يقول العالم اليوناني أبقراط: “طعامكم دواؤكم، ودواؤكم في طعامكم”، هذه الحكمة التي لخصت في بساطتها العلاقة بين خيارات الفرد الغذائية وصحته الجسدية لم يعد من الممكن تطبيقها بالدقة المطلوبة، ليس فقط بسبب الإضافات الكيمائية والاصطناعية في الأطعمة، وإنما أيضًا بسبب هالة التناقضات التي تحيط بأنظمتنا الغذائية.
هل يعتبر الحليب فعلًا مهمًا في تقوية عظامنا؟ ما الكمية التي يجب تناولها من اللحوم؟ هل العصائر الطبيعية مفيدة؟ وهل يبالغ العلماء في أهمية وجبة الفطور؟ إيجاد إجابة واحدة ودقيقة عن هذه الأسئلة قد يساعدك على النجاة من أمراض القلب والسكري والسرطان والسمنة، لكن الإرشادات الغذائية المتضاربة جعلت من هذا الأمر أُمنية صعب تحقيقها، وذلك نتيجة لتلاقي المصالح المادية بين بعض الباحثين وأصحاب الشركات المصنعة للغذاء؛ ما جعل نزاهة العلم وأهله تقف على المحك.
لماذا علينا أن نشكك في الدراسات العلمية عن الأطعمة؟
في الستينيات، فقد الطب قدسيته وأمانته أمام العالم، وذلك عندما كشفت وثائق سرية تفصح عن اتفاق مالكي صناعة السكر الذين دفعوا أموالًا للعلماء في جامعة هارفرد عام 1960 لتزوير النتائج التي تشير إلى وجود علاقة بين أمراض القلب والسكر، وبدلًا من هذا اتهام الدهون المشبعة بالتسبب بهذه الأمراض.
بالإضافة إلى شركات المشروبات الأمريكية مثل بيبسي التي تعمل على تمويل أبحاثها الطبية بنفسها، وتقول: “ليس هناك رابط بين البدانة ومشروب الصودا”، لكن توصلت بحوث أخرى ليست ممولة من جهات تجارية أو خاصة، أن “المشروبات السكرية كالكولا وغيرها تسبب الوفاة والإعاقة”، ودعمًا لهذه الدراسة قال باحثون إن 184 ألف حالة وفاة تحدث كل عام بسبب أمراض السكر والقلب والسرطان، وهي الأمراض التي تتغذى على السكريات، إذ تحتوي عبوة مشروب كاوكاكولا على نحو من 7 إلى 9 معالق سكر.
صناعة التبغ كانت تمنع نشر الأبحاث التي تسجل نتائج سلبية عن منتجاتها، وبالمقابل مولت عشرات المشاريع الأخرى التي توضح أن “الغازات المنبعثة من السجاد أكثر ضررًا من الدخان”
وغيرها من الفضائح العلمية والتجارية التي استغرق كشفها عقودًا طويلة، مثل صناعة التبغ التي كانت تمنع نشر الأبحاث التي تسجل نتائج سلبية عن منتجاتها، وبالمقابل مولت عشرات المشاريع الأخرى التي توضح أن “الغازات المنبعثة من السجاد أكثر ضررًا من الدخان”، وذلك بهدف طمأنة المستهلك والحصول على موافقة الهيئات التنظيمية للاستمرار في ترويج وبيع بضائعها.
هذه أشهر محاولات شركات صناعة الغذاء التي سعت بكل جهدها وأموالها إلى إخفاء الحقيقة التامة عن المستهلك، ولكن لحسن الحظ، خلقت هذه الأساليب موجة من التشكيك في جميع التوصيات الغذائية وجعلت المستهلك يتساءل في كل مرة عما إذا كانت جميع الدراسات والتوصيات الصحية تمارس هذه الخدعة أيضًا.
التحيز في أبحاث الطعام والتغذية
وجد الباحثون أن الأبحاث التي يجري دراستها ونشرها بنتائج تناسب مصالح الجهة التجارية الممولة، قد لا تتفق دومًا مع الاستنتاجات ولكن بطريقة ما يمكن تعديلها لتصبح مناسبة لمنتجات الممول، فعلى سبيل المثال، قد تجد دراسة أن اتباع نظام غذائي معين يؤدي إلى فقدان الوزن وارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب، ولكن لجعل المنتج خالٍ من الانطباعات والتأثيرات السلبية، يتم ذكر فقط محور “فقدان الوزن” وهو استنتاج جذاب وملائم لرغبة المستهلك، كما أنه بالطبع غير مضر بسمعة أو مبيعات الجهة الممولة.
ووفقًا، لخبيرة التغذية في جامعة نيويورك، ماريون نيستلي التي بدأت بمتابعة تمويلات الدراسات المختصة بالأغذية، وجدت في عام 2015 وحده، أن 156 بحثًا من ضمن 168 دراسة نشرت نتائج متحيزة لمصلحة الجهة الممولة، وقبل هذا الوقت بسنوات عديدة، وجدت أن 206 دراسات تروج لفوائد وأهمية الحليب والصودا والمشروبات الطبيعية، وكانت بالكامل ممولة من شركات الأغذية.
ارتفع التمويل الخاص بنسبة 43% بين عامي 2006 و2014، مقارنة بـ 24% من الجهات الحكومية
على هذا الأساس، انتقد الكثير من الخبراء تدخل الأطماع التجارية في حقل الدراسات العلمية، ودعوا إلى تجنب أبحاثهم وفرض حظر شامل على الشركات في مجال البحوث، وعند تطبيق هذه الإستراتيجية، لن تعد العديد من الأدوية والعقاقير موجودة من الأساس، لأن شركات صناعة الأغذية ستركز على تحسين جودة منتجاتها وبالتالي ستتحسن صحة المستهلك في نفس الوقت، وذلك بحسب قول خبير التغذية ديفيد كاتز بجامعة بيل.
ومع هذا تبقى قضية ضعف التمويل المالي للأبحاث العلمية موضوعًا منهكًا للعلماء الذين يتلقون منحًا متواضعة من الحكومة أو المعاهد الوطنية للصحة، لذلك تعتبر الأموال التي تقدمها الجهات الخاصة أكثر إغراءً وإرضاءً لهم، حيث ارتفع التمويل الخاص بنسبة 43% بين عامي 2006 و2014، مقارنة بـ24% من الجهات الحكومية.