ردت الحكومة المصرية على تقرير منظمة العفو الدولية عن الانتهاكات الجسيمة التي تحدث في السجون المصرية بنفس الأسلوب الذي تعتمده كل الأنظمة القمعية الديكتاتورية، وهو أن تلك المنظمات مأجورة وتزور الحقائق، هذا الرد لم يكن مستغربًا لأنه الوحيد الممكن، فحتى الولايات المتحدة التي تدعم هذه الأنظمة التي تحافظ على مصالحها تحركت ومارست ضغطًا على النظام المصري وذلك بتعليق مساعدات كانت مبرمجة بقيمة 300 مليون دولار، واشترطت اتخاذ مصر للإجراءات كشرط للإفراج عن هذا المبلغ.
الغريب في الأمر أن النظام المصري كلف نفسه الرد على تقرير منظمة العفو الدولية لينكر وجود أي انتهاكات في السجون، في حين أن الأمر تجاوز وصف انتهاكات إلى ما هو أبشع من ذلك بكثير ألا وهو القهر، وهذا لا يشمل السجون فقط بل صار منذ وصول العسكر مجددًا إلى السلطة بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي من عبد الفتاح السيسي.
بالتالي فليس المجال للنقاش بشأن هل توجد انتهاكات في مصر أم لا، بل الأمر تجاوز هذا بكثير ليصل إلى إرساء دولة الظلم والقهر أو كما يصفها بعض الحقوقيين المصريين بـ”البلطجة” وهو مصطلح من اللهجة المصرية المتداولة لكنه الأكثر تعبيرًا عما يحصل.
السؤال المهم طرحه هنا هو: كيف وصلت مصر إلى هذه الوضعية أي أن تتحول إلى دولة القهر؟
الأمر الذي نسعى لفهمه هنا من خلال استرجاع الأحداث التي حصلت بداية من اندلاع الثورة عام 2011 وما بعدها، بل الأهم التركيز على نقطة واحدة لكنها كانت المتحكمة في كل شيء، أي أنها كانت السبب الرئيسي الذي أوصل لكل ما يحصل اليوم في مصر.
أخطر ما قد يعانيه مجتمع ما هو منع الاختلاف والتفكير والنقد والمعارضة
ما نعنيه هنا هو “حكم العسكر” أي أن مصر تعاني أساسًا من حكم العسكر، أما الباقي فهي تفاصيل، ونتيجة لهذا فالعسكر عندما يستحوذ على السلطة فإنه يتعامل مع البلاد والشعب كما يتعامل مع ثكنة عسكرية تقوم على الأمر والطاعة، أي لا مجال لإبداء الرأي ولا لحرية التفكير والنقد، بل إذعان للأوامر بلا نقاش فما بالك بالمعارضة والنقد.
فأخطر ما قد يعانيه مجتمع ما هو منع الاختلاف والتفكير والنقد والمعارضة، ثم تحويل كل السلطات إلى فرد واحد أو مجموعة قليلة ترى أنها الوحيدة التي تملك الحقيقة وتعرف المصلحة، بمعنى آخر فالشعب رعايا وعليهم السمع والطاعة وإلا فإنه العقاب بل والعقاب الشديد.
من هنا فإن عبد الفتاح السيسي لا يمثل نفسه بل يمثل النظام الذي أنتجه وجاء به وهو المنظومة العسكرية التي تحولت إلى صاحبة الكلمة العليا وهو ما يفسر أو يوصف كونه حكمًا عسكريًا، أي أننا لسنا إزاء ديكتاتور بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل نحن هنا نتحدث عن الديكتاتورية العسكرية التي إن تسلطت على مجتمع فإنها لن تنتج إلا الظلم والاستبداد والقهر وهو ما يفسر وصفنا للحالة المصرية كونها دولة القهر.
لكن كيف قبل المجتمع المصري أن يصل إلى هذه الوضعية بل أكثر من هذا لماذا وجدناه في 2013 هو نفسه من “فوض” الجيش ليتسلط عليه ويسلب منه حريته وثورته؟
عندما حصل الانقلاب تركت كل الخلافات والاختلافات السياسية وهب كامل الشعب للدفاع عن مكتسباته وعن ديمقراطيته وحريته
حصول هذا الأمر سبق بعملية غسيل دماغ حصلت في فترة حكم محمد مرسي، حيث استغل المتضررون من الثورة وهي مراكز القوى القديمة وضعية الحريات وأيضًا ضعف الدولة بعد الثورة ليقلبوا المعطيات، ومع ذلك المشهد التراجيدي الذي حصل والمتمثل في إزاحة مبارك وإعلان انتصار الشعب والثورة، في حين أن حقيقة ما حصل أن العسكر ممثلاً في المجلس العسكري من تسلم السلطة وسمح بعرض “مسرحية” إيمانه بالديمقراطية وأنه لن يتدخل في السياسة.
لكنه في الحقيقة كان يرتب الأوضاع للسيطرة المباشرة مجددًا، لكن هذه المرة بأكثر قوة وشراسة، وهو ما عبر عنه السيسي في أحد خطاباته عندما قال إن الذي حدث منذ سبع سنوات لن يحدث مرة أخرى ولو كلفه ذلك حياته، وهو في الحقيقة خطاب المؤسسة العسكرية لا خطابه هو.
هذا الأمر كان من الممكن تجنبه أي التصدي له لو كان الشعب المصري متمرسًا بالديمقراطية، لكن للأسف فإن تعامله مع الأحداث ما بعد 2011 كان عاطفيًا صرفًا، ومن الممكن هنا أن نأخذ التجربة التركية لنفهم الفارق، فعندما حصل الانقلاب تركت كل الخلافات والاختلافات السياسية وهب كامل الشعب للدفاع عن مكتسباته وعن ديمقراطيته وحريته، أي أنه انتفض للدفاع عن دولته لأنه لم يكن هناك فصل بين الدولة والمواطن وهذا ما كان غائبًا في التجربة المصرية.