تجري في هذه الأيام فعاليات الدورة الأولى بعد السبعين من مهرجان كان Festival de Cannes السينمائي، وتأتي رياح هذا العام بذكريات خاصة يختزنها أرشيف المهرجان منذ 50 سنة بالضبط، حين ألغي المهرجان مع ثورة مايو ١٩٦٨ الشهيرة في فرنسا، وكما كان جان لوك غودارJean Luc Godard أحد أبرز وجوه دورة 68، فإن حضوره في هذه الدورة أيضًا كان استثنائيًا منذ بدايته، غير أن ذكرى مايو ١٩٦٨ ليست الخمسينية الوحيدة الحاضرة في كان، كما أصر على ذلك المخرج كريستوف نولان.
قيادة نسائية
للمرة الثانية عشر، تترأس امرأةٌ لجنة تحكيم المسابقة الرئيسية في كان، وهذه المرة من نصيب الممثلة الأسترالية كايت بلانشيتCate Blanchett، ترافق كايت في اللجنة أسماء معروفة أغلبها نسائية مثل الممثلتين كيرستن ستيوارت Kirsten Stewart (سلسلة أفلام الشفق Twilight) وليا سيدو Léa Seydoux، وتضم اللجنة المخرج الكندي دني فيلنوف Denis Villeneuve أيضًا.
ومثلما أثرت حملة “أنا أيضًا” #meToo على حفل الأوسكار، فقد سجل الاحتجاج النسوي حضوره على البساط الأحمر، فقبل العرض الأول لفيلم “بنات الشمس” Les filles du soleil، أقامت 82 امرأة من أهل السينما وقفة احتجاجية على البساط الأحمر تتقدمهن كايت بلانشيت رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية وآنياس فاغدا Agnès Varda الناقدة والسينمائية الفرنسية الكبيرة، ويرمز عددهن إلى عدد النساء اللاتي حظين بعرض أول لأفلامهن طيلة أعوام المهرجان التسعين، وهو رقم كارثي إذا ما قورن بالألف وستمائة وثمانية وثمانين مخرجًا في المقابل.
لا يقتصر الحضور الإيراني على فراهاني، فقد نال المخرج الكبير أصغر فرهادي حظوة افتتاح المهرجان بفيلمه الإسباني “الكل يعلم” Todos lo saben
كما تضمن الاحتجاج المطالبة بالمساواة الكاملة في الأجور بين الرجال والنساء في القطاع، وهو ما تطمح إليه الجهات المنظمة للوقفة مع حلول سنة 2020. أما عن بنات الشمس، فهو الفيلم الروائي الطويل الثاني للفرنسية لإيفا أوسون Eva Husson، ويهتم بالمقاتلات الكرديات اللاتي واجهن مقاتلي داعش، وهو من بطولة النجمة الإيرانية الفرنسية گلشیفته فراهاني.
المسابقة الرسمية
لا يقتصر الحضور الإيراني على فراهاني، فقد نال المخرج الكبير أصغر فرهادي حظوة افتتاح المهرجان بفيلمه الإسباني “الكل يعلم”Todos lo saben وهو فيلم إثارة من بطولة النجمين الإسبانيين خابيير بارذم Javier Bardem وبينلوبي كروز Penelope Cruze، ينبش في ماضي امرأة مدريدية ظنت نفسها تجاوزته بعائلة أرجنتينية وغياب طويل.
أما جعفر پناهي فيشارك في المسابقة بفيلم إيراني خالص، يشارك في بطولته مع بهناز جعفري ومرضیه رضایی، ويلعب ثلاثتهم بشخصياتهم الحقيقية رغم طابع القصة الخيالي، فمرضيه طالبة تمثيل من وسط ريفي تطلب المساعدة لإقناع أهلها بالسماح لها بالعمل في مجال التمثيل، فتقرر الممثلة المعروفة بهناز جعفري أن تساعدها مستعينة بالمخرج بناهي، وهي فيما يبدو قصة تحمل عناصر مألوفة في السينما الإيرانية.
يتعزز حضور الدول الإسلامية في Cannes بالفيلم التركي “شجرة الكمثرى البرية” Ahlat Ağacı للمخرج نوري بيلجي جيلان
ولم يحضر جعفر بناهي المؤتمر الصحفي للفيلم بما أنه محكوم عليه من العدالة الإيرانية بعدم السفر خارج البلاد، ورغم الضغوطات التي مارستها الأوساط السينمائية في داخل إيران وخارجها، لم يتسن للرجل الخروج، وبدا المؤتمر في غيابه أشبه بتنديد لما تعرض له الرجل الحائز على الدب الذهبي سنة 2015 والأسد الذهبي سنة 2000.
ويتعزز حضور الدول الإسلامية في Cannes بالفيلم التركي “شجرة الكمثرى البرية” Ahlat Ağacı للمخرج نوري بيلجي جيلان الذي يروي معاناة كاتب يحاول تجاوز مشاكله المالية لنشر أعماله، أما الحضور العربي، فتمثله المخرجة اللبنانية نادين لبكي بعملها الجديد كفرناحوم، وهو أول فيلم لبناني يشارك في المسابقة الرسمية منذ سنة 1991، ولا يعد غياب السينما المصرية عن المسابقة الرسمية أقل قيمة، فالانتظار يعود إلى فيلم المصير ليوسف شاهين سنة 1997، واليوم ينهي أبو بكر شوقي هذه القطيعة بفيلم يوم الدين الكوميدي، فهل ينجح العملان العربيان في إثارة الأقلام عند الساحل الأزوري؟
جون لوك غودار وذكرى مايو 68
سنة 1968 حين بدأت ثورة الطلبة الفرنسيين تأخذ حجمًا أكبر بسبب القمع البوليسي، انتقلت العدوى إلى أهل السينما في كان، فدعت جمعية النقاد الفرنسيين ضيوف المهرجان إلى المقاطعة والانضمام إلى الطلبة الثائرين، وبدأت سلسلة إيقافات العروض على أيدي سينمائيين فرنسيين كبار مثل فرانسوا تروفو François Truffaut، وكان جان لوك غودار وهو أحد مؤسسي الموجة الفرنسية الجديدة La nouvelle vague، أحد أكثر المتحمسين لثورة ١٩٦٨، وكان يدعو إلى استبدال البرمجة بعروض سينمائية توثيقية حرة لفعاليات الاحتجاجات والإضرابات، وقد صعد بنفسه إلى الركح لإيقاف بعض العروض المبرمجة.
لم تعرف سنة ١٩٦٨ السينمائية إلغاء المهرجان فحسب، بل شهدت العرض الأول للأيقونة السينمائية أوديسا الفضاء لستانلي كيوبرك
واليوم وبعد خمسين سنة من الدورة اللاغية، يشارك المخرج الفرنسي الكبير بفيلم “كتاب الصورة” الذي سيحدث جدلاً كبيرًا من ناحية شكله ومضمونه، فرغم طابعه الروائي يخلو الفيلم من ممثلين، وتسود الصورة لترسم عالمًا عربيًا وقصة عن “الثورة المتوهمة في إمارة لا نفط فيها”.
ولأن الرجل لا يستطيع أن يسجل حضورًا عاديًا، فقد اختار ارتياد المؤتمر الصحفي للفيلم بشكل افتراضي عبر هاتف ذكي لا غير، فكان مشهد الصحفيين وهم يقتربون من الميكروفون ومن الهاتف المعلق الذي يعرض صورة غودار، أحد أهم فصول هذه الدورة.
الذكرى الخمسون.. مرة أخرى
لم تعرف سنة 68 السينمائية إلغاء المهرجان فحسب، بل شهدت العرض الأول للأيقونة السينمائية أوديسا الفضاء لستانلي كيوبرك، وبعد 50 سنة من ذلك التاريخ، أنجز المخرج كريستوفر نولان، نسخة 70 مليمتر جديدة للفيلم خالية من أي إضافات رقمية، لذلك فهي تعد النسخة الأقرب والأكثر شبهًا بالنسخة الأصلية التي عرضت سنة 1968، وهو بذلك يمنحنا القدرة على الحصول على ذات التجربة السينمائية الفريدة التي قدمها كيوبرك منذ 50 سنة. سوف ننتظر يوم الأحد القادم لمعرفة الفائزين في المسابقة الرسمية، ومسابقة نظرة ما، والمتوجين بسعفات كان 2018، فهل يكون من بينها حضور عربي؟