أثار اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي في الـ5 من ديسمبر 2017، ثم التوقيع على قرار نقل سفارة بلاده إليها بعد 6 أشهر من اعترافه، موجة من السخط والغضب على الصعيدين العربي والإسلامي في الوقت الذي لم يتزحزح فيه الرد الرسمي عن حاجز الشجب والاستنكار.
افتتاح السفارة الأمريكية في القدس المحتلة أمس الإثنين بالتزامن مع سقوط 58 شهيدًا فلسطينيًا و2700 جريحًا برصاص قوات الاحتلال خلال مسيراتهم السلمية إحياء لذكرى النكبة، دفع الجميع إلى البحث عما يملكه العرب من أدوات ضغط يمكن من خلالها الانتصار للقضية الفلسطينية وإجهاض هذا القرار الغاشم.
وفي ظل عجز الحكومات والأنظمة عن اتخاذ أي موقف سياسي يدفع إلى التراجع عن هذه الخطوة في ظل العلاقات الحميمية التي تحياها بعض العواصم العربية مع واشنطن وتل أبيب في الآونة الأخيرة، صعدت بورصة الحديث عن الاقتصاد كورقة ضاغطة يمكن للعرب استخدامها حال توفرت الإرادة.. ليبقى السؤال: ماذا لو سحب العرب استثماراتهم في كل من أمريكا وأوروبا؟
2400 مليار دولار استثمارات عربية
كالعادة فإن تقديرات الحجم الفعلي للاستثمارات العربية في الخارج عمومًا لم تحسم بعد، ولا يوجد توثيق رسمي لها في ظل غياب الشفافية عن معظم الأرقام والإحصاءات، غير أن بعض الجهات قدرت قيمتها بنحو 800 مليار دولار، في حين ترفعها تقديرات أخرى لأكثر من 2400 مليار دولار، وإن كان تغليب الرقم الثاني هو الأرجح إذ إن قيمة استثمارات الصناديق السيادية الخليجية في الخارج تتجاوز وحدها 2066 مليار دولار.
دعوة النخب في بعض الدول العربية لتحسين العلاقات مع تل أبيب والسير نحو التطبيع مع الكيان المحتل انعكاس حقيقي لتماهي معظم الأنظمة العربية مع السياسة الأمريكية
وفي أمريكا وأوروبا على وجه التحديد تتجاوز الاستثمارات العربية خاصة دول الخليج مئات المليارات، تخطت في بعض السنوات الأخيرة حاجز التريليون دولار، وإن تراجعت في الفترة الأخيرة، وفي يناير/كانون الثاني الماضي سجلت استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في سندات الخزانة الأمريكية نحو 248.7 مليار دولار
السعودية كالعادة تتصدر الدول الأكثر استثمارًا في الأذون والسندات الأمريكية بنحو 143.6 مليار دولار، وحلت الإمارات في المرتبة الثانية بإجمالي استثمارات بلغت 55.1 مليار دولار، ثم جاءت الكويت في المرتبة الثالثة بإجمالي استثمارات بلغ 36.8 مليار دولار، تليها سلطنة عُمان بـ12.4 مليار دولار، والبحرين بـ579 مليون دولار، وأخيرًا قطر القائمة بنحو 235 مليون دولار فقط.
224.5 مليار دولار حجم التبادل التجاري بين أمريكا والعرب
الأرقام تشير إلى أنه خلال عام 2016 تجاوزت استثمارات السعودية في أمريكا حاجز 612 مليار دولار، هذا بخلاف 285 مليار دولار حجم السيولة للمملكة هناك، فيما بلغت سندات الدين الآجلة نحو 264 مليار والعاجلة بقيمة 62 مليار دولار، ما يعني أن استثمارات المملكة أمريكيًا تقارب التريليون دولار.
كما بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية نحو 224.5 مليار دولار خلال عام 2016 ، احتلت السعودية المركز الأول بقيمة 142 مليار ريال (37.5 مليار دولار)، كما جاءت في المرتبة الثانية كأكبر دولة مستوردة من أمريكا بعد الإمارات العربية المتحدة.
أما عن قيمة الودائع العربية في المصارف الأمريكية فتبلغ نحو 700 مليار دولار وفق بيانات البنك الفيدرالي الأمريكي، فيما بلغت حصة الولايات المتحدة من إجمالي استثمارات العرب في العالم نحو 13% من إجمالي تلك الاستثمارات، أما عن حجم الاستثمارات العربية في سوق السندات الأمريكية فتخطى حاجز الـ266 مليار دولار، استحوذت السعودية على أكثر من نصفها في شكل سندات وأذون خزانة بقيمة استثمارات 136.7 مليار دولار، تمثل 2.2% من استثمارات دول العالم في أداة الدين الأمريكية.
أما عن حجم صفقات السلاح مع الولايات المتحدة فحدث ولا حرج، إذ بلغت القيمة الإجمالية للصفقات العسكرية التي أبرمتها 6 دول عربية في خلال عام 2017 نحو 161.4 مليار دولار، كانت أعلاها الصفقة المبرمة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية إبان زيارة ترامب للمملكة في مايو/أيار الماضي التي بلغت قيمتها 110 مليارات دولار.
ثم تأتي الصفقة العسكرية التي أبرمتها قطر مع أمريكا أيضًا في نفس التوقيت تقريبًا وبلغت قيمتها 12 مليار دولار، تليها الإمارات بـ5.2 مليار دولار ثم الكويت بقيمة 5 مليار دولار، تعقبها صفقة الطائرات العسكرية التي اشترتها البحرين في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بقيمة 3.8 مليار دولار.
قرار نقل السفارة للقدس في ظل هذه الأرقام الضخمة من الاستثمارات العربية يشير إلى أن الإدارة الأمريكية لا تُلقي بالًا لردة فعل الحكومات العربية
هل يمكن سحبها؟
قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة وتزامنه مع تصعيد جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين العزل دفع البعض إلى المطالبة باستخدام ورقة الاقتصاد للضغط على الولايات المتحدة عبر سحب تلك الاستثمارات التي تمثل عصبًا رئيسيًا في الاقتصاد الأمريكي، وفي حال سحبه فإنه من المؤكد سيحدث زلزالًا ربما يدفع الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في كثير من المواقف خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها خلال السنوات الأخيرة.
البعض ذهب إلى أن معظم تلك الاستثمارات في الأساس مملوكة لمستثمرين وليس لحكومات، ومن ثم تسهل عملية السحب، في محاولة لملء الفراغ الذي تسبب فيه عجز الأنظمة عن اتخاذ أي قرار أو موقف إيجابي لنصرة القدس والقضية الفلسطينية.
غير أن مسألة خضوع معظم تلك الاستثمارات في أيدي مستثمرين ورجال أعمال سلاح ذو حدين، إذ إن المستثمرين بصفة عامة دائمًا يهدفون لتحقيق الأرباح العالية والمنفعة الشخصية، لذلك تجدهم يتجهون إلى الدول التي قد تحقق لهم أكبر قدر ممكن من المكاسب، وهو ما تحقق لهم من خلال ضخ أموالهم في الأسواق الأمريكية والأوروبية، بعيدًا عن أي أبعاد سياسية أخرى.
161.4 مليار دولار حجم صفقات السلاح التي أبرمتها 6 دول عربية مع أمريكا في 2017
ومن ثم فمن الصعب إقناع رجال الأعمال العرب بفكرة سحب استثماراتهم كورقة ضغط ضد أمريكا، خاصة في ظل العلاقات القوية التي تربطهم بقطاع الأعمال هناك من جانب، وتوتر مناخ الاستثمار في بلدانهم من جانب آخر، ولعل حملة الاعتقالات الأخيرة التي شنها ولي العهد السعودي ضد رجال أعمال وأفراد من الأسرة المالكة كان جرس إنذار دفع الكثيرين إلى الهروب برأسماله إلى الخارج، كذلك توتر الأوضاع في الدول العربية والخليجية دفع بعض مستثمريهم أيضًا لمغادرة بلدانهم.
أنصار هذا الرأي يرون أنه لا يمكن أن تتجه الدول العربية وتحديدًا دول الخليج إلى سحب استثماراتها من أوروبا وأمريكا وضخها في السوق العربية التي لا تتمتع بمناخ استثماري آمن، ناهيك عن أن العائد الشخصي والأرباح التي تحققها الاستثمارات في الدول الأوروبية تعود كاملة دون أي استقطاعات على أصحابها، وهو ما لا يحدث بالفعل في الدول النامية أو العربية.
وفي سياق آخر هناك من تساءل: كيف يطلب من الدول العربية سحب استثماراتها من أمريكا، وحكامها وأنظمتها من أعطوا ترامب الضوء الأخضر لمثل هذا القرار، إما بضخ مئات المليارات من الاستثمارات داخل السوق الأمريكي، أو الهرولة نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني؟
بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية نحو 224.5 مليار دولار خلال عام 2016، احتلت السعودية المركز الأول بقيمة 142 مليار ريال (37.5 مليار دولار)
هؤلاء يرون أن قرار نقل السفارة للقدس في ظل هذه الأرقام الضخمة من الاستثمارات العربية يشير إلى الإدارة الأمريكية لا تُلقي بالًا لردة فعل الحكومات العربية، ربما لإيمانها بأن قضية فلسطين ليست من أولويات هذه الأنظمة، وأن كل ما يدور من شجب أو استنكار على الممارسات الإسرائيلية ليس إلا مسكّنات للشعوب العربية التي أجبرت على السكوت قهرًا.
أما ما يتعلق بدعوة النخب في بعض الدول العربية لتحسين العلاقات مع تل أبيب والسير نحو التطبيع مع الكيان المحتل فهي انعكاس حقيقي لتماهي معظم الأنظمة العربية مع السياسة الأمريكية، ومن ثم بات من الصعب أو المحال انتظار موقف عربي رسمي ينتفض ضد قرار ترامب، وهو ما بات واضحًا من خلال بيانات الشجب والقلق، في الوقت الذي اتخذت فيه بعض الدول الأخرى مواقف أكثر حزمًا مثل جنوب إفريقيا وتركيا اللتان سحبتا سفيريهما لدى واشنطن وتل أبيب اعتراضًا على مجازر غزة بالأمس.
وفي المجمل، فإن عودة الأموال العربية من الخارج كورقة ضغط أخيرة لنصرة القدس ليست بالأمر السهل واليسير، وليست في حاجة إلى جرة قلم كما يظن البعض، بل في حاجة إلى قرار سياسي قوي وإرادة عربية حقيقية، وحتى يتوفر القرار والإرادة ستظل القدس ساحة مباحة لعربدة الأمريكان والصهاينة حتى إشعار آخر.