على إثر إعلان استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، انطلقت العديد من التساؤلات حول الآثار التي ستتركها هذه الجريمة الإسرائيلية الجديدة على مجريات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحرب الإبادة المستمرة بحقّ الشعب الفلسطيني، والآثار المتوقعة على البنية القيادية لحركة حماس التي تكمن في قلب الاستهداف الإسرائيلي المباشر، ويمثّل القضاء عليها وتصفية قيادتها أول أهداف حكومة الحرب الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو.
رغم أن حركة حماس قد أثبتت منذ سنوات طويلة قدرتها على امتصاص الضربات وتجاوز تأثيراتها، وأن البناء المؤسسي فيها قد صُمِّم كي لا تؤثر الاغتيالات لقيادات الحركة السياسية والعسكرية على حد سواء على جوهر المسيرة وديناميكيات العمل التنظيمي، فإن هذا لا يعني غياب أي تأثير للبُعد الكاريزماتي للأشخاص على طبيعة القيادة والقدرة على جسر التناقضات، وخلق صيغ العمل المشترك داخليًا وخارجيًا والتمكّن من جمع المقاربات داخل الحركة في بوتقة واحدة.
السؤال حول مَن سيخلف إسماعيل هنية في قيادة حركة حماس ومكتبها السياسي، أحد أبرز الأسئلة التي باتت تسيطر على عدد من المستويات السياسية والاستخباراتية الحليفة للشعب الفلسطيني والعدوة في الآن ذاته، خصوصًا أن استهداف إسماعيل هنية جاء في لحظة مفصلية جدًّا من تاريخ الشعب الفلسطيني والمنطقة، وفي ذروة استهداف حركة حماس، وفي ظرف غير طبيعي داخليًا، إذ غيّب الاغتيال نائبه الأول صالح العاروري، في بداية يناير/ كانون الثاني الماضي في العاصمة اللبنانية بيروت.
مكتب حركة حماس السياسي
جاء تشكيل المكتب السياسي لحركة حماس رسميًا بعد أكثر من 6 سنوات من انطلاقتها، عام 1992 تحديدًا، بوصفه استجابة للحاجة العملياتية لاستحداث طرق تضمن استمرار العمل القيادي في حماس، بعد حملة الاعتقالات الموسعة والضربات الكبرى التي وجّهها الاحتلال إلى البنية القيادية للحركة، وعلى رأسها الشيخ أحمد ياسين، مع تصاعد ذروة انتفاضة الحجارة.
حيث أدى ذلك إلى مبادرة كوادر الحركة القياديين في خارج الأراضي المحتلة لتشكيل هيئة قيادية خارج الأراضي المحتلة، تكون بمنأى -إلى حدّ ما- عن الاستهداف المباشر من قبل الاحتلال، وتتمتع بمرونة نسبية من إمكانات الحركة السياسية والانفتاح على العالم.
لسنوات عدة بعد تشكيله، غلبت قيادة الخارج على تشكيلة المكتب السياسي لحركة حماس، وقد خضعت آليات عمل المكتب للتطوير المستمر لترتيب صيغ تحولها إلى قيادة جماعية لـحماس، إذ انقسمت الصلاحيات القيادية لسنوات ما بين المكتب السياسي والقيادة التاريخية للحركة المتمثلة بوجود الأب الروحي للحركة وقائدها أحمد ياسين في قطاع غزة.
مع تصاعد أحداث “انتفاضة الأقصى”، وتصاعد حضور حركة حماس ودورها البارز، والتي رافقها أيضًا تنفيذ الاحتلال مجموعةً من الاغتيالات لقيادات الحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي وصلت إلى ذروتها باستشهاد مؤسس الحركة أحمد ياسين، استدعت من جديد الحاجة إلى مواكبة متطلبات الحاجة التنظيمية لترتيب صيغة المكتب السياسي وآليات انتخابه والنسب التمثيلية للأقاليم فيه، وهو ما تطور في العام 2009 إلى مناصفة عضوية المكتب السياسي ما بين قيادة الخارج والداخل في حماس.
رغم أن حركة حماس من أكثر التنظيمات الفلسطينية تميزًا في ضخّ الدماء القيادية في صفوف الحركة، فإن موقع رئاسة المكتب السياسي لم يشهد تناوب عدد كبير من الأسماء عليه، إذ كان رئيسه الأول القيادي في الحركة موسى أبو مرزوق (1992-1996)، وخلفه فيه خالد مشعل الذي قاده في السنوات الأبرز من عمر الحركة (1996-2017)، وصولًا إلى نجاح إسماعيل هنية في حصد الموقع في دورة حماس الانتخابية الداخلية في العام 2017 بعد 10 سنوات من ترؤّسه للحركة في قطاع غزة.
إسماعيل هنية والقيادة الفعّالة في المرحلة الحرجة
وصل إسماعيل هنية إلى موقع رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس في مرحلة حرجة جدًّا شهدتها القضية الفلسطينية ودول المنطقة، عصفت فيما عصفت بحماس التي تعرضت لحصار قاسٍ جدًّا، وتصدت لحملات عدوانية كبرى شنّها الاحتلال الاسرائيلي استهدفت القضاء على قوّتها وإسقاط حكمها في قطاع غزة.
تميّز إسماعيل هنية بقدرته الكبيرة على التعامل مع أحلك الظروف، وتمكّن من قيادة حركة حماس في قطاع غزة في أقسى سنوات الحصار وأصعبها، وعبر بها معتركات كبيرة كان رأس الحركة على المقصلة فيها جميعًا، وبالقدرة ذاتها تقدّم إلى موقع رئاسة مكتب حماس السياسي ليكون أول رئيس له من داخل الأراضي المحتلة.
تمكن إسماعيل هنية من جسر الهوة داخل قيادة الحركة، التي انقسمت في اجتهادها الداخلي حول أولويات الحركة في التحالفات الإقليمية والتقاطعات المطلوبة، لتحافظ الحركة على خطوط إمدادها بالسلاح والمال وترميم العلاقات مع قوى الإقليم، ما حدا به إلى تبني مقاربة الجمع بين متطلبات التحالف المقاوم من جهة، وتجنّب الانخراط في تجاذبات المحاور في المنطقة في الشأن غير المرتبط بالقضية الفلسطينية، ومواجهة الاحتلال مواجهة مباشرة ومحاولة الحفاظ على علاقة متوازنة مع مختلف المكونات من جهة أخرى.
ويمكن القول إن إسماعيل هنية استطاع أن يخلق آلية مرنة وفعّالة لقيادة حركة حماس، تجمع ما بين مواقف “الصقور” و”المعتدلين” فيها، وتسخّر كليهما في تعزيز مواقف الحركة وحضورها وفعاليتها الجماهيرية والكفاحية والسياسية.
إن الإيجابية الكبيرة والقدرات الدبلوماسية المتميزة والناتجة عن خبرة طويلة وكبيرة لدى إسماعيل هنية، مكّنته أيضًا من تدشين علاقة إيجابية مع مكونات المشهد الفلسطيني، تطورت تطورًا ملموسًا جدًّا في خلال فترة توليه رئاسة المكتب السياسي، ما مكّن حماس من تعزيز جبهتها الوطنية وتوسيع خطابها الوطني وموازنته بما ينسجم مع هوية الحركة بوصفها حركة تحرر وطني، وتجاوز محاولات عدّ الانقسام الفلسطيني انقسامًا بين مشروعَين الأول وطني والثاني إسلامي، وتثبيت أن الانقسام انقسام بين برنامج المقاومة وبرنامج المفاوضات والحلول السلمية.
الشغور الاستثنائي للموقع الأكثر مركزية
ترك اغتيال إسماعيل هنية موقع رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس شاغرًا في توقيت يعدّ الأكثر حساسية للحركة، التي تقود معركة هي من الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني، وحربًا هي الأطول في تاريخ الحروب العدوانية للاحتلال الإسرائيلي، وأكثرها قسوةً وإجرامًا وصلت إلى حدّ تصنيفها حرب إبادة في قطاع غزة.
إن الاغتيال السابق لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشيخ صالح العاروري، في مطلع يناير/ كانون الثاني المنصرم في العاصمة اللبنانية بيروت، ترك موقع النائب في المكتب شاغرًا، ما يجعل الشغور مضاعفًا مع اغتيال إسماعيل هنية، إذ غيّب الاغتيال الشخصية التي تتولى الموقع المركزي والشخصية التي كان يفترض أن تحلّ محله وتتولى مهامه.
في الحالة الطبيعية لن يمثل غياب/ تغييب رئيس المكتب السياسي للحركة عنوانًا لأزمة قيادية، إذ إن النظام الداخلي لحركة حماس ينظّم عملية اختيار رئيس جديد للحركة عبر اجتماع لمجلس الشورى العام للحركة، يُنتخب خلاله رئيس للمكتب السياسي، إلا أن الأوضاع الأمنية الخاصة المرتبطة بمجريات الحرب ستعطّل بدرجة أساسية المشاركة الطبيعية لأعضاء مجلس الشورى للحركة في قطاع غزة، وربما في الضفة الغربية التي تشهد حملات اعتقال موسعة جدًّا لكوادر وقيادة الحركة، ما يخلق ظرفًا استثنائيًا من الصعب فيه اللجوء إلى استخدام التسلسُل الطبيعي لعملية اختيار رئيس جديد للحركة.
المرشحون المحتملون والعقبات على الطريق
وفقًا لنظام حركة حماس الداخلي، فإن القادة الثلاثة الأبرز الذين يمثل موقعهم ضمنيًا موقع نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، هم قادة الأقاليم الثلاثة للحركة، أي إقليم الضفة الغربية الذي كان يرأسه الشهيد الشيخ صالح العاروري، وخلفه فيه القيادي زاهر جبارين الذي كان يقود مكتب الشهداء والأسرى في الحركة ونائبًا للعاروري في قيادة إقليم الضفة.
وإقليم قطاع غزة الذي يرأسه القيادي يحيى السنوار الذي تلاحقه “إسرائيل” وتضعه على رأس قائمة المطلوبين، على خلفية اتهامه بالمسؤولية المباشرة عن طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، وإقليم الخارج الذي كان يرأسه القيادي خالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس لسنوات طويلة.
في هذه الحالة، إن الخيار الطبيعي لتسيير أعمال المكتب السياسي لحركة حماس سيكون خيارًا بين القادة الثلاث الذين يرأسون الأقاليم، إلا أن خيار تولي زاهر جبارين المهمة قد يصطدم باحتمالية وجود عوار قانوني، كون جبارين مسيِّرًا لقيادة إقليم الضفة الغربية ارتباطًا باستشهاد سلفه، وحاجته للتفرغ لملفّه لتعويض الضرر الناتج عن الاغتيال والاستهداف الموسع على الأرض.
أما في حالة القيادي يحيى السنوار، فإن الوضع الاستثنائي لقطاع غزة سيجعل من خيار توليه المهمة خيارًا شبه مستحيل، نظرًا إلى القرار بوجود رئيس المكتب السياسي خارج الأراضي المحتلة، والحاجة إلى وجود قيادة ذات فعالية وقدرة على التحرك والاستجابة لمتطلبات اللحظة الراهنة وحساسيتها، وإدارة ملفات التفاوض والعلاقات الدبلوماسية للحركة وجهود وقف العدوان.
يعزز ما سبق فرضية أن يكلَّف خالد مشعل بتسيير أعمال المكتب السياسي لحركة حماس لفترة انتقالية، نظرًا إلى كونه يتمتع بالخبرة الكافية والمساحة، وكونه مستوفيًا للمتطلبات القانونية لشغل الموقع حتى توفُّر الظروف اللازمة لانعقاد مجلس الشورى بكامل عضويته، لاختيار رئيس جديد للمكتب السياسي.
رغم أن مشعل يتمتع بالعديد من المواصفات، وأهمها الخبرة والحنكة والشرعية التاريخية، فإن وجوده على رأس المكتب السياسي سيشكّل معضلات كثيرة لحركة حماس، خصوصًا على صعيد العلاقة مع إيران و”حزب الله”، إذ لا يمثل مشعل عنوانًا مرغوبًا للطرفين المذكورين، وهما طرفان تحتاج حماس إلى التنسيق اللحظي معهما خلال الحرب، والتنسيق ما بين الجبهات والتعاون العسكري.
إلى جانب مشعل والسنوار، فإن قائمة المرشحين المحتملين للموقع زاخرة بحجم قدرة حماس على تقديم وجوه قيادية دائمًا تستطيع أن تتولى المهمة، فيما يمثل أول المرشحين الأبرز خليل الحية، نائب رئيس حركة حماس في قطاع غزة، ورئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في الحركة، والذي يرأس حاليًا ملف التفاوض على الصفقة، ويمثل عنوان الاتصال الرئيسي ما بين قيادة حماس في قطاع غزة وقيادتها في الخارج.
وقد سبق أن كان العنوان الذي قدمته حماس للمصالحة مع النظام السوري، ويحظى بعلاقة إيجابية مع قيادة “حزب الله” اللبناني، وسبق أن التقى بالأمين العام للحزب حسن نصر الله، وشارك ضمن عدة وفود برئاسة إسماعيل هنية في زيارات إلى إيران، ويُعرف عن الحية باعه الطويل في قيادة الحركة في قطاع غزة، وقُربه من قائد الحركة في القطاع يحيى السنوار وعنوان ثقته، كما أنه سبق وقدّم 19 شهيدًا من عائلته في استهداف لمنازل العائلة، بمن فيهم بعض من أبنائه وأحفاده.
أما المرشح الآخر الذي يمكن أن يشكّل منافسًا جديًا على رئاسة المكتب السياسي، فإنه أمين سر اللجنة التنفيذية للمكتب السياسي، القيادي التاريخي نزار عوض الله، الرئيس السابق لحركة حماس في قطاع غزة (تولى مسؤولية الحركة بعد استشهاد عبد العزيز الرنتيسي سريًا حتى العام 2007)، والذي نافس بشراسة على موقع قيادة حماس في قطاع غزة مع القائد الحالي يحيى السنوار، وتعادل معه في جولتَين انتخابيتَين ليحسم السنوار المنافسة على الموقع في الجولة الثالثة بفارق بسيط جدًّا.
ويعدّ عوض الله من جيل قيادة الحركة التاريخي، ويحظى باحترام كبير في أوساط الحركة، ويشهد له توليه قيادتها في قطاع غزة في فترة حرجة جدًّا في ذروة الاغتيالات في “انتفاضة الأقصى”، وتحت قيادته سيطرت الحركة على قطاع غزة، وقد استشهد نجله إثر عملية استهداف في بداية الحرب الحالية على القطاع.
رغم أن الخيار الأرجح يتمثل بأن تُعلن حركة حماس تولي مشعل مهمة تسيير الأعمال لقيادة مكتبها السياسي، فإنه يمكن أن يرافق هذا الخيار إعلان تكليف خليل الحية بتسيير أعمال موقع نائب رئيس المكتب السياسي، ما سيضمن أن تراعي الحركة التوازنات الداخلية وتقدم صيغًا يمكن أن تتجاوز فيها أية عقبات قد تنشأ عن تولي مشعل المهمة، والحاجة إلى جسر الهوة بينه وبين “حزب الله” اللبناني وإيران، والحفاظ على خطوط التواصل مفتوحة بشكل إيجابي وفعّال.
يبقى ثمة احتمال ضعيف يتمثل بأن تلجأ حماس، تحت ضرورات الحاجة الأمنية الملحّة وحرب الاغتيالات التي تستهدف قادتها، إلى اتخاذ النهج ذاته الذي لجأت إليه بعد حملة الاغتيالات الكبيرة التي طالت قادتها في قطاع غزة عام 2004 حين اغتيل الشيخ أحمد ياسين، وتلاه اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي تولى قيادة الحركة في قطاع غزة خلفًا له، ما دفع الحركة إلى إعلان أن هوية الرئيس الجديد للحركة في قطاع غزة ستبقى سرّية للضرورات الأمنية، ما كان حتى العام 2007.