران إلى داعم أساسي للحركة، ورفع ميادين التعاون لتطال تطويرًا عسكريًا مع أذرعها خاصة “حزب الله”، وأخرج الحركة من سجالات الوضع العربي الداخلي ومآلات ربيعه العربي المهشّم.
إثر ذلك عمدت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018 إلى وصمه بالإرهاب، وفرضت عليه عقوبات باعتباره “ذا صلة وثيقة بالجناح العسكري لحركة حماس”، ليردَّ على ذلك بـ”انقعوه واشربوا ميته”، مواصلًا تطوير حركة حماس وتعزيز صلاتها بالمقاومة وميادينها، والاستفادة من جميع الساحات والقنوات الدولية والإقليمية لتشكيل روابط تعزز صمودها ومقاومتها.
ورغم ميله الواضح إلى منهج السنوار في أهمية العمل العسكري وتقدمه على جميع الأولويات، وعلى اعتباره الميزان في العلاقات الدولية، إلا أنه لم يقطع حبال الودّ بينه وبين الدول العربية، وحظيَ بعلاقات دافئة مع قادة كلٍّ من عُمان والجزائر وتركيا وقطر ومصر، وجمعته بهم زيارات خاصة وتأكيد مشترك على الحق الفلسطيني.
تكلّل نجاح هنية في إعادة انتخابه رئيسًا للحركة مرة أخرى في الدورة الانتخابية 2021 التي مثّلت ذروة العمل المقاوم، حيث اُفتتحت بمعركة “سيف الأقصى” عام 2021 التي وضعت فيها الحركة قاعدتَين في عملها المقاوم: الأولى هي استعدادها الدائم للدفاع عن المسجد الأقصى في مواجهة التهويد والتقسيم الزماني والمكاني، والثانية هي وحدة الساحات لتدعيم العمل المقاوم وتعزيز نتائجه.
ومن خلال هذا السياق، نشط هنية في سلسلة جولات دولية وإقليمية لتوسيع آفاق العمل المقاوم وتدعيمه سياسيًا ودبلوماسيًا، فأبرق التهاني والتعازي في المناسبات المختلفة لقادة الدول العربية، وتعاطف مع قضايا الشعوب وأوجاعها من زلازل وفيضانات وكوارث، كما شارك رسميًا في أنشطة دولية، وتكللت مساعيه بانفتاح روسي صيني، ودعم أفريقي متزايد، وشعوب وحكومات مؤيدة في أمريكا اللاتينية.
وما بين هذه المحطات، عُرف هنية بشعبية كبيرة وبمواقف معتدلة ومجمعة للشتات الفلسطيني والعربي، وبمحاولاته تأسيس علاقات ودّية مع جميع الدول العربية حتى تلك التي تصرّح بعدائها لحركة حماس ومقاومتها، وبتأكيده على الوحدة الوطنية الفلسطينية.
معركة التحرير والطوفان
يذكر الشارع العربي الصور الأولى لمعركة “طوفان الأقصى”، وخطاب هنية المتلفز الذي تلا صلاة “لشكر الله على هذا النصر“، أدّاها برفقة أعضاء المكتب السياسي ومنهم رئيس حماس في الضفة الغربية صالح العاروري، الذي استشهد إثر غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت مطلع العام الحالي، حيث أكد هنية في جميع خطاباته عزم حركته وقياداتها على مواصلة المعركة حتى النصر أو الاستشهاد، وشدد على استعداده لتلقي الموت بل ترحيبه به.
وفيما تضاربت التكهّنات حول معرفته المسبقة بعملية “طوفان الأقصى”، فإن مجريات الميدان تؤكد أن عمله الدبلوماسي وجولاته لحشد الدعم الشعبي والدولي لم تكن سوى جزء من عمل دؤوب على مختلف الأصعدة لطوفان ما.
خلال العام الحالي أيضًا، تلقى هنية أنباءً عن استشهاد ثلاثة من أبنائه وأكثر من عشرة من أحفاده باستهداف إسرائيلي، ولم يكن للرجل سوى أن يقول: “الله يرحمهم.. الله يسهّل عليهم”، ليؤكد لاحقًا أن “هذه الدماء لن تزيدنا إلا ثباتًا على مبادئنا وتمسّكًا بأرضنا”.
وردًّا على دوره في تمثيل المقاومة ودعمها، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/ أيار المنصرم قرارًا بإصدار مذكرات اعتقال بحقّ إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف، بتهمة مسؤوليتهم الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في السابع من أكتوبر 2023، شمل القرار أيضًا رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع، ما اعتبرته حماس مساواة بين الجاني والضحية، وعُوارًا في الممارسة القانونية العادلة.
وبينما يتداول الكثيرون صور إسماعيل هنية في حفل تنصيب الرئيس الإيراني باعتبارها آخر ظهور له، ظلَّ هنية حتى قبيل ساعات من مقتله يصدر دعواته ونداءاته إلى الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم لمساندة القضية الفلسطينية، وجعل يوم 3 أغسطس/ آب يومًا لنصرة غزة وشعبها.
ورغم بُعده عن غزة، إلا أن هنية بقيَ لآخر أيامه يهجس بالحنين إلى ثراها، وبنصر يراها تحققه، وبصلاة شكر أخرى يصليها على أرضها. أطلقت دولة الاحتلال النار على آخر براغماتيي في حماس، وعلى أكثر جنودها مراعاة للتوازنات والحساسيات العربية والإقليمية، وعليها الآن أن تحاول إيجاد مخرج لها من حرب لا بدَّ ستبتلعها، اليوم أو غدًا.