منذ اليوم الأول لـ”طوفان الأقصى”، دشنت “إسرائيل” الحملة الأكبر في تاريخها بهدف تقديم سرديتها للأحداث وشرعنة عدوانها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفق حملة إعلامية على عدة مستويات شملت التأثير في الرأي العام العالمي، وتقديم دولة الاحتلال ضحية تدافع عن وجودها وحقها في الحياة، وعلى المستوى ذاته شيطنة المقاومة ومحاولة وصمها بالإرهاب وربطها بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، واختلاق العديد من الروايات الموجهة والمواد الإعلامية والتقارير الإعلامية والشهادات المفبركة.
وفي الوقت الذي أغرقت فيه “إسرائيل” وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرسمي العالمي بموادها، لم تتوان عن استخدام كل أدوات الملاحقة لإجهاض كل صوت ومنصة ومنبر يواجه الدعاية الصهيونية ويتصدى لسرديتها.
ولم تتوان “الهاسبارا” الإسرائيلية عن استدعاء كل أدوات تأثيرها، بل واستحداث ما يلزم من خطط وتطبيقات وأدوات لمرافقة مجريات حرب الإبادة في قطاع غزة، ولم تكن “الهسبارا” على هامش الفعل الإسرائيلي أو المؤسسة الرسمية، بل قبعت في سطور خطابات قادة الحرب، وفي منصات التواصل الاجتماعي والفضاء العام، وكانت جاهزة لتبرير كل مجزرة، وشيطنة كل فعل مساند، واستدعاء كل خطابات المظلومية التاريخية لتعزيز رواية “إسرائيل” وتبييض صورتها.
كما لم يتوقف دور “الهاسبارا” عند حدود الرأي العام العالمي، ومحاولة تعميم السردية الإسرائيلية ومواجهة السردية الفلسطينية، بل تعداه إلى الحرب النفسية التي تستهدف الشعب الفلسطيني، الذي تنوعت الرسائل إليه ما بين الترهيب النفسي وإشاعة أجواء الرعب، والتحريض والتأثير غير المباشر وتعميم خطاب تحريضي يستهدف المقاومة ويهدف إلى تأليب الحاضنة الشعبية ضدها.
أجادت دولة الاحتلال دور الضحية منذ عقود، واستثمرت لسنوات في خطاب التباكي على ضحايا “الهولوكست”، والاستثمار في تهمة “معاداة السامية“، وقد حظي هذا الخطاب بالمساحة الأوسع في الخطاب الإسرائيلي للعالم، فيما تمسكت “إسرائيل” في دعايتها للغرب بكونها “واحة الديمقراطية” وسط غابة الشرق الأوسط المظلم والغارق في الديكتاتوريات الهادفة إلى تصفيتها.
مثل النموذج الصارخ لذلك كله خطاب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أمام الكونغرس الأمريكي في 24 يوليو/تموز 2024، الذي لم يتسم بالانسجام الكامل مع عقيدة “الهسبارا” فحسب، بل أعاد تأسيسها، واصفًا إبادة الفلسطينيين المستمرة في قطاع غزة بأنها “ليست صراع حضارات، بل إنها صراع بين البربرية والحضارة”.
الاستثمار الصهيوني التاريخي في الدعاية والحرب النفسية
مبكرًا أدرك قادة الحركة الصهيونية أهمية سلاح الدعاية والتأثير في مستويات صنع القرار في العالم، وللمفارقة فإن تأسيس أولى أدوات الدعاية الصهيونية قد سبق تأسيس “دولة إسرائيل” ذاتها بعد استيطان الأراضي الفلسطينية وقتل وتهجير شعبها، إذ تعود أصول ماكينة الحرب الصهيونية إلى تأسيس الأب الروحي للصهيونية، ثيودور هرتزل، مجلة “دي فيلت” بوصفها منبرًا إعلاميًا يعبر عن الحركة الصهيونية على أعتاب المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897، عادًا “الضجيج” عاملًا أساسيًا في إقامة الوطن اليهودي في فلسطين، تلاه تأسيس المؤتمر لـ”مكتب التوجيه المركزي”.
استخلص قادة الحركة الصهيونية الأهمية المتصاعدة للدعاية من مجريات الحرب العالمية الأولى، بعد أن بادر الرئيس الأمريكي في حينه، ودرو ويلسون، إلى تشكيل لجنة دعائية تعرف باسم “لجنة الإعلام العامة” ساهم في عضويتها كبار المفكرين والمنظرين الأكاديميين بميزانية تقارب 10 ملايين دولار، بهدف تحفيز الدعم الأمريكي للحرب.
وهو النموذج الذي حاكته بريطانيا فيما بعد، ما أطلق العديد من المؤامرات والحملات الدعائية المضادة في الحرب العالمية الأولى، فأقامت الحكومة البريطانية وكالة سرية للدعاية الحربية في “ويلجتون هاوس” تحت إشراف وزارة الخارجية، والتي كانت أكثر الفروع أهمية في شبكة الدعاية البريطانية فيما بين العامين 1914-1917 وكان عملها بالغ السرية، فقد أخذت على عاتقها مهمة التحريض ضد الألمان واكتساب مستويات تأثير متعددة باستخدام الدعاية، ما دفع الحركة الصهيونية المتأثرة كثيرًا بالمدرستين الأمريكية والبريطانية إلى الحذو حذوهم وتطوير الماكينة الدعائية الصهيونية وتأسيس “دائرة الدعاية” في الحركة الصهيونية.
عززت الحرب العالمية الثانية من فكرة الأهمية الكبرى للدعاية، خصوصًا بعد الاستخدام النازي الموسع لها والتي عمل وزير الدعاية والبروباغندا، النازي جوزيف جوبلز، على تطوير أدواتها وتنويعها، مستخدمًا المنصات الصريحة والمنصات وأدوات الدعاية مجهولة المصدر والأساليب الدعائية الخداعية التي تهدف إلى تحطيم الروح المعنوية للخصم.
وفي المقابل طور الحلفاء أدوات الدعاية المضادة لتشهد الحرب العالمية حروب دعائية كبرى من مختلف الأطراف بهدف تحقيق هزيمة معنوية لأعدائهم، ما بات يركز الدعاية في كونها “الاتصال القائم على التضليل والتلاعب”، وهو ما شكل المدخل الرئيسي لتطوير الإسرائيليين مفاهيم “الهاسبارا”.
من “الدبلوماسية العامة” إلى “الهاسبارا 2.0”
بدأت دولة الاحتلال في تدشين ماكينة التأثير الخارجية الرسمية بوصفها تقنيات للدبلوماسية العامة التي تربط بين المعلومات والأهداف الاستراتيجية للدولة الإسرائيلية، وهي استراتيجية تصور الدبلوماسية العامة كأولوية في السياسة الخارجية، تهدف إلى تنمية الصورة الإيجابية لـ”إسرائيل” على الساحة العالمية.
وذلك في مواجهة التحديات المتعددة التي واجهتها منذ تأسيسها في العام 1948، على أن تستهدف أدوات الدبلوماسية العامة الدبلوماسيين والسياسيين والجمهور عبر وسائل الإعلام، لتجميل وجه ساستها وانتهاكاتها أمام العالم، وللدبلوماسية العامة وجهان: فإما أن تكون منصة لتوضيح المواقف أمام العالم، وإما تكون أداة للتضليل والمراوغة.
“الهاسبارا” مصطلح عبري يعني الشرح أو التفسير وينسب استخدامه الأول إلى أحد زعماء الحركة الصهيونية، ناحوم سوكولوف، الذي رأى أنه يجب أن ترافق إقامة أي مستوطنة على أرض فلسطين دعاية تخفض من حجم التصور السيئ والصورة السلبية عن عملية الاستيطان اليهودية في فلسطين.
بدأت فكرة “الهاسبارا” تأخذ أبعادًا أكثر تنظيمًا وتحظى باهتمام أوسع في المؤسسة الرسمية الإسرائيلية في الثمانينيات، شملت عملية تأهيل واسعة لقيادات جديدة للدبلوماسية العامة الإسرائيلية، التي أخذت تظهر بقوة في ذلك الوقت بوصفها شكلًا من أشكال الاستجابة للصورة السلبية التي لحقت بـ”إسرائيل”.
خاصةً إثر الجرائم التي رافقت اجتياح بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، ما حدا بالكنيست إلى اعتماد هذا المفهوم اعتمادًا أوسع، جاعلًا منه العماد الأساس في تطوير العلاقات الدولية وتعميق الدبلوماسية تحت إشراف وزارة الشؤون الاستراتيجية والإعلامية.
في أعقاب حرب لبنان عام 2006، والحروب الإسرائيلية على قطاع غزة في أعوام 2008 و2012 و2014، التي ألحق كل منها أضرارًا جسيمة بسمعة “إسرائيل” الدولية، حدث تحول تدريجي أسمته الباحثة، ميريام أوراغ،” الهاسبارا 2.0“، وهي “دبلوماسية رقمية حازمة تأخذ في الاعتبار تقنيات الويب 2.0، مثل وسائل الإعلام الاجتماعية ويوتيوب”.
وبعد فترة وجيزة، دُمجت مع المبادرات الإعلامية لجيش الاحتلال، مع تشكيل فريق دائم يعمل بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاستراتيجية. استخدمت الدعاية الإسرائيلية قنوات الاتصال الأكثر دقةً في وسائل الإعلام الاجتماعية استخدامًا مكثفًا، كما استغلت وظائف المتصفح وخوارزميات محرك البحث، وغيرها من الآليات التي تتحكم في المحتوى المقدم للمشاهدين.
وفي هذه العملية، صممت “إسرائيل” رواية تصور فيها نفسها الضحية البريئة لـ”لإرهاب الفلسطيني”، وهي الرواية التي منحت الحق السيادي في الدفاع ضد الهجوم الوجودي.
استراتيجيات “الهاسبارا”.. ما بين التأثير والقمع الرقمي
في إطار التطلع إلى تعزيز صورة “إسرائيل” على الصعيد الدولي، يركز مفهوم “الهاسبارا” على تبني سلسة من الاستراتيجيات الإعلامية والتواصلية، ضمن هذا الإطار، يلخصها كتيب “Hasbara” الذي يعد دليلًا يتناول الأساليب التفصيلية للدفاع عن المصالح الصهيونية في الفضاء الافتراضي، بما في ذلك تقنيات الجدل والمشاركة في النقاشات الفكرية، إذ تتلخص الأهداف الرئيسة في النقاط التالية:
التواصل الشامل: الوصول إلى جميع الشعوب والثقافات عبر تقديم رسائل مصممة بعناية تتناسب مع الأفكار والمعتقدات الفريدة لكل جمهور، بهدف التأثير إيجابيًا على الانطباعات والمشاعر تجاه “إسرائيل”، وذلك من خلال التركيز على سرديات مختلفة، مثل التركيز على المعاناة التاريخية لليهود أو البرهنة على القوة والاستقرار الذاتي للدولة.
تبرير السياسات الهمجية والوحشية: توضيح وتبرير الأعمال التي قد ينظر إليها على أنها عنيفة ووحشية تحت شعار “مكافحة الإرهاب” بهدف تعزيز فهمٍ أعمق للتحديات الأمنية التي تواجه دولة الاحتلال.
التشويه الرقمي: إذ يعاد من خلاله تشكيل الحقائق والتعامل مع الوقائع والسرديات بطريقة تسعى إلى تقديم وجهة نظر الاحتلال في إطار موضوعي، وذلك بإعادة تفسير الأحداث أو تعديل سياقها لصالح الرؤية الصهيونية، عبر التلاعب بالوعي وحرف الأنظار عن المجرم الحقيقي.
الردع الرقمي: ويتمثل بالتصدي للآراء المعارضة، عبر دفع شركات الإنترنت الكبرى لاتخاذ تدابير صارمة بحق الأصوات المعارضة، والعمل على تصوير أي نقد أو نشاط معارض لـ”إسرائيل” على أنه “معادٍ للسامية”، إذ تُحذف الآلاف من المنشورات والحسابات المتعاطفة مع فلسطين على منصات التواصل الاجتماعي.
التفاعل التكنولوجي والتعبئة الرقمية: تنظيم دورات تدريبية متخصصة في مجال الإنترنت والتواصل الاجتماعي لتحسين القدرة على نشر المحتوى الذي يعكس الأهداف الإعلامية لـ”لهسبارا”، بما في ذلك استخدام التطبيقات الموجهة لتعزيز الرسائل الداعمة لـ”إسرائيل” في مواجهة السرديات المعادية لها، خاصةً حملة المقاطعة BDS ومحاولة تجريمها والحد من نشاطها وتأثيرها في العالم.
الدبلوماسية الرقمية: تتمثل في الرد على الانتقادات بتطوير استجابات مدروسة ومبنية على مكافحة أي انتقادات موجهة ضد دولة الاحتلال، وذلك بما يضمن تقديم موقف موضوعي ومبني على المعلومات.
التركيز على الجمهور الغربي: السعي إلى تقديم “إسرائيل” بوصفها دولة تقدمية وديمقراطية ضمن النمط الغربي تواجه تحديات وتهديدات غير مبررة من جيرانها، بهدف تعزيز الدعم والتفهم من جانب الجمهور الغربي.
“الهاسبارا” في “طوفان الأقصى”
منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، نظمت دولة الاحتلال الحملة الأضخم للتأثير في الرأي العام الدولي، ويرصد رئيس برنامج الصحافة في معهد الدوحة للدراسات العليا، الباحث باسم الطويسي، تسلسلها بمراحل ثلاثة في خلال الشهرين الأولين من الحرب، ففي المرحلة الأولى شكل الهجوم الدعائي الأول الرد المباشر في محاولة لتفسير ما حدث في فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول، وخلق إجماع عالمي حول الرواية الإسرائيلية.
ثم انتقلت الدعاية الإسرائيلية في المرحلة الثانية إلى تبرير هجومها الجوي المتوحش وحربها التي خلفت نحو 20 ألف شهيد في اليوم الـ75 من الحرب، ما وصف عالميًا بالإبادة الجماعية، وأدى إلى تدمير نحو 60% من البنى التحتية في قطاع غزة، وفي المرحلة الثالثة انتقلت الدعاية الإسرائيلية إلى تبرير عمليات التهجير القسري والبحث عن بناء تصور للنصر.
في الوقت الذي كان يتجنب نتنياهو المشاركة في لقاءات حوارية مع وسائل إعلام “إسرائيل” بعد تصاعد النقد الداخلي والتشكيك بأهداف الحرب، لم يتوان عن تلبية دعوات الحوار مع القنوات الأمريكية لحشد التأييد الدولي لاستمرار الحرب
رافقت آلة الدعاية الصهيونية مجريات الحرب حدثًا بحدث، ولم تتوان عن استخدام كل أدوات التأثير، خصوصًا عبر منصات التواصل الاجتماعي. ووفقًا لتقرير لصحيفة “هآرتس” العبرية، فإن “إسرائيل” لجأت إلى شراء نظام تكنولوجي مصمم لتنظيم حملات تأثير جماعية عبر الإنترنت، يتضمن عددًا من الأدوات والبرامج من بينها نظام لرسم خرائط تحدد الجماهير عبر الفضاء الإلكتروني، ونظام قادر على إنشاء مواقع الويب تلقائيًا، بالإضافة إلى محتوى مخصص لجماهير محددة، ونظام مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات المراسلة.
إضافة إلى ذلك، مولت حكومة الاحتلال إعلانات بقيمة تقارب 7.1 مليون دولار أمريكي عبر منصة YouTube، وفقًا لتحليل بيانات الإنفاق الإعلامي لمنصة “Semrush”، وفي الأسبوع الأول من الحرب، عرضت “إسرائيل” 30 إعلانًا ممولًا على منصة “X” جرى توجيهها أساسًا إلى المجتمعات الأوروبية عمومًا، وبريطانيا والولايات المتحدة خصوصًا.
يضم جهاز “الهسبارا”، وكالات حكومية ووزارات ومراكز أبحاث ومنظمات غير حكومية وغيرها، إذ يضم قسمًا في مكتب رئاسة الوزراء وقسم الإعلام والدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية ووزارة الدبلوماسية العامة وشؤون المغتربين و”الوكالة اليهودية لأجل إسرائيل” – وهي جزء من منظمة الصهيونية العالمية – ووزارة السياحة، وقسم المتحدث باسم جيش الاحتلال.
ولكلٍ منها أدوار تفصيلية محددة عبر منصات متعددة، تتنوع ما بين المنصات العلنية المتحدثة باسم “إسرائيل” والموجهة لجمهور محدد بما فيها الجمهور العربي والفلسطيني، إضافة إلى العديد من المنصات ذات الهوية التضليلية التي تدار عبر “الهسبارا” بشكل غير معلن وتهدف إلى خلق رأي عام وتأثير بشكل غير مباشر للعديد من الشرائح المستهدفة.
لم يقتصر دور “الهاسبارا” خلال الحرب في قطاع غزة على الدعاية التحشيدية لدولة الاحتلال، بل شملت الدعاية التحريضية التي تستهدف المقاومة بهدف تحريض الرأي العام الداخلي في فلسطين وتحميل المقاومة مسؤولية المجازر والدمار الكبير في الحرب، ويجري هذا الدور عبر صفحات الناطق باسم جيش الاحتلال والمنسق، وأيضًا عبر آلاف الحسابات الناطقة باللغة العربية والمنتحلة لشخصيات وهمية تبث الخطاب التحريضي.
تهدف إلى تأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة واستفزازها بهدف تعزيز الشعور بالنقمة على المقاومة ودفعها للاشتباك والمواجهة، وقد تعددت من استخدام الإعلام الاجتماعي ووسائل التواصل وصولًا إلى حد إلقاء المنشورات التحريضية من الطائرات الإسرائيلية في سماء قطاع غزة.
وهو الدور ذاته التي تحاول “الهاسبارا” استكماله في مخيمات الضفة الغربية التي تنشط فيها مجموعات المقاومة وتتعرض لعدوان مستمر، وهي مواد تضج بها صفحات الناطق باسم جيش الاحتلال باللغة العربية والمنسق وصفحات “إسرائيل تتكلم العربية” وغيرها من الصفحات الرسمية، وآلاف المنصات والحسابات الوهمية التي تروج المضمون ذاته.
لتسهيل وصول خطابها التحريضي، عمدت دولة الاحتلال إلى تدمير كل وسائل الإعلام الفلسطينية التي تبث من قطاع غزة والاستهداف المتواصل للكوادر الصحفية بالتصفية المباشرة أو الاعتقال، وتعزيز ملاحقة المحتوى الفلسطيني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والاستثمار في خوارزميات الملاحقة وتضييق الحيز العام المتاح للسردية الفلسطينية والتعاون مع إدارات مواقع التواصل الاجتماعي لإنجاز هذا الهدف.
ما ترجم بالسياسات التضييقة التي مارستها بمساعدة شركة “ميتا” المالكة لتطبيقي “فيسبوك” و”إنستغرام”، التي أقدمت على حذف نحو 800 ألف منشور وحساب، وفق ما ذكره موقع “ذي إنترسبت”. كما عُلقت أو حُظرت عدد من الحسابات التي لها مئات آلاف المتابعين، وتطبق الشركة سياساتٍ حادةً لملاحقة المحتوى الفلسطيني تصاعدت تدريجيًا منذ العام 2016 وتعاظمت في خلال طوفان الأقصى.
وفي الإطار ذاته استضافت “إسرائيل” رجل الأعمال إيلون ماسك، مالك تطبيق “X” (تويتر سابقًا)، وعرضت عليه الفيلم الدعائي الذي أعده مكتب الناطق الرسمي للجيش الإسرائيلي الذي يحمل عنوان “شاهد على مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول (Bearing Witness to the October 7th Massacre)، مدته 47 دقيقة، الذي أصبح جزءًا أساسيًا من العرض الدعائي الذي يشاهده ضيوف “إسرائيل” من رؤساء ومسؤولين سياسيين.
“الهاسبارا” ومجددها في الكونغرس الأمريكي
لم يخْل خطاب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أمام الكونغرس الأمريكي في 24 يوليو/تموز من الانسجام الكامل، بل وإعادة إحياء العديد من الركائز الأساسية للدعاية الصهيونية التاريخية، خصوصًا تلك الموجهة للمجتمع الأمريكي ونخبته التي تعرضت لضرر كبير نتيجة حرب الإبادة التي أشعلت جامعات النخبة الأمريكية وقاد عبرها الطلاب احتجاجات كبرى.
عاد نتنياهو إلى استدعاء خطاب “منظومة القيم المشتركة”، واصفًا الإبادة في قطاع غزة بأنها “صراع بين البربرية والحضارة”، مضيفًا: “كي تنتصر قوى الحضارة، يجب أن تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل متحدتين”، معتبرًا أن انتصار “إسرائيل” سيكون انتصارًا للولايات المتحدة، على حد تعبيره، وقد أضاف: “نحن لا نحمي أنفسنا فحسب، نحن نحميكم. أعداؤنا أعداؤكم، ومعركتنا معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم”.
إن نتنياهو الذي أعاد تأسيس عقيدة “الهاسبارا”، وفقًا لأطروحة مفادها أن “إسرائيل ليست في حاجة إلى أن تغير نفسها أو تحسن سياساتها، بل إنها في حاجة إلى أن تشرح نفسها على نحو أفضل فحسب، أن تفسر للعالم أخلاقية قضيتها”، يدرك تمامًا كيف يلعب لعبة التأثير في الرأي العام العالمي، ففي الوقت الذي كان يتجنب المشاركة في لقاءات حوارية مع وسائل إعلام “إسرائيل” بعد تصاعد النقد الداخلي وخطاب المعارضة والتشكيك بأهداف الحرب، لم يتوان عن تلبية دعوات الحوار مع القنوات الأمريكية لتقديم خطابه للجمهور الأمريكي وحشد التأييد الدولي لاستمرار حرب الإبادة على قطاع غزة.
حرص رئيس وزراء الاحتلال على أن يخرج في الكونغرس الصورة التي يريد تعميمها لـ”إسرائيل” باصطحاب 4 جنود إسرائيليين شاركوا في الحرب بقطاع غزة وتقديم سرديته بخصوصهم، مرفقًا ذلك مع حركات التأثير والبروباغندا التي يجيدها باحترافية، وهو يطلب من الحضور التصفيق لأفراد الجيش الإسرائيلي الذين اصطحبهم معه لحضور خطابه أمام الكونغرس.
تنوع الجنود الأربع الذين روى لكل واحد منهم قصة، ما بين جندي مسلم في الجيش الاسرائيلي، وجندي من أصل إثيوبي وجندي مصاب وآخر فقد ساقه، إضافةً إلى الأسيرة نوعا أرغماني التي حررها جيش الاحتلال بعملية خاصة ارتكب في خلالها مجزرة أدت إلى استشهاد أكثر من 200 فلسطيني في مخيم النصيرات.
قدم نتنياهو الجنود لتثبيت الدعاية الإسرائيلية التي تتناقض مع واقع كون “إسرائيل” دولة فصل عنصري تقودها حكومة فاشية متطرفة تسعى إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني واستدعاء مخططات “الترانسفير” والتهجير، وتفكيك أي كينونة فلسطينية، وتعزيز الاستيطان لابتلاع ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وسط حرب إبادة مستمرة بحق أهالي قطاع غزة.
لم يتوقف خطاب رئيس وزراء الاحتلال الدعائي إلى حدود تجميل صورة “إسرائيل”، بل تعدى إلى تشويه صورة كل من يعارضها، قائلًا إن المتظاهرين المؤيدين للشعب الفلسطيني “معادون لـ”إسرائيل” وأغبياء، عليهم أن يخجلوا من أنفسهم”، مضيفًا أنهم من “معادي السامية”، التهمة التي استثمرت دولة الاحتلال عقودًا من نشاط “الهسبارا” لتحويلها إلى فزاعة تلاحق كل من ينتقد تلك “الدولة” في العالم.
صوت الضحايا أعلى من ماكينات الدعاية
على الرغم من حجم آلة الدعاية الصهيونية ومواردها الضخمة وتنظيمها واستثمارها في عمق جذور التأثير الصهيوني في ماكينات الإعلام والرأي العام الغربي، فإن موازين الرأي العام العالمي لم تبق تحت تأثير تخدير الدعاية الإسرائيلية كثيرًا.
بعد مرور أول شهرين على حرب الإبادة، بدأت الموازين تتغير وتأخذ السردية الفلسطينية مساحتها في الإعلام والرأي العام العالمي، وكان المسبب الرئيس لها حجم المجازر الكبرى التي نفذها جيش الاحتلال في قطاع غزة التي تجاوز عدد ضحاياها أكثر من 100 ألف فلسطيني ما بين شهيد وجريح ومفقود، فيما شرد على إثرها كل سكان قطاع غزة الذين يتجاوز عددهم مليوني فلسطيني.
شكلت مجموعةٌ من الأحداث بداية التحول المفصلي في الرأي العام العالمي لصالح السردية الفلسطينية، بداية من مجزرة مستشفى المعمداني التي شكلت صدمةً في الوعي العالمي ولم تنج كل محاولات “الهاسبارا” إلى التنصل من المسؤولية الإسرائيلية منها، مرورًا بتكشف العديد من الحقائق عن حجم الخداع في الدعاية الإسرائيلية بشأن ادعاءات وجود عمليات حرق وتشويه وقتل للأطفال والرضع على يد المقاومين يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ناهيك بإثبات انعدام مصداقية كل ادعاءات وجود اعتداءات جنسية، التي حاول الاحتلال جاهدًا تحويلها إلى حقيقة عبر عمليات الخداع المركبة التي استخدم فيها وسائل إعلام وصحفيين وادعاءات لشهود وهميين.
أدت عملية قتل الموظفين الأجانب في مؤسسة “المطبخ العالمي” الأمريكية باستهداف من طائرات إسرائيلية لقافلتهم، المعرفة والمتحركة وفق تنسيق مسبق مع جيش الاحتلال، إلى تثبيت فكرة الاستهداف الإسرائيلي بغرض القتل فقط، وتعزيز الرواية الفلسطينية التي تدفع بكون بنك الأهداف الإسرائيلي في قطاع غزة يتمثل بالمدنيين العزل، وانعدام مصداقية كل ادعاءات الاحتلال عن كون هذه الاستهدافات مركزة وتستهدف مقدرات المقاومة ونشطائها.
فيما شكل ذلك الاستهداف مع مشهد مجزرة “مفترق النابلسي” على شارع الرشيد التي قتل الاحتلال في خلالها أكثر من 200 فلسطيني جائع ينتظرون وصول المساعدات بعد أسابيع من التجويع الشديد لأهالي شمالي قطاع غزة، الحدثين الأكثر إحراجًا للدول الحليفة لـ”إسرائيل” ولكل ماكينات الدعاية المساندة التي عجزت عن اختلاق تبريرات أمام حجم الإجرام الوحشي في القطاع غزة.
إن وجود “إسرائيل” في قفص الاتهام في محكمة العدل العليا – وهي المحكمة التي أنشئت بهدف منع وقوع مجازر إبادة كبرى على غرار “الهولوكست”، أي أنها تحظى بخصوصية كبيرة لدى “إسرائيل” ودعايتها التاريخية -، ووقائع المحاكمة والملف المحكم الذي قدمته جنوب إفريقيا عن التورط الفاضح لدولة الاحتلال في ممارسات إبادة جماعية واضحة المعالم وفق القانون الدولي، شكل الحدث الأكبر الذي بدد آثار الملايين من استثمارات الدعاية الصهيونية ونشاط “الهاسبارا” الساعي إلى شيطنة المقاومة وتحويل الحرب على قطاع غزة إلى حرب أخلاقية تخوضها “إسرائيل” نيابةً عن العالم المتحضر.
لم يتوقف الفشل الإسرائيلي في الرأي العام الدولي فحسب، بل تعداه إلى فشل كل محاولات تأليب المجتمع الفلسطيني على المقاومة، وفي الوقت الذي رفع فيه بنيامين نتنياهو هدف “تغيير التفكير المعادي لإسرائيل في عقول الفلسطينيين”، يزداد الفلسطينيون التفافًا حول حقهم التاريخي في أرضهم ووطنهم، وتزيدهم جرائم الاحتلال تمترسًا وتمسكًا بحقهم في المقاومة، والرفض المطلق لكل أشكال الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، ما ترجمه العجز الإسرائيلي حتى الآن عن إيجاد أي طرف محلي متعاون يخلق عبره النموذج الأولي لشكل “اليوم التالي” في قطاع غزة وفق الرؤية الإسرائيلية.