يبدأ المؤلف علي أسعد وطفة كتابه “رأسمالية المدرسة في عالم متغير” بعبارة من رواية موسم الهجرة للشمال للأديب السوداني الطيب الصالح، التي تقول “لقد أسسوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم”، ومن هنا يبدأ وطفة بتعريفنا جميع الأساليب التربوية والمناهج التي اتبعتها المدرسة لخلق أجيال مواتية للأنظمة الحاكمة والسائدة سواء السياسية أم الاقتصادية، لكنه بصفة عامة يركز على الجانب الاقتصادي بشكل كبير.
كما يشير إلى تعارض رسالة المدرسة المعلنة وهي إنتاج طلاب صالحين وأصحاب مبادئ وعقول مبدعة، مع أهدافها الخفية التي تخدم فيها متطلبات الرأسمالية، وبذلك يرى أن المدرسة فقدت قدسيتها وجانبها الإنساني مع تحولها إلى أداة تغذية لهذا النظام، فيطرح أسئلة جدية مثل أين الرسالة الإنسانية للمدرسة المعاصرة؟ وأين دورها الأخلاقي؟ وما موقع رسالتها السامية في عالم شديد التحول والتغير والتسارع؟ أين الدور الحضاري والإنساني لمدرسة اليوم في ظل عولمة مادية جارفة زاحفة؟ وهل أصبحت مؤسسة طبقية تمارس وظيفة التقسيم التطبيق؟
ماذا تفعل الرأسمالية في الفصول الدراسية؟
بشكل تفصيلي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، شهدت الأنظمة التربوية مجموعة من الإصلاحات التي تشكلت بهدف الاستجابة للتغيرات العصرية، وأهم هذه التحولات الثورة الصناعية وظاهرة العولمة والرأسمالية التي نسجت لنفسها خطط منهجية تقوم على تزويد السوق الرأسمالي بكفاءات قادرة على التكيف مع تغيرات العولمة المستمرة، إضافة إلى بث ثقافة الاستهلاك بين المتعلمين لتشجيع دورة الإنتاج الرأسمالية، وبذلك يكون هناك شريحتان، الأولى هي الطبقة العاملة والثانية الطبقة المستهلكة.
ولكن رفضًا لقوانين ومعطيات الرأسمالية، قاومت المدرسة هذه التدخلات لعقود طويلة، ورفضت تشويه مبادئها الأخلاقية والإنسانية بالمعايير الاقتصادية المبنية على المنافسة والتسويق والابتزاز والصراع والسيطرة، ورأت أن في ذلك، خدشًا وتعارضًا مع رسالتها القائمة على حب العلم والمعرفة والثقافة.
يقضي الإنسان سنوات طويلة من عمره في المدرسة وعندما ينتهي من هذه المرحلة، يُطالب بالالتحاق بالبرامج والدورات التدريبية لتبقى قدراته وخبراته متجددة مع متطلبات السوق الرأسمالي، وهذا يقتضي جهدًا ومالًا ووقتًا مضاعفًا عن أي زمن مضى
ولكن لسوء الحظ، رغم محاولات المدرسة السابقة في النجاة من مخالب الرأسمالية والانعزال على نفسها وما تحمله من قيم إنسانية، استطاعت الرأسمالية أن تجرجرها إلى صفها وتعيد تشكيلها وفقًا لرؤيتها وحاجتها التي ستحقق مطلقًا عندما تنتج المدرسة أناسًا مؤهلين جيدًا لأداء أدوار رأسمالية تسويقية للنهوض بقدرات النظام الرأسمالي، إلى جانب طبقة عمالية بروليتارية قادرة على الوفاء بمتطلبات النظام وتلبية احتياجاته.
وفي هذا السياق يعبر وطفة عن حيرته في هذا الشأن قائلًا: “العمال والخبراء والعاملون في الحقل الصناعي والإنتاجي مطالبون اليوم بتطوير أنفسهم والتكيف مع أوضاع اقتصادية وإنتاجية متغيرة باستمرار، فالتكنولوجيا تتغير والإنتاج يتغير، وبالتالي فإن الوظائف والمهمات تتغير أيضًا وهذا التغير يتسم بطابع التسارع والاستمرار”، بمعنى آخر، يقضي الإنسان سنوات طويلة من عمره في المدرسة وعندما ينتهي من هذه المرحلة، يُطالب بالالتحاق بالبرامج والدورات التدريبية لتبقى قدراته وخبراته متجددة بشكل مستمر مع متطلبات السوق الرأسمالي، وهذا يقتضي جهدًا ومالًا ووقتًا مضاعفًا عن أي زمن مضى.
كما يشير الكتاب، إلى تحول المدرسة من مؤسسة تعليمية إلى مؤسسة منتجة لقيم العالم الرأسمالي وتصوراته الاجتماعية؛ غارسة اللامساواة الاجتماعية في عقول طلابها، فهي تقدم تعليمًا محدود الكفاءة والجودة لشرائح معينة من المجتمع، لتضمن تشغيلهم كأيدي عاملة في هذا النظام، ومن جهة أخرى، تشجع ذوات الطبقة العليا على استنفار طاقاتهم وقدراتهم العقلية والإبداعية لتوظيفهم في مجال المنافسة، عدا عن موجة الخصخصة التي ساهمت في تعميق اللامساواة بين الأفراد من الناحية الاجتماعية.
يحارب الكاتب فكرة التقييم المدرسي ويرى فيها امتدادًا للامساواة، فالامتحانات تضع القوي والضعيف في حلبة مصارعة واحدة بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية والثقافية لكل طرف
خاصة أن المدرسة بيئة اجتماعية ونفسية في المقام الأول قبل أن تكون بيئة معرفية، وعلى هذا الأساس، تعتبر أداة فاعلة في مساعدة أبناء الطبقة البرجوازية في الاستيلاء على النصيب الأكبر من رأس المال الثقافي بسبب أوساطهم التي منحت ذلك لهم الرفاه الثقافي؛ ما يجعل نجاحهم وتوفقهم في المدرسة أمرًا بديهيًا في مسيرتهم.
وعلى خلاف ذلك الطلاب من البيئات المتواضعة الذين لم تتوفر لهم هذه الأجواء الثقافية – رحلات وأنشطة وكتب ودروس إضافية -؛ ما يجعل رحلتهم في المدرسة شاقة، وقد يسبب لديهم تجربة قاسية بين إمكاناتهم البسيطة ومتطلبات الوسط الاجتماعي والاقتصادي.
ولا يصرف الكاتب نظره عن فكرة التقييم المدرسي التي حاربها ورأى فيها امتدادًا للامساواة، فالامتحانات تضع القوي والضعيف في حلبة مصارعة واحدة بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية والثقافية لكل طرف، على حد وصفه.
كيف أعدتنا المدرسة لنصبح وجبة شهية للرأسمالية؟
يقتبس وطفة في كتابه مقولة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، قائلًا: “التربية آلة للتلاعب والتناوب، تعمل على تشويه وعي الإنسان، وإلغاء ذاته، وإخضاعه للسلطة المطلقة للدولة”، ولتحقيق هذه النتائج بدأت التطورات الصناعية والاقتصادية تطالب أنظمة التعليم بتجديد سريع في المناهج والمضامين التربوية لفهم التنامي الاقتصادي القادم.
وبدلًا من صناعة فرد صالح ومبدع وناقد، تخلق المدرسة الحاليّة في مضامينها الخفية طالبًا يمجد رموز السلطة ومطيعًا لهم ولخطاباتهم، وهذا نتيجة لنظام المدرسة القائم على الأوامر والنواهي ومعايير السلوك وغيرها من القواعد المقيدة لحركة وتفكير الطالب التي تقمع فيه كل بذور الثورة والتمرد والاعتراض والنقد.
“المدرسة مؤسسة تربوية تعمل على تطويع الإنسان وتجعل منه كائنًا مسلوب الإرادة مستلب الحرية، فهي أداة العبودية والقهر في المجتمعات الإنسانية المعاصرة”
وبناءً على ذلك، تعتبر أفعال الرفض والتمرد شكل من أشكال الفشل الدراسي والتربوي، وهذا ما يوضحه إيفان إليتش صاحب كتاب “مجتمع من غير مدرسة”، بقوله: “المدرسة مؤسسة تربوية تعمل على تطويع الإنسان وتجعل منه كائنًا مسلوب الإرادة مستلب الحرية، فهي أداة العبودية والقهر في المجتمعات الإنسانية المعاصرة”، ويضيف” تحولت المدرسة إلى رمز للسلطة السياسية وأداة أيديولوجية تغرس في الأطفال وعيًا مشوهًا وفكرًا معتوهًا يخدم الطبقات المستغلة في المجتمع”.
مكملًا “عندما يدخل الأطفال اليوم إلى المدرسة يجدون أنهم أصبحوا جزءًا من بنية تنظيمية ذات معايير أساسية ثابتة لا تكاد تتغير، وتتلخص في فصل يقوده مدرس بالغ وعدد من التابعين الصغار الذي يجلسون عادة في صفوف ثابتة تتجه إلى الأمام ويمثلون معًا الوحدة الأساسية لمدرسة عصر التصنيع، وعندما ينتقلون بعد عام آخر من فصل إلى فصل يظلون ثابتين داخل نفس الإطار التنظيمي”.
يتم تجاهل الاتجاهات والميول الشخصية والمحاولات الخلاقة الإبداعية، في مقابل إرضاء وطاعة مصالح واهتمامات ذوي السلطة الأقوياء
فكما جرت العادة بالمدارس، يتم تجاهل الاتجاهات والميول الشخصية والمحاولات الخلاقة الإبداعية، في مقابل إرضاء وطاعة مصالح واهتمامات ذوي السلطة الأقوياء، إضافة إلى المعلمين الذين يعملون ضمن هذا السياق السلطوي والقائم على الانصياع لغاياته، ونهايةً يشبهها بالبديل الجديد عن سلطة الكنسية الذي يمتد لخدمة سلطة ونفوذ الرأسماليين.