على مدى القرون الماضية، شهدت القارة الإفريقية تاريخًا حافلًا بالممالك والإمبراطوريات التي ازدهرت قبل وصول القوى الاستعمارية الغربية، وساهمت تلك الممالك في تشكيل الهوية الثقافية والاقتصادية للقارة.
في إطار ملف “مماليك إفريقيا قبل الاستعمار”، نسلّط الضوء في تقريرنا الجديد على إمبراطورية بنين، التي تأسّست في غرب إفريقيا وحققت نفوذًا كبيرًا بين منتصف القرن الخامس عشر ومنتصف القرن السابع عشر، حيث كانت أكبر وأقوى دولة في منطقة الغابات التي أصبحت الآن نيجيريا.
لعبت هذه الإمبراطورية دورًا بارزًا في تعزيز التجارة الإقليمية بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، لكنها واجهت تداعيات التدخل الاستعماري، خاصة بعد الغزو البريطاني الذي أسفر عن نهب ثرواتها الثقافية مثل “برونزيات بنين”.
في هذا التقرير، نستعرض نشأة إمبراطورية بنين، قوتها الاقتصادية، ودورها الإقليمي، بالإضافة إلى العوامل التي أدت إلى انهيارها تحت وطأة الاستعمار.
تأسيس المملكة
يعود تأسيس المملكة إلى بداية القرن التاسع، عندما استوطن شعب إيدو الغابات المطيرة في غرب القارة الإفريقية، هذا الشعب كان يعيش في البداية في مجموعات عائلية صغيرة تطورت تدريجيًا إلى مملكة، أُطلق عليهم اسم إيغودوميجودو، حكمها سلسلة من الملوك المعروفين باسم أوجيسوس، والتي تعني “حكام السماء”.
لكن خلال القرن الثاني عشر، فقدَ الأوجيسو (الملك) السيطرة على المملكة، وخوفًا من سقوط البلاد في الفوضى، طلب شعب إيدو المساعدة من مملكة إيفي المجاورة، والتي تعتبر من الممالك المهمة في غرب إفريقيا.
أرسل ملك إيفي، وكان يُدعى أورانميان، ابنه الأمير إيويكا لاستعادة السلام إلى مملكة إيغودوميجودو، وبعدما تمكّن من السيطرة على البلاد تمّ استبدال عصر الأوجيسو بعصر الأوبا (كلمة يوروبية تعني الملك)، كما تم تغيير اسم المملكة من إيغودوميجودو إلى إيدو بواسطة الملك إيويكا الأول.
في أواخر القرن الثالث عشر بدأت السلطة الملكية تفرض نفسها في المملكة تحت حكم أوبا (الملك) إيودو، لكن المملكة ترسخت بقوة تحت حكم الملك الأكثر شهرة، إيواري الذي حكم فترة 1440-1480 ووُصف بأنه محارب وساحر عظيم.
قام إيواري بإعادة بناء العاصمة وتعزيز دفاعاتها بأسوار قوية وخنادق عميقة لتوفير الحماية من التهديدات الخارجية، كما استغل التضاريس المحيطة بالغابة الكثيفة والمسارات الضيقة لتسهيل الدفاع عن المدينة، ما جعل من الصعب على الأعداء الوصول إليها بسهولة خلال الهجمات.
أسّس إيواري خلافة وراثية للعرش، ووسّع بشكل كبير أراضي مملكة بنين، التي امتدت بحلول منتصف القرن السادس عشر من دلتا نهر النيجر في الشرق إلى ما يُعرف الآن بلاغوس في الغرب، وكانت مساحة الإمبراطورية في أوج قوتها وذروتها تبلغ 3 أضعاف حجم فرنسا الحديثة.
مدينة بنين كانت تقع على سهل وتحاط بأسوار ضخمة من الجنوب وخنادق عميقة من الشمال، إضافة إلى أسوار أخرى خارجية قسمت المناطق المحيطة بالعاصمة إلى نحو 500 قرية، لكن في الوقت الحالي لم يبقَ سوى القليل من تلك الأسوار، حيث تلاشت مع مرور الزمن.
وبسبب ذلك اعتبرت بنين عاصمة الإمبراطورية، واحدة من أفضل المدن المخططة في العالم في تلك الفترة، ووصف كتاب غينيس للأرقام القياسية (طبعة 1974) أسوار مدينة بنين والمملكة المحيطة بها بأنها أكبر أعمال ترابية في العالم تم تنفيذها قبل العصر الميكانيكي.
ووفقًا لتقديرات فريد بيرس من مجلة “نيو ساينتست”، كانت أسوار مدينة بنين في وقت ما “أطول بـ 4 مرات من سور الصين العظيم، واستهلكت مواد أكثر بـ 100 مرة من الهرم الأكبر لخوفو”.
أصبح أوبا الزعيم السياسي والقضائي والاقتصادي والروحي الأعلى لشعبه، وكان بمثابة الإله الذي يعبده الشعب غصبًا وطواعية، وأصبح هو وأسلافه موضوعًا لطقوس عبادة الدولة، التي استخدمت التضحية البشرية في مراسمها الدينية تعبيرًا عن الإخلاص والولاء.
أما اسم “بنين” فهو تحريف برتغالي، مشتق من كلمة “أوبيني”، التي دخلت حيز الاستخدام في عهد أوبا إيواري، وتعني “صالحة للعيش”، واستعملت لوصف المنطقة التي يسيطر عليها الملك كمكان صالح للعيش، وتم تحريف أوبيني لاحقًا إلى بنين حوالي سنة 1485، عندما بدأ البرتغاليون علاقات تجارية مع ملك إيواري وأعطوهم حبات المرجان.
وتعتبر إمبراطورية بنين أول دولة زارها البرتغاليون على هذا الساحل في سنة 1485، وكانت أول قوة أوروبية تقيم علاقات دبلوماسية وتجارية مع إيدو، فيما كانت أول رحلة استكشافية إنجليزية إلى بنين في سنة 1553.
ممرات التجارة
مع وصول البرتغاليين إلى بنين، وتوافُد السفن التجارية الأوروبية إلى غرب إفريقيا، ازداد نفوذ الإمبراطورية بشكل كبير حيث أصبحت وسيطًا بين التجّار الأوروبيين والأفارقة، ما ساعدها على السيطرة على التجارة على الساحل الغربي الإفريقي المطلّ على المحيط الأطلسي.
وظلت بنين لفترة طويلة تمثل مركزًا تجاريًا مهمًا حيث كانت تتم مقايضة السلع بين الطرفين. في البداية تبادلت الإمبراطورية منتجات قطنية مقابل النحاس والعاج والملح، ومع مرور الوقت توسعت التجارة لتشمل الأسلحة القادمة من البرتغال.
ساهمت الغابات المطيرة الغنية بالموارد التي تحيط بالإمبراطورية في تعزيز تطورها الاقتصادي، حيث وفّرت مصادر متنوعة مثل الأسماك والنباتات الطبية، والعاج للتجارة والنحت، والخشب لصناعة القوارب.
واستغلت بنين هذه الموارد بشكل فعّال لدعم اقتصاد البلاد، بالإضافة إلى ذلك ازدهرت تجارة زيت النخيل والمنسوجات والعاج، ما ساهم في الحفاظ على استقلال الإمبراطورية، بخلاف الأنظمة المجاورة التي كانت تتبع لدول أخرى.
كما عملت مملكة بنين بشكل كبير في تجارة العبيد، وكانت التجارة سائدة في الإمبراطورية قبل قدوم الأوروبيين للمنطقة، لكن مع قدومهم نمت أكثر، إذ أدّى وصول التجار الأوروبيين الذين كانوا يعرضون البنادق وغيرها من السلع الجديدة مقابل البشر، إلى ازدهار تجارة الرقيق بشكل كبير في المنطقة، ما دفع الناس إلى اختطاف الآخرين وبيعهم.
وفّرت هذه التجارة مصدرًا مهمًا للثروة للإمبراطورية، وتمّ بيع الرقيق عبر موانئ كالابار وبوني في جنوب الإمبراطورية وميناء أوغوتن أيضًا.
برونزيات بنين
لم يبدع أهالي بنين في التجارة فقط إنما في الفن أيضًا، إذ برز عديد الفنانين الذين اشتهروا بالعمل في العديد من المواد، وخاصة النحاس والخشب والعاج، واشتهروا بمنحوتاتهم البارزة، وأهمها اللوحات والمنحوتات.
تصور اللوحات عادةً أحداثًا تاريخية، فيما كانت الرؤوس غالبًا بالحجم الطبيعي وتعود للملوك وبعض من الحاشية المقربين، كما نحت الحرفيون العديد من الأشياء العاجية المختلفة، بما في ذلك الأقنعة والحيوانات والأحزمة الاحتفالية، فضلًا عن ملامح لشركائهم التجاريين الأوروبيين.
في 13 يناير/ كانون الثاني 1897، نشرت صحيفة “التايمز” اللندنية تقريرًا عن “كارثة” وقعت في بنين، إذ تعرض وفد بريطاني لهجوم خلال مهرجان ديني، وبدافع ديني أو ربما للإطاحة بملك بنين، الذي تحدى الإمبراطورية البريطانية باستمرار، نظّمت بريطانيا حملة عقابية واقتحمت القصر ونفت الملك.
ونهب الجنود الكنوز الملكية والقطع العاجية الدقيقة والمنحوتات والسبائك النحاسية الرائعة المعروفة باسم “برونز بنين”، التي صُنعت من قبل شعب إيدو بدءًا من القرن الثالث عشر، وكانت هذه المنحوتات مطلوبة بشدة وتمّ شراؤها من قبل المتاحف في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا.
وتتواجد هذه اللوحات والمنحوتات حاليًا في أكثر من 100 متحف حول العالم، منها المتحف البريطاني، وفي شيكاغو وفيينا وباريس، ويمكن مشاهدة مجموعة كبيرة منها في برلين.
وصُمّمت هذه اللوحات الفنية كزينة لقاعات قصر الملك، وتمجيد هيبته ومكانته وإنجازاته، وهي تتكون من أكثر من 5 آلاف قطعة عُثر عليها في القصر الملكي أثناء نهبه من قبل البريطانيين، ويكافح شعب الإيدو للآن من أجل استرجاع هذه البرونزيات المنهوبة.
انهيار الإمبراطورية
حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت إمبراطورية بنين إحدى القوى الكبرى في غرب إفريقيا، لكن هذه القوة بدأت تتراجع نتيجة الصراع على الحكم بين أفراد العائلة المالكة واندلاع العديد من الحروب الأهلية، ما أضعف اقتصاد البلاد.
نتيجة ذلك، أدّى التغلغل الأوروبي المتزايد في إمبراطورية بنين إلى ضعف سيادتها، حيث استغل التجار البريطانيون هذا الضعف للحصول على امتيازات جديدة من العائلة الحاكمة والأهالي.
ورغم ضعف إمبراطورية بنين، استمر ملوكها في مقاومة التدخل الخارجي حتى عام 1897، عندما قامت القوات البريطانية بغزو الإمبراطورية، حيث أحرقت العاصمة ودمّرت قصورها ومزارعها بعد نهب برونزيات بنين الشهيرة.
عقب ذلك، أصبحت الإمبراطورية جزءًا من محمية ساحل النيجر البريطانية، قبل دمجها في النهاية في نيجيريا الاستعمارية البريطانية، التي نالت استقلالها في سنة 1960 تحت اسم نيجيريا.
أدّى الاحتلال البريطاني إلى زوال واحدة من أبرز دول غرب إفريقيا، إلا أن أوبا (الملك) ما زال يحتفظ إلى الآن بأهمية روحية ورمزية كبيرة لدى أهالي نيجيريا، ما جعل النظام الذي تشكّل بعد الاستقلال سنة 1960 يمنحه منصب مستشار للحكومة.