اليوم 15من مايو/أيار يكون مر على النكبة 70 عامًا، سبعون عامًا على إعلان ما يعرف بدولة “إسرائيل” واحتفالهم سنويًا بما يلقبوه بعيد الاستقلال ونحن ندعوه بيوم النكبة. لا يزال البعض يردد النبرة الشائعة التي ظهرت على وجه الخصوص بعد معاهدة السلام بأن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم، وأنه ليس واجبًا علينا أن نخوض لهم حروبهم، نظرية حشرت حشرًا بمناهج التعليم المصرية ورددتها الأجيال بعد الأجيال دون التفكير بها.
تاريخ ضياع فلسطين بالنسبة للصغار – إن عرفوه – يبدأ بوعد بلفور عام 1917 حتى عام 1948 وخسارة العرب الحرب بسبب الأسلحة الفاسدة، وبين التاريخين بيع مستمر من الفلاحين الفلسطينين لليهود الصهاينة الواردين على الأرض طمعًا في المال – أو في حالات أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين – أنهم لم يدركوا الأزمة الورادة عليهم فباعوها بصفاء نية.
ثورة 1936-1939 كان سببها يرجع إلى الثلاثة عناصر التي شاركت بها ومدى سوء الأحوال التي وصلوا لها نتيجة الحركات التوسعية التي قامت بها العصابات الصهيونية بتسهيل من المحتل البريطاني، والثلاثة عناصر هم: العمال والفلاحون والمثقفون
النظرية في كلتا حالتيها خاطئة؛ فتاريخ تحويل فلسطين لوطن قومي لليهود يرجع إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، وبين وعد بلفور وتاريخ النكبة 30 عامًا من ثورات فلسطينية مسلحة ضد الانتداب الإنجليزي والاحتلال الصهيوني، مرورًا بأوضح ثورتين، وهما ثورة البراق 1929 والثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 وهي محور حديثنا الآن.
كانت الشرارة الأولى لثورة البراق أن العرب كانوا قد سمحوا لليهود بممارسة شعائرهم حول حائط البراق/حائط المبكى بالنسبة لهم وهو آخر ما تبقى زعمًا من هيكل سليمان الذي هدمه الرومان قبل تشريدهم من فلسطين، وبالنسبة للعرب والمسلمين خصوصًا هي النقطة التي انطلق منها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بناقته البراق إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج، وانتهى الأمر برفع علم كيان الصهيونية فوق الحائط الذي يحد المسجد الأقصى؛ مما ترتب عليه ثورة شملت أنحاء فلسطين.
إلا أن ثورة 1936-1939 كان سببها يرجع إلى الثلاثة عناصر التي شاركت بها ومدى سوء الأحوال التي وصلوا لها نتيجة الحركات التوسعية التي قامت بها العصابات الصهيونية بتسهيل من المحتل البريطاني، والثلاثة عناصر هم: العمال والفلاحون والمثقفون.
عناصر الثورة
العمال
بين عامي 1933 و1935 هاجر 150 ألف يهودي إلى فلسطين وأصبح عددهم في فلسطين 443.000 نسمة وبين عامي 1932 و1936 دخل فلسطين حسب الإحصاءات الرسمية 1380 يهوديًا يملكون أكثر من ألف ليرة فلسطينية للاستثمار، وكان قد رفع شعار “اليد العاملة اليهودية فقط” الذي ترتب عليه نتائج خطيرة، إذ أدى بسرعة لا مثيل لها لبروز الفاشية في مجتمع المستوطنات اليهودية.
ففي عام 1935 كان اليهود يسيطرون على 872 مؤسسة صناعية في فلسطين من أصل 1212 يستخدمون فيها قرابة 14 ألف أجير، في حين أن العرب كانوا يسيطرون على 340 مؤسسة يستخدمون فيها نحو 4000 أجير! بالإضافة إلى أن الفرق بين أجور العمال اليهود والعرب وصلت إلى 145% وفي بعض الأعمال وصلت إلى 433%!
هذه الانعاكسات وضحت الصورة أن الانتداب البريطاني يسهل ويمهد للرأسمال اليهودي للسيطرة على الهيكل التحتي للاقتصاد الفلسطيني، كما رفضت الحكومة البريطانية إعطاء إذن لتظاهرة قرر القيام بها ألف عامل عاطل عن العمل في يافا يوم 6 من ديسمبر/ كانون الأول 1935، وقالت مذكرة جمعية عمال العرب للحكومة إنه إذا لم تقم الأخيرة بحل المشكلة “فإن الأيام المقبلة ستضطرها إلى إطعام العمال خبز أو رصاص”.
منذ عام 1925 أنشئت جمعية عمال العرب التي استطاعت في فترة وجيزة إنشاء 19 فرعًا في عدة مدن وقرى في فلسطين، ورغم أن هدفها كان العمل في إطار القانون والبُعد عن الدين والسياسة، فقد انبثق منها عدة قادة ثوريين محليين
إن سياسة طرد العمال العرب والتضيق عليهم لم تكن سياسة عشوائية حدثت من قبيل الصدفة، بل في الواقع الحركة الصهيوينة منذ البدء كانت تخطط لما سيحدث، “إن الأراضي الخاصة في المناطق الممنوحة لنا يجب أن نستولى عليها من أيدي المالكين، ويجب إجلاء الفقراء من السكان بهدوء خارج الحدود”.
منذ عام 1925 أنشئت جمعية عمال العرب التي استطاعت في فترة وجيزة إنشاء 19 فرعًا في عدة مدن وقرى في فلسطين، ورغم أن هدفها كان العمل في إطار القانون والبُعد عن الدين والسياسة، فقد انبثق منها عدة قادة ثوريين محليين، ويقال إن عز الدين القسام كان له نفوذ قوي بين صفوف قواعدها العمالية.
في حين كانت المؤسسات الصناعية الصهيونية في تزايد وتوفر الحياة المترفة لعمالها اليهود فقط وتسيطر على الأراضي والمشاريع بشكل مدروس وشردت الكثير من العائلات العمالية الفلسطينية.
الفلاحون
في ثورة فلسطين الكبرى، يعد الفلاحون العمود الأساسي الذي حمل الثورة على عاتقه، وكان يعاني من السحق تحت رحى الغزو الصهيوني للأرض والملكية الإقطاعية العربية وفداحة الضرائب التي تفرضها حكومة الانتداب!
مشكلة الأراضي الزراعية ترجع بشكل أساسي إلى أنه رغم أن نحو 59% من العرب كانوا يمارسون الزراعة، قلة قليلة منهم امتكلت مساحات من الأرض وكانت صغيرة جدًا لا تكفيهم، والملكية الرسمية كانت تقع في يد إقطاعيين عرب، كما أن في انتفاضة أغسطس/آب 1929 وانتفاضة 1933 باع كثير من المزارعين الصغار أراضيهم لملاك عرب ليشتروا بثمنها سلاحًا.
بالإضافة إلى أن القوانين التي سنتها حكومة الانتداب قد صممت لخدمة أهداف الاستطيان وإن حاولت الإيحاء بعكس ذلك وعدم إجبار الفلاح على الخروج من أرضه أو تقديم الضمانات له، إلا أن هذه القوانين لم تمنع حوادث طرد الفلاحين من أراضيهم كحادثة “وادي الحوادث” وحادثة “قرية شطة” وغيرهم.
في 15 من مايو/أيار 1936 انعقد مؤتمر تقرر فيه بالإجماع الامتناع عن دفع الضرائب إذا لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييرًا أساسيًا تظهر بوادره بوقف الهجرة اليهودية
ويبين غرانوت – خبير الأراضي اليهودي – أن ما كسبته 3 شركات يهودية حتى عام 1936 – وهو يشكل نصف ما كسبه اليهود حتى ذلك التاريخ – حصلت على 52.6% منه من كبار أصحاب الأرض الغائبين، و24.6% من كبار أصحاب المقيمين، و13.4% من الحكومة والكنائس والشركات الأجنبية و9.4% من الأفراد الفلاحين.
ونتيجة لذلك فإن أحوال الفلاحين سارت إلى تردٍ تام، فلجنة جونسون -غروسبي أقرت أن الفلاح يعيش على 19 جنيهًا سنويًا هو وعائلته، بينما ما يكفي لتغطية معيشة عائلة فلاحية كما يقول التقرير نفسه 26 جنيهًا.
المثقفون
عام 1931 كانت نسبة المتعلمين بين مسلمي فلسطين 251 بالألف بين الذكور و33 بالألف بين الإناث و715 بالألف بين الذكور المسيحين و441 بالألف بين الإناث، وكانت النسبة 934 بالألف بين ذكور اليهود و787 بالألف بين إناثهم.
إلا أن التعليم وبناء المدارس لم يكن مقياس الثقافة لطبقة المثقفين بين أفراد الشعب الفلسطيني، فقد لعبت حركة الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية دورًا مهمًا، وكذلك التواصل بين أفواج المتخرجين من بيروت والقاهرة، ولعب الأدب وخصوصًا الشعر دورًا كبيرًا في التحريض، وكذلك الأدب الشعبي الذي خرج عن حدود المألوف:
“يا عربي يابن المجرورة
بيع أمك واشري بارودة
والبارودة خير من أمك
يوم الثورة تفرج همك..”
وكذلك شاعرًا شعبيًا اسمه “عوض” كتب على جدران زنزانته بعكا ليلة إعدامه في 1937:
“ظنيت النا ملوك
تمشي وراها رجال
تخسا الملوك أن
كان هبك الملوك آنذاك
والله تجيانهم ما
يصلحوا لنا نعال
إحنا اللي نحم الوطن ونبوس جراحو”
اندلاع الثورة
كل العناصر السابقة وما تعرضت لها كل طائفة من تضييقات ودفع ناحية الخروج من فلسطين، أدى إلى لحظة الانفجار التي يختلف المؤرخون بشأن تحديدها؛ فمنهم من يعتبر أن الحادث الرئيسي ما حدث في نيسان 1936 حيث هاجمت حشود في يافا على المارين اليهود، والرأي الثاني أن الشرارة بدأت عندما قامت عصابة عربية مجهولة بنصب كمين لسيارات كات تعبر بين عنبتا وسجن نور شمس، بلغ عددها 15، فسلبت الركاب اليهود والعرب على السواء أموالهم، وألقى أحد الأفراد الثلاث من العصابة على مسامع الركاب العرب أن الثورة قامت ونأخذ أموالكم حتى نستطيع أن نحارب العدو وندافع عنكم.
إلا أن جميع المصادر تعتبر أن الانتفاضة القسامية التي فجرها الشيخ عز الدين القسام كانت البداية الحقيقية لثورة 1936. أما تقرير اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل) أرجع الثورة إلى سببين: رغبة العرب في نيل الاستقلال القومي وكرههم لإنشاء وطن قومي لليهود وتخوفهم منه.
في الريف اتخذت الثورة شكل العصيان والعصيان المسلح، وفي 15 من مايو/أيار 1936 انعقد مؤتمر تقرر فيه بالإجماع الامتناع عن دفع الضرائب إذا لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييرًا أساسيًا تظهر بوادره بوقف الهجرة اليهودية.
ردة فعل بريطانيا على الثورة
ردت الحكومة البريطانية ردًا عنيفًا على الكادر التنظيمي وبدأت في موجة اعتقالات، وكذلك على الجماهير الفقيرة، أصدرت عدة قوانين مجحفة تبدأ بحبس ست سنوات لحيازة مسدس وتنتهي بأسبوعين لحيازة عصا!
الخسائر البشرية كانت قد وصلت إلى نحو 20 ألف ما بين قتيل وجريح، وهذا الرقم يشتمل الإصابات التي أصيب بها الفلسطينيون من الصهاينة
كما انتهجت الحكومة البريطانية نهج نسف المنازل والتشريد – نفس سياسة الاحتلال الصهيوني حاليًّا خصوصًا في قطاع غزة – ونفذت أحكام الإعدام بكثرة وخصوصًا ضد الفلاحين الذي ما لبثوا أن سيطروا على الثورة سيطرة كلية وتراجعت باقي الطوائف، حتى تحولت الثورة الكبرى إلى ثورة (العقال) غطاء الرأس الفلسطيني الذي اشتهر به الفلاحين، حيث قام أهل المدن أيضًا بارتدائه لمنع التمييز والاضطهاد الذي يمارس ضد الفلاحين إذا نزلوا للمدن، وإلى جانب القوات البريطانية برزت العصابات الصهيونية في الهجوم الشرس لدحض الثورة وفرض سيطرتهم على الأجواء. ومع تقارب تاريخ قيام الحرب العالمية الثانية، أصبح قتل الثورة كليًا ضرورة لا بد منها، فقمعت فرنسا بدورها مقر الثورة بدمشق قمعًا تامًا.
الخسائر والمكاسب
الخسائر البشرية كانت قد وصلت إلى نحو 20 ألف ما بين قتيل وجريح، وهذا الرقم يشتمل الإصابات التي أصيب بها الفلسطينيون من الصهاينة، أما الخسائر الحقيقية فكانت التوسع الاستيطاني السريع في فلسطين عسكريًا واقتصاديًا، وأصبحت العصابات الصهيونية قوة فعالة مسيطرة لها وجود اقتصادي وسياسي وعسكري لا يمكن إنكاره، وقد أرست قواعد الكيان الذي تم إعلانه رسميًا 1948.
منذ أن بدأ الكفاح الفلسطيني – المسلح – عام 1918 وحتى الآن، ومع اتخاذه لأشكال عدة، ما زالت الجهود الفلسطينية تقابل بالنقض والتنقيص من كوادر تكالبت عليها سابقًا واتخذت دور المتفرج في أحايين كثيرة
إن الثورة الفلسطينية الكبرى قامت بشكل أساسي على عاتق الفلاحين على وجه الخصوص، وهم أيضًا أكثر من دفعوا ثمنها، حيث كانوا أكبر طائفة هدمت منازلها وشردت وانتزعت أراضيها عنوة ونفذ بهم أحكام الإعدام والاعتقال بتوسع.
ففي عام 1938 أعدم عدد من الفلاحين فقط لحيازتهم سلاحًا، وباستعراض سريع لقوائم الأسماء نكتشف أن الغالبية من الفقراء الفلاحين، بالإضافة إلى الأحكام التعسفية التي كان الهدف منها تضييق الخناق على الفلاحين مثلما حدث مع قرية عين كارم حيث حكم عليهم بالسير عشرة كيلومترات يوميًا ليثبتوا وجودهم لدى البوليس!
منذ أن بدأ الكفاح الفلسطيني – المسلح – عام 1918 وحتى الآن، ومع اتخاذه لأشكال عدة، ما زالت الجهود الفلسطينية تقابل بالنقض والتنقيص من كوادر تكالبت عليها سابقًا واتخذت دور المتفرج في أحايين كثيرة، وتوجه أصابع الاتهام ناحية الشعب الفلسطيني، بأنه السبب في ضياع أرضه وبيعها لليهود.