لم يهنأ الفلسطينيون بعيش كريم منذ أن هُجّروا من بلادهم في الـ15 من مايو 1948، ولم يكن من الفلسطينيين من يظن أنه لن يرى بيته ثانية ولن يقطف ثمرة حقله ولن يعود لقريته بعد أن خرجوا منها تحت أزيز الرصاص ورعود المدافع وغارات العصابات الصهيونية، يبتغون موضعًا آمنًا يمكثون فيه شيئًا من الوقت ريثما تضع الحرب أوزارها، حالهم في ذلك حال أي نازح لحقت بدياره نيران الحرب وأهوالها.
وكان أغلب ظنهم أنها أيام يمكن احتمالها بما فيها من آلام وقهر، الكاتب الفلسطيني عمر البرغوثي في كتاب “المراحل” وصف تصَّور المشردين للأحداث في الأيام الأولى للنكبة بقوله: “كان الأمل يحدو المشردين أن مدة نزوحهم عن أوطانهم قصيرة، وسيعودون إليها وهم يحملون راية النصر وسيستردون ما فقدوا، ونغمات الأماني تدغدغ أحلامهم وتهدئ هواجسهم”، وكان الشعب الفلسطيني على ثقة بمجموعات الثوار والجيوش العربية التي جاءت لنصرتهم ورد العدوان عنهم، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه القلوب المفزوعة، والخروج المؤقت امتد ليطوي اليوم عامه الـ70.
في حينها لم يحسب الفلسطينيون أنهم يمرون في سرداب مجهول النهاية، تدفعهم إليه عصابات المنظمة الصهيونية ومجموعاتها الإجرامية ضمن خطة محكمة أحيكت بليل بليد تهدف في نهايتها إلى تفريغ فلسطين من سكانها وأهلها الشرعيين لإقامة دولة للكيان الصهيوني على أنقاضها، لم تُبق في سبيل إقامتها عصابات الحرب الصهيونية من قبيح الأفعال فعلًا إلا وارتكبته ولم تدع جريمة من الجرائم إلا واستخدمتها لإرهاب الفلسطينيين الذين جلهم من المدنيين والفلاحين المسالمين ممن ليس لهم معرفة بدسائس الحركة الصهيونية ومكرها ولا خبرة عندهم بفنون القتال وعلومه.
كانت تلك العصابات تَغير تحت جنح الظلام على الناس وهم نيام في بيوتهم وتقتلهم بالسلاح الأبيض تارة والرصاص والقنابل أخرى
المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه أكد في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” أن ما جرى في فلسطين تطهير عرقي مخالف للأعراف والقوانين الدولية ويعتبر جريمة ضد الإنسانية، وكشف أنه بتاريخ الـ10 من مارس 1948 عقد دافيد بن غوريون اجتماعًا في تل أبيب بحضور 10 من القادة الصهيونيين لوضع اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقيًا تسمى الخطة “دالت” التي تضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ هذه الخطة ومنها إثارة الرعب وقصف القرى والمراكز السكنية وحرق المنازل وهدم البيوت وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم وتدمير المدن الفلسطينية واحتلالها بعد مجازر بشعة، ومع اكتمال تنفيذ الخطة كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى قطاع غزة والضفة الغربية والدول المجاورة، ودمرت 531 قرية وأخلي 11 حيًا مدنيًا من سكانه.
كانت تلك العصابات تَغير تحت جنح الظلام على الناس وهم نيام في بيوتهم وتقتلهم بالسلاح الأبيض تارة وبالرصاص والقنابل أُخرى، وتخرب حقولهم وتقتل دوابهم التي يستعينون بها على إنجاز فلاحتهم وإطعام عيالهم، ليس هذا فحسب بل استهدفت أيضًا نفوس الناس ومعنوياتهم مستخدمة أساليب الحرب النفسية والدعاية السوداء فأطلقوا الشائعات ونشروا الأكاذيب ليدب الرعب في قلوب الفلسطينيين وينغرس الوهن في نفوسهم.
وتحدث الدكتور شريف كناعنة في كتابه “الشتات الفلسطيني: هجرة أم تهجير؟” عن الأساليب النفسية التي اتبعها اليهود لإكراه العرب على ترك بلادهم التي كانت توجهها الإذاعات اليهودية السرية إلى العرب الفلسطينيين من أجل تقويض ثقة السكان بأنفسهم وقياداتهم وإثارة الحديث عن الخلافات السياسية بين العرب وضعفهم وقلة كفاءتهم.
واستعمال مكبرات الصوت لبث تسجيلات لأصوات صرخات أنين ونحيب النسوة العرب ورنين أجراس عربات الإطفاء يقطعها صوت جنائزي مناشدًا باللغة العربية: “انقذوا أرواحكم أيها المؤمنون، اهربوا لتنجوا”، وإذاعة إنذارات للعرب بضرورة الرحيل ومغادرة قراهم ومدنهم في فترات محدودة وإلا تعرضوا للقتل، من تلك النداءات “إذا لم تتركوا بيوتكم فإن مصيركم سيكون مثل دير ياسين، انج بنفسك“، وتوزيع بيانات كتب فيها: “على الناس الذين لا يريدون الحرب أن يرحلوا جميعًا، ومعهم نساؤهم وأطفالهم ليكونوا آمنين، إنها سوف تكون حربًا قاسية ودون رحمة ولا ضرورة لتخاطروا بأنفسكم”.
تشتت الشعب الفلسطيني في بقاع الأرض ليعيش فصلًا آخر من الذل والهوان
مناحيم بيغين الذي كان رئيسًا لفيلق في منظمة “شتيرن” إبان نكبة عام 1948 اعترف في مذكراته الواردة في كتابه الذي حمل اسم “التمرد” بأن الحركة الصهيونية عملت عبر بعض الإذاعات المحلية والصحف المبتدئة وبمساندة من الإعلام البريطاني على تهويل حجم هذه المذابح، وإرفاقها بأخبار عن انتهاك الأعراض حتى يصاب الفلسطيني بحالة من الرعب تدفعه نحو مغادرة مكان سكناه.
وجاء في كتاب “جندي مع العرب – مذكرات غلوب باشا” تفنيدًا لأكذوبة خروج الفلسطينيين طوعًا من بلادهم أو أنهم باعوها لليهود “العربي الذي يغادر أرضه راضيًا، كان من الواجب عليه أن يبيع بيته، إذا كان يملك بيتًا، أو يحمل أمتعته ويستعد لهذا الرحيل على الأقل، ولكن أن يغادر بلده دون أن يحمل شيئًا ودون أن يعرف مصير عائلته، وأن يُقتل ابنه على يديه حتى لا يفكر في العودة، إن عربيًا خرج من فلسطين بهذه الطريقة لم يغادر راضيًا، إنما اليهود أجبروه على الخروج تحت وطأة الخوف والإرهاب، على إثر المجازر والمذابح الرهيبة التي نفذوها في طول وعرض البلاد”.
تشتت الشعب الفلسطيني في بقاع الأرض ليعيش فصلًا آخر من الذل والهوان، فلم ترحمهم عروبتهم ولم يشفع لهم ما أصابهم من ظلم الأعداء، فلا أبأس من مخيمات اللجوء ولا أسوأ من العيش فيها، وأصابهم من التهميش والتميز والإهمال المتعمد والحرمان من الحقوق والخدمات الأساسية والإنسانية ما يزيد من شقاء العيش وضنك الحياة، الكاتب والمفكر الفلسطيني الراحل حسن مصطفى يصف حياة اللاجئين الفلسطينيين في خمسينيات القرن المنصرم بقول مؤلم في كتابه “واقعيات” “وعدت لا أُعنى (بالميليمترات) بعد أن فاقت هذا العام الرقم القياسي، بل صرت أقيس الأمطار بالبيوت المنهارة والخيام المقتلعة والأرواح الذائبة”.
تطاول إعلاميون مشهورون لهم تأثيرهم في الشارع العربي على الفلسطينيين منهم توفيق عكاشة الذي اتهم الفلسطينيين في أكثر من مناسبة بأنهم ناس باعوا قضيتهم وباعوا أنفسهم وأن العرب منذ 1948 واقعون بسببهم في الدم
في هذا الوقت الحاسم الذي تواجه فيه القضية الفلسطينية خطر التصفية عبر صفقة القرن الأمريكية، تتصاعد من أعلام وساسة عرب حملات ممنهجة من التحريض على الشعب الفلسطيني، فلم يتورع ضاحي خلفان عن الدفاع عن “إسرائيل” في سلسلة من التغريدات عبر حسابه على “تويتر”، مؤكدًا أنهم يستحقون أن تكون لديهم دولة، بل مطالبًا العرب بمنحهم دولة يعيشون فيها باعتبارها دولة مسكينة، معتبرًا أن من يرفض مثل هذا الاقتراح يعد من الشياطين، وتهجم وزير الاستثمار السوداني مبارك الفاضل المهدي على الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية ومدحه لـ”إسرائيل” بوصفها دولة ديمقراطية وادعائه أن القضية الفلسطينية أخرت العالم العربي كثير جدًا.
ومن ذلك أيضًا تطاول إعلاميين مشهورين لهم تأثيرهم في الشارع العربي على الفلسطينيين، منهم توفيق عكاشة الذي اتهم الفلسطينيين في أكثر من مناسبة بأنهم ناس باعوا قضيتهم وباعوا أنفسهم وأن العرب منذ 1948 واقعون بسببهم في الدم، ووصف الإعلامي عمرو أديب “إسرائيل” بالجارة وأنها الصح وأرسل لها سلامًا مربعًا!
وذهب المحلل الاقتصادي السعودي حمزة السالم إلى أبعد من ذلك حين روج للسياحة في تل أبيب، متوقعًا في تغريدات له على تويتر أنه إذا عُقد سلام مع “إسرائيل” فإنها ستصبح المحطة السياحية الأولى للسعوديين، وليس آخر تلك الطعنات مشاركة فريقي الإمارات والبحرين مطلع هذا الشهر في سباق طواف إيطاليا التطبيعي الذي تستضيفه دولة الاحتلال في القدس.
لم يتركوا رغم طول نكبتهم أي وسيلة من وسائل النضال سلمية كانت أو مسلحة إلا وأخذوا بها
لسان حال الفلسطينيين في ذكرى نكبتهم: إن كان من الممكن أن نعتاد على العيش الخشن ونألف مُكرهين الفقر والقلة، فليس من الممكن لنفوسنا أن تتجرع ولا لأرواحنا أن تطيق ظلم ذوي القربى وجلد الأقربين، وإن مل البعض من قضية فلسطين فإن الفلسطينيين لن يكلوا ولن يملوا من المطالبة بحقوقهم المشروعة، وهم الذين منذ اللحظة الأولى لاحتلال فلسطين وقيام دولة الكيان على أنقاضها لم يتوانوا عن الدفاع عن وطنهم ولم يبخلوا وهم الفقراء المعدمين بالجود بكل ما يملكون من أجل أن يعودوا لديارهم ويستردوا حقوقهم، ورخصت في سبيل ذلك دمائهم وأرواحهم، وقدموا وما زالوا من صنائع الفداء والتضحية والصمود والتحدي ما تعجز عن وصفه الكلمات، ولم يتركوا رغم طول نكبتهم أي وسيلة من وسائل النضال سلمية كانت أو مسلحة إلا وأخذوا بها.
وليس أدل على ذلك ما نعايشه اليوم من فعاليات مسيرات العودة الكبرى، وكيف خرج الشارع الفلسطيني بكل مكوناته وأطيافه وشرائحه إلى السياج الفاصل ليؤكدوا حقهم في العودة إلى وطنهم وقد أبدعوا من وسائل المقاومة السلمية ما يثير الإعجاب والتقدير.