ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما كنت أسير مع المترجم خالد شارا الذي ينحدر من عمان، على الطريق الرئيسي المؤدي لمخيم جرش، الذي تديره وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، قاطع رجل مسن حديثنا من خلال ضرب عصا المشي اللامعة على الطريق المليئة بالحصى والرمل. لقد كان يضع الكوفية الفلسطينية، ذات اللون الأبيض والأسود بطريقة صحيحة، حيث كانت تنسدل من رأسه وتغطي لحيته البيضاء، وتنزل على أكتافه وسترته الداكنة. وقد كان هذا الشيخ المسن يغني “رح نرجع…”.
غادر نبيل سالم مع عائلته في نهاية حرب الأيام الستة، التي دارت أحداثها سنة 1967. وحتى يومنا هذا لا يزال نبيل يتذكر كلام والده الذي نصحه بأن لا يحمل سوى القليل من الأمتعة معه، لأنه سيعود بالتأكيد إلى الضفة الغربية خلال بضعة أشهر. وحتى اللحظة الراهنة، لا يزال نبيل، البالغ من العمر 62 سنة، يعيش على الأرصفة المتداعية ويسير في الطرق الترابية للمخيم، الذي وصل إليه قبل 50 سنة.
97 بالمائة من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات لا يتمتعون بأي ضمان اجتماعي، ومعظمهم غير قادرين على تحمل مصاريف تجديد جوازات سفرهم المؤقتة
كان نبيل ضمن 370 ألف لاجئ فلسطيني الذين انضموا إلى المخيمات العشرة في الأردن التي تمولها وكالة أونروا، التي تأسست خلال سنة 1949 ردا على أول احتلال لفلسطين سنة 1948، والذي يُعرف باسم “النكبة”، التي تم خلالها طرد 700 ألف فلسطيني من منازلهم.
خلال سنة 1967، جاءت الموجة الثانية من اللاجئين في أعقاب حرب الأيام الستة، التي يطلق عليها الفلسطينيون اسم “النكسة” حيث فر حوالي 325 ألف فلسطيني، وقد كان نبيل وعائلته من بين الفارين. لقد قابلت محمد أبو صيام، الذي يقود مكتب تنمية المجتمع المحلي في المخيم، ويعمل بالتعاون مع وكالة أونروا، ويبحث عن مسارات تمويل متنوعة داخل الأردن وخارجه لتحسين نوعية حياة سكان المخيمات.
دعانا محمد إلى منزله لكي نتمتع بالظل اللطيف في غرفة جلوسه والاستراحة على وسائد الأرضية القديمة. وبينما كنا نرتشف شاي النعناع الحلو، أشار محمد إلى أن 97 بالمائة من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات لا يتمتعون بأي ضمان اجتماعي، ومعظمهم غير قادرين على تحمل مصاريف تجديد جوازات سفرهم المؤقتة، التي شهدت زيادة من حوالي 50 دينارا أردنيا إلى 200 دينار أردني (أي ما يعادل 200 جنيه إسترليني) خلال سنة 2017.
مما لا شك فيه، إن عدم وجود رقم ضمان اجتماعي لهؤلاء اللاجئين يشكل عائقا في حياتهم خارج المخيم، نظرا لأن ذلك يخفض من فرص حصولهم على عمل بشكل كبير. كما أن القيود التي تفرضها الحكومة الأردنية على التوظيف لها نتائج كارثية. وأضاف محمد، وهو يضرب يده على فخذه من شدة الإحباط، أن 46 في المائة من اللاجئين يعيشون حاليا تحت خط الفقر وينفقون دولارا واحدا في اليوم.
عندما كان يتحدث، كنت أنظر إلى قاع كأس الشاي الفارغ الذي كنت أشربه لكي أستطيع فهمه. وحين سكت أحدق صمت مريب على كامل الغرفة. لقد انعكس إحباط وضعف محمد على كامل جدران المنزل البيضاء. وفقا لمحمد، تصل نسبة البطالة إلى 39 في المائة، أما منيحالفهم الحظ في العثور على عمل فيحصلون على وظيفة ذات دخل منخفض؛ على غرار عمال اللحام، وعمال النظافة، وأولئك الذين يعملون في المزارع الواقعة خارج المخيمات.
إذا لم يكن هؤلاء الطلبة يحظون بمؤهلات علمية عالية تخول لهم الحصول على المنح الدراسية المتاحة للفلسطينيين، فإنهم يضطرون إلى التغيب عن الفصول الدراسية أثناء الالتحاق بالجامعة للعمل من أجل التمكن من تمويل الفصل الدراسي التالي
علاوة على ذلك، أفاد محمد بأن الأونروا تلتزم بضمان التعليم لأطفال العائلات التي تعيش في المخيمات، والذين تتراوح أعمارهم بين ست سنوات حتى 16 سنة. ومن ثم توفر الحكومة سنتين إضافيتين من التعليم إلى هؤلاء الأطفال، إلى حين بلوغهم 18 سنة، ولكن بعد ذلك يجد الطالب نفسه وحيدا.
والجدير بالذكر أنه يتم التعامل مع أي فلسطيني لا يملك رقم ضمان اجتماعي كطالب دولي، مما سيساهم في تزايد رسوم الجامعة إلى أكثر من 4200 دينار أردني في السنة (أي حوالي 4300 جنيه إسترليني)، الذي يعد ضعف المبلغ الذي يدفعه الأردنيون.
إذا لم يكن هؤلاء الطلبة يحظون بمؤهلات علمية عالية تخول لهم الحصول على المنح الدراسية المتاحة للفلسطينيين، فإنهم يضطرون إلى التغيب عن الفصول الدراسية أثناء الالتحاق بالجامعة للعمل من أجل التمكن من تمويل الفصل الدراسي التالي. وقد أكد محمد أنه “لا يمكن للطلاب هنا الحصول على قروض جامعية”.
فيما بعد التقينا بمهند سالم، البالغ من العمر 22 سنة، الذي بدا هادئ الطباع عندما كان يهم بالخروج من منزل عائلته. وقد مشى معنا في وهج شمس المساء الذي ينعكس على الأزقة الضيقة. نشأ مهند في مخيم جرش، من عائلة كانت أصولها تنحدر من بئر السبع. وفي الوقت الحالي، يزاول مهند سنته الثانية الجامعية في مجال الهندسة الميكانيكية بعد أن تحصل على منحة دراسية قائمة على الجدارة. وبينما كان يغلق عينيه الخضراوتين من نور الشمس الساطع ويزيح شعره البني الذي ينسدل على كتفيه إلى الوراء، قال إنه “ليس من السهل أن تكون لاجئًا من المخيمات”.
لطالما كان الأردن بلدًا يعرف بالضرائب المرتفعة جدا التي يفرضها على المبيعات. فليس من المستغرب أن تجد أن سعر علبة من حبوب دوفز فارم يصل إلى حوالي 10 جنيهات إسترلينية
إلى جانب ذلك، روى مهند كيف كان زملاءه الأردنيون في مقاعد الدراسة يرفضون وجوده، وكيف كانوا يشعرونه بأنه أقل شأنا منهم. لقد كان مهند يحلم بأن يخرج من المخيم والأردن، ويأمل في أن يتمكن يوما ما من العمل والاستقرار في أوروبا.
على بعد 37 ميلا فقط من هنا، في حي “وسط المدينة الجديدة” في عمان، يتم إنشاء مشروع بقيمة خمسة مليارات دولار في شارع العبدلي، فضلا عن مراكز التسوق، والمباني الزجاجية والمعدنية التي تطل على المناظر الطبيعية. ويندرج كل هذا ضمن جهود الأردن الرامية لجذب المستثمرين الأجانب إلى العاصمة.
في هذه المدينة، تجد فروع شركات وفنادق كبيرة على غرار دبليو أوتيل، ستاربكس، سانغلاس هات، وحتى أستون مارتن التي تعرض بفخر داخل صندوق زجاجي سيارة “في 8 فينتاج” التي يصل سعرها حوالي 200 ألف جنيه إسترليني، والتي تفرض عليها الحكومة ضريبة تساوي 110 آلاف جنيه إسترليني.
كنت أسير وأتحدث مع المدير الذي كان يتنقل في أرجاء صالة العرض وهو يلبس حذاء مصنوعا من جلد الغزال الذي يصدر صوتا عند الارتطام بالأرضية الزجاجية المصقولة. لقد رحب بي في مكتبه وهو يضع سيجارته نصف المحروقة بين شفتيه، حيث تحدث معي عن قوائم الأسعار. من خلال ضباب دخان سيجارته الذي ملأ الغرفة، شرح لي بإثارة جميع الموديلات الجديدة التي سيعرضها للبيع خلال السنة المقبلة، بينما كان ينتظر مني أن أهنئه على جهوده.
بعد الحد من المساعدات الموجهة للأونروا، لن يبقى في مخيم جرش البالغ عدد سكانه 30 ألف نسمة، سوى 10 عمال من بين 43 عامل نظافة
لطالما كان الأردن بلدًا يعرف بالضرائب المرتفعة جدا التي يفرضها على المبيعات. فليس من المستغرب أن تجد أن سعر علبة من حبوب دوفز فارم يصل إلى حوالي 10 جنيهات إسترلينية، بينما تكلف علبة من صلصة طماطم نابولينا حوالي 3.25 جنيها إسترلينيا، بينما يبلغ سعر كرة من جبن الموتزاريلا 4.5 جنيها إسترلينيا. وبما أن متوسط الرواتب في الأردن يصل إلى 400 جنيه إسترليني في الشهر، فلا عجب من أن تظل مراكز التسوق الجديدة فارغة؟
عندما تذكرت من جديد مخيم جرش، وبعيدا عن صورة دبي التي تتبلور وسط عمان، تساءلت ما الذي يمكن أن أفعله على الأرض هنا للمساعدة في تغيير مصير مئات الآلاف من الفلسطينيين المحاصرين في هذه المخيمات الأردنية. ومع ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد بنسبة 2 في المائة، الذي كان قبل عقد من الزمن يعادل 6 في المائة، وارتفاع نسبة التضخم بنسبة 3.3 في المائة، تركز الحكومة في الوقت الحالي على زيادة الأمن وتجاوز هذه الثغرة المالية المظلمة، التي يبدو أنها تمتص الحياة والروح من شعبها. لكن، يبدو أنها قد تخلت عنه وهي في طريقها إلى تحقيق هذه الأهداف.
بعد أن قرر دونالد ترامب أنه اعتبارًا من شهر كانون الثاني/ يناير 2018، سيقوم بتخفيض المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة إلى الوكالة إلى 65 مليون دولار، علما بأنها كانت تبلغ في السابق 125 مليون دولار، وذلك بعد أن شعر أن الشعب الفلسطيني لم يبد سوى القليل من الامتنان والاحترام للولايات المتحدة؛ وجدت وكالة أونروا نفسها في خضم معركة جديدة.
الحيوية المتجددة التي يتسم بها الشعب الفلسطيني وقدرته على المواجهة والتحدي، تحيل بأنه ربما يكون نبيل سالم على حق، ومن المرجح أنهم سيعدون إلى ديارهم
في الحقيقة، ستؤثر هذه المعطيات الجديدة بشكل مباشر وكارثي على وضعية اللاجئين الفلسطينيين الصعبة. وبعد الحد من المساعدات الموجهة للأونروا، لن يبقى في مخيم جرش البالغ عدد سكانه 30 ألف نسمة، سوى 10 عمال من بين 43 عامل نظافة. وبالتالي، ستجذب رائحة القمامة المتعفنة في كل مكان الفئران، وسيكون هواء المخيم مليئا بالذباب ما سيجبر العديد من سكانه على حرق القمامة في الشوارع والأزقة.
اقتربت من مجموعة من الأولاد الصغار في سن المدرسة، الذين يلعبون بين أكوام القمامة لأسألهم عما يبحثون عنه. فأراني إبراهيم بسام، البالغ من العمر 11 سنة، وهو يحمل بفخر بيديه المتسختين جائزته، علبة سجائر فارغة. ومن ثم شرع إبراهيم في تمزيقها قطعا صغيرة متساوية، ثم وضعها إلى جانب عدة قطع أخرى وجدها في وقت سابق، لينجح في جمع رزمة كبيرة من البطاقات في جيبه. وقد أخبرني أن هذه الأوراق هي نقوده وهو الآن قد أصبح غنيا جداً. في الحقيقة، يعتبر هذا المشهد من إحدى الحالات التي لا تعرف فيها بصراحة ما إذا كان يجب عليك أن تضحك أو تبكي.
قضيت الليلة مستيقظا وأنا أنظر إلى السماء الصافية فوق المخيم أفكر في حل لهذه المشكلة، بينما ترقص الأكياس البلاستيكية السوداء والبيضاء الطائرة فوق سماء المخيم وترتفع وتنخفض مثل أسراب الحمام. أدركت أنه لا يسعني المساعدة في حل هذه المشكلة. ولكنني شعرت أن الوقت قد حان لدفن رؤوسنا في الرمال والكف عن تضييع سنوات في توجيه أصابع الاتهام لبعضنا البعض، فنحن في مأزق. لكن الحيوية المتجددة التي يتسم بها الشعب الفلسطيني وقدرته على المواجهة والتحدي، تحيل بأنه ربما يكون نبيل سالم على حق، ومن المرجح أنهم سيعدون إلى ديارهم.
المصدر: الإندبندنت