إن كانت إجابتك عن العنوان السابق بأن منزلك في الأساس صغيرًا فأنت لم تر بعد المنازل التي يتحدث عنها مشروع “لايف إيديتد” الذي يعتقد مؤسسه غراهام هيل أن الإنسان بإمكانه الحياة بطريقة مريحة وكاملة في منزل صغير جدًا، حيث يعتقد الأخير أن كل ما يحتاجه الإنسان غرفة واسعة وكبيرة الحجم تكفي لاستغلال مساحتها الكاملة لصنع منزل يعيش فيه الإنسان بأريحية دون الحاجة لمنزل متعدد الغرف أو متعدد المساحات.
يمتلك أغلبية الناس مساحات من المنازل بنسبة أضعاف المساحات التي امتلكوها في الخمسينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من ذلك تجدهم يحتاجون مساحات إضافية لتلك المساحات لتكفي تخزين كثير من الأغراض التي يمتلكها كل فرد في الأسرة التي تعيش في نفس المنزل، ولهذا نجد صناعة خاصة بـ”التخزين الشخصي” قيمتها في الولايات المتحدة فقط نحو 2.2 مليار دولار أمريكي، وهي شركات خاصة بتخزين الأغراض لأن الناس لا يمتلكون مساحات كافية في منازلهم لتخزينها.
أجريت العديد من الدراسات من بينها “الخرائط الحرارية” التي تتبع وتدرس حركة الناس داخل بيوتهم، لتجد أن الناس لا يستخدمون 40% من مساحة بيوتهم في حياتهم الروتينية اليومية، كما وُجد أن من يمتلكون منازلاً لها مرأب أو موقف للسيارات في الولايات المتحدة لا يستخدمون المرأب من أجل السيارة بل من أجل تخزين الأغراض التي عادة لا يستخدمونها.
خرائط حرارية توضح عدم استخدام الناس 40% من مساحة منازلهم
اكتشفت تلك “الخرائط الحرارية” أن الناس يتمركزون في أماكن معينة من المنزل في حياتهم اليومية ولا يقتربون من كثير من الأماكن الأخرى فيه، وعليه فإنهم لا يستخدمون المساحة التي دفعوا تلك المبالغ الخيالية من أجلها، لينتهي الأمر بهم بتجميع كثير من الأغراض وتخزينها وتضاعف كمية الأغراض الخاصة بكل فرد في الأسرة، لتعيش الأسرة في مساحة لا تحتاجها مليئة بأغراض لا تستخدمها.
نحن نعيش حياتنا على حسب المساحة التي لدينا، ولا نخلق المساحة التي تُناسب طريقة حياتنا، ولهذا قرر كثير من مهندسي المشاريع والمصممين أن يطرحوا فكرة “المنازل الصغيرة” أو “المنازل الضيقة” التي يرونها أكثر الأفعال مسؤولية في تصرفات البشر تجاه حياتهم، بدلًا من أن يبذلوا حياتهم في شراء مساحات كبيرة من المنازل لن يستخدمونها في نهاية المطاف وينتهي بهم الحال في شراء مزيد من الأغراض فحسب.
هل تتخيل نفسك تعيش في منزل ضيق؟
حينما نقول منزلًا ضيقًا فنحن لا نعني منزلًا ذا صالة صغيرة وغرفتين ضيقتين، ولا نعني المنزل الذي لا يمتلك حديقة خارجية ومرأب للسيارات، بل نعني غرفة واحدة واسعة تضم كل ما قد يحتاجه المرء في منزله من غرفة للمعيشة وغرفة للنوم ومطبخ وحمام ومكان لاستقبال الزائرين وشرفة كل ذلك في مكان واحد فقط، وهو ما يمكننا إطلاق عليه مصطلح “المنزل الصغير” أو “المنزل الضيق” (Tiny Home).
باستخدام التكنولوجيا والأفكار الإبداعية في التصميم واستغلال المساحات الصغيرة تمكن مؤسس مشروع “لايف إيديتد” من نشر فكرة “المنازل الصغيرة” في أكثر المجتمعات التي تميل لامتلاك المنازل الضخمة في أمريكا الشمالية وبعض بلاد غرب أوروبا من أجل تصميم المنازل التي يسميها مؤسس المشروع غراهام هيل بأنها “منازل ذكية” من الناحية المادية والبيئية كذلك.
بالنسبة لهؤلاء “Minimalists” أو المُتبسطين في حياتهم، تبدو فكرة الاقتراض من أجل الحصول على منزل واسع فكرة غير عقلانية ولا داع لها
سيكون البيت أكبر من الناحية الوظيفية ولكن أصغر في المساحة، وسيُمكنك من الحياة بشكل أوسع ولكن في مساحة أضيق، هذا تعريف المنازل الضيقة على موقع مشروع “لايف إيديتد” الرسمي الذي يساعدك باستخدام التكنولوجيا والتصاميم المبدعة أن توفر مالك بدلًا من أن تنفقه في منازل ذات مساحات واسعة وكثير من الغرف، حيث يمكنه أن يحول غرفة نومك إلى غرفة معيشة في الصباح، ويحول رف الكتب إلى مكتب تستطيع الجلوس عليه للعمل، ويحول طاولة غرفة المعيشة الصغيرة إلى طاولة تكفي للعشاء مع ستة أشخاص، كما سيحول الجزء المتبقي من الغرفة إلى مكان يتسع لنوم زائرين قررا المبيت عندك في ليلة ما.
فيديو يوضح فكرة مشروع “لايف إيديتد”
يبدو حل المنزل الصغير الحل الأمثل بالنسبة للكثير ممن يميلون إلى طريقة الحياة “المجردة” أو التبسط في الحياة “Minimalism”، وهي تعني امتلاك الأشياء الضرورية والأساسية فقط للحياة دون الحاجة لامتلاك كثير من الأغراض وملء الغرف والخزانات بها، أي في سياق آخر هو الحياة من خلال امتلاك الحد الأدنى من الأشياء، ومن بينها امتلاك الحد الأدنى من المساحة اللازمة للمعيشة.
بالنسبة لهؤلاء “Minimalists” أو المُتبسطين في حياتهم، تبدو فكرة الاقتراض من أجل الحصول على منزل واسع فكرة غير عقلانية ولا داع لها، وذلك لأن الأغلبية يعيشون في منازل لم يشتروها بالفعل ولكنهم على أمل أن يشتروها يومًا ما من خلال الاقتراض والعمل لبقية حياتهم من أجل تسديد المبلغ المقروض، وهو ما جعل سوق العقارات ينهار في الولايات المتحدة مُسببًا الأزمة المالية قبل عشرة عوام.
أراد مشروع “لايف إيديتد” أن يُغير من تلك العقلية، وأن يُصمم منازل صغيرة جدًا تتمحور حول ما هو مهم فعلًا في حياة الناس، ومناسبة للطريقة التي يعيش بها الناس داخل منازلهم التي يصفها مصممو المشروع بأنها منازل اجتماعية وذكية من نواحي عديدة أهمها الناحية المادية، حيث يجدونها تُقرب الناس أكثر من بعضهم البعض، من خلال انخفاض النفقات، وتقليل الأشياء التي يفكر بها الناس عن منازلهم، وذلك عن طريق تطبيق فلسفة المشروع التي تحاول تغيير الفلسفة السائدة “الأكبر هو الأفضل”.
هل المنازل الأصغر الحل؟
أحد المنازل المُصمم من شركة “بوكيت ليفينج”
لا يبدو أن “لايف إيديتد” وحدهم في هذا المضمار، في تقرير حديث لصحيفة “الإيكونومست” ذكرت أن شركة “Pocket Living” (إحدى الشركات المهمة في بناء وبيع المنازل السكنية في لندن) بدأت مبيعاتها للشقق المنزلية الصغيرة في الازدياد وكذلك مشروعاتها في بناء بنايات تحتوى على مساحات أقل من السابق وشقق منزلية تتسع لشخصين فقط للمعيشة، لتبدأ أيضًا في مراعاة وجود مساحة لموقِف الدراجات الهوائية بدلاً من باحات وقوف السيارات، بالإضافة إلى تصغير مساحات المطابخ.
تبدو فلسفة “الأكبر هو الأفضل” مسيطرة بشكل كبير على رغبات الناس في اختياراتهم لأشكال الأماكن التي يختارونها للمعيشة سواء كانوا يقدرون على تحمل تكلفتها أم لا
يقول مدير شركة “Pocket”، وهو مارك فليسينج، في تقرير الإيكونومست إن الشركة توقعت أن يكون المشترون لتلك الشقق المنزلية في العشرينيات أو أواخر العشرينيات من عمرهم، لكن في الواقع كانت الشريحة التي قررت شراء منازل أصغر في الثلاثينيات والأربعينيات، فكانت مجموعة من المتزوجين لم يكن لديهم أطفال، ولا يتوقعون إنجاب أطفال في المستقبل.
يشترك المُتبسطون في حياتهم في صفات مشتركة من بينها الرغبة في عدم الإنجاب على الرغم من قدرتهم على ذلك، فهم ببساطة أزواج قرروا عدم الإنجاب لطفل من الممكن أن يندموا على قرار إنجابه في المستقبل، وهو الأمر الذي جعل الناس تفكر في كيفية تغيير جيل الألفية الحديثة ومن سبقه ببضعة سنوات من الأجيال السابقة في تغيير شكل المنازل في المستقبل والاعتماد على المساحات الأصغر فيما بعد.
على الرغم من أن كل من الشركتين كانت تواجه مجتمعًا قادرًا ماديًا بشكل نسبي الحصول على منازل كبيرة الحجم وواسعة المساحات، فإننا إن ألقينا نظرة على البلاد العربية سنجد أن كثيرًا من البلاد تتمتع بمنازل ذات مساحات كبيرة الحجم على الرغم من عدم قدرتهم المادية على ذلك، بعد أن أفنوا حياتهم ومدخراتهم في الاحتفاظ بمنزل كبير الحجم دون الاهتمام بأي شيء آخر.
تبدو فلسفة “الأكبر هو الأفضل” مسيطرة بشكل كبير على رغبات الناس في اختياراتهم لأشكال الأماكن التي يختارونها للمعيشة سواء كانوا يقدرون على تحمل تكلفتها أم لا، وسواء كانوا يحتاجونها بالفعل أم لا، فهل ستكون فلسفة الشركات المذكورة هنا سابقًا قادرة على إحداث ثورة في عالم المنازل؟ وهل بالفعل سيكون لجيل الألفية الحديثة دور في شكل المنازل التي سنراها في المستقبل؟