ترجمة وتحرير: نون بوست
مؤخرا، استؤنفت الدروس وعاد الطلاب إلى مقاعد الدراسة في جامعة الموصل. ولكن سيطرة تنظيم الدولة على شمال العراق على امتداد ثلاث سنوات تسببت في إحداث أضرار جسيمة ودمار كبير. في الجامعة، كما هو الحال في كل مكان في الموصل، تم تدمير كل مظاهر الفسيفساء العرقية والدينية القديمة.
لا تعرف واندا، البالغة من العمر 22 سنة، من فرنسا سوى عطر جادور لصاحبه كريستيان ديور. وفي محاولة لتذكر أي أمر آخر، تمكنت واندا من ذكر اسم المغنية لارا فابيان. كانت واندا، التي ازدانت أظافرها باللون الذهبي والتي تضع أحمر شفاه وحجاب توربان ملون، طالبة في السنة الأولى، وبالتحديد في قسم اللغة الفرنسية في جامعة الموصل. وقد انفتحت هذا الجامعة على العالم من جديد بعد فترة الحصار والاحتلال التي شهدها شمال العراق من قبل تنظيم الدولة.
طيلة ثلاث سنوات في الموصل، حُرم جيل كامل من التحصيل العلمي واكتساب المعارف اللازمة. وعند الاطلاع على الكتب التي تبقت في المكتبة، وجدنا على أحد الرفوف بين أطروحات الطلاب، أطروحة حول “الخصائص التعبيرية للمعجم البروستي” في المقتطف الروائي “في حب سوان” يعود تاريخها إلى سنة 2012.
في تلك السنة، كان المتطرفون بالفعل يتلاعبون بشكل غير مباشر بعقول الشباب. وقد عمد العديد من الطلاب والمعلمين إلى التخفي والاختباء حتى يتمكنوا من الإفلات من قبضة تنظيم القاعدة. عقب ذلك، احتل تنظيم الدولة الموصل خلال شهر يونيو/ حزيران من سنة 2014. في الأثناء، تمكن البعض منهم من الفرار، في حين فضل آخرون البقاء ليعيشوا محاصرين تحت قبضة التنظيم.
تم تحويل بعض الكليات إلى مركز للدعاية وصناعة الأسلحة، في حين دمرت العديد منها على غرار كلية الطب البيطري، وكلية علوم الكمبيوتر، وكلية الهندسة
كان قسم اللغة الفرنسية في الحرم الجامعي من بين الأقسام الأولى التي تم إغلاقها من قبل التنظيم، بحجة ترويجه للتجديف، حيث كان يعنى بتدريس الأدب الغربي والمسرح. نتيجة لذلك، تعرضت جل صفوفه ومحتوياته للنهب في حين وقع حرق جميع الكتب. وقد أدى حرق مكتبة الجامعة الكبرى إلى إتلاف مليون مرجع، و400 ألف وثيقة رقمية، وتسعة آلاف مخطوطة، بعضها يعود تاريخها إلى عهد الخلافة العباسية.
إعادة بناء العقول
لجأ المحاضر في الأدب الفرنسي، محمد زيدان إلى كردستان نظرا لأن منزله في الموصل كان محتلا من قبل قناص شيشاني. عندما عاد زيدان إلى منزله اكتشف أن كل أثاثه وهداياه التذكارية قد اختفت. في حين ظل المدير الجديد لقسم الفرنسية، حمد حسن حبيس المنزل مع زوجته في الحي السكني الخاص بالأساتذة. وفي هذا الإطار، صرح حمد قائلا: “كنت محظوظا لأنني أملك طبق هوائي مما مكنني من مشاهدة قناة “تي في5” كما كنت أقرأ الكتب. وأضاف حمد أن “الأدب كان ملاذي، وعلاجًا للمآسي التي كنت شاهدا عليها”.
في بداية حملة القصف الجوي التي شنها التحالف الدولي، أُغلق الحرم الجامعي، الذي كان أقرب إلى المدينة في صلب مدينة الموصل. وقد تم تحويل بعض الكليات إلى مركز للدعاية وصناعة الأسلحة، في حين دمرت العديد منها على غرار كلية الطب البيطري، وكلية علوم الكمبيوتر، وكلية الهندسة. عند مدخل حديقة الجامعة، وقع تدمير مبنى رئاسة الجامعة. قبل أن يتراجع نفوذ تنظيم الدولة، خلال شهر كانون الثاني/ يناير سنة 2017، وفي ظل تقدم القوات العراقية، مارس المتطرفون سياسة الأرض المحروقة، محاولين إحراق المنطقة بأسرها.
لا بد من العمل على إعادة بناء عقول الشباب، حيث ساهمت السنوات الأولى للحرب حتى قبل وصول تنظيم الدولة، ومن ثم الدكتاتورية والقمع الذي مارسه التنظيم على العراقيين، وأخيرا معركة الموصل في خلق جيل يفتقر إلى أي مكاسب ثقافية أو مبادئ
خلال شهر آذار/مارس، توجه الموظفون والطلاب للحرم الجامعي لتنظيف المباني، وإصلاح الأضرار، وطلاء جدران المدرجات من جديد. بفضل هذه الجهود، استؤنفت الفصول الدراسية، خلال شهر أيلول/ سبتمبر، من أجل تقديم الدروس لحوالي 35 ألف طالب من أعراق مختلفة، يعيشون في هذه المنطقة السنية. وقد انضم إلى هذه الكليات حوالي ألف طالب من الأقلية اليزيدية ونحو 600 طالب آخر من المسيحيين.
تجدر الإشارة إلى أن فرنسا شاركت في عملية إعادة إعمار هذه الكليات. وقد تكفل مشروع إعادة الاستقرار التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بإعادة بناء كلية الطب من خلال تقديم مساهمة قدرها 2.5 مليون يورو. من جهتها، شاركت سفارة فرنسا في العراق في إعادة إعمار كلية الآداب وقسم اللغة الفرنسية، كما وقع إنشاء مركز نموذجي للتعلم الرقمي للغة الفرنسية. وتعد هذه المبادرة بمثابة قفزة تكنولوجية تسمح لهيئة التعليم في الحرم الجامعي بالحصول على تكوين مستمر عبر الإنترنت.
في الأثناء، لا بد من العمل على إعادة بناء عقول الشباب، حيث ساهمت السنوات الأولى للحرب حتى قبل وصول تنظيم الدولة، ومن ثم الدكتاتورية والقمع الذي مارسه التنظيم على العراقيين، وأخيرا معركة الموصل في خلق جيل يفتقر إلى أي مكاسب ثقافية أو مبادئ. وفي هذا السياق، أفاد المدرس الفرنسي، مؤيد عبد الحسن، أن “الشباب أصبح مستهترا وغير مبال، نظرا لأنه تم حرمانه من الدراسة والاستيلاء على أفضل سنوات حياته. فضلا عن ذلك، أضحى الشباب العراقي يتوقع الأسوأ ومعتادا على هذا الوضع، كما يفتقر إلى الثقة في النفس”.
أضاف عبد الحسن، قائلا: “إذا لماذا قد يعملون على بناء المنازل من جديد إذا كانت ستنهار مرة ثانية؟ وما الفائدة من مزاولة التعليم ما دام الموت ينتظر على الأبواب؟ في الحقيقة، يعاني الشباب العراقي من صدمة عميقة، في حين أن الكثير من الشباب سقطوا ضحية الاكتئاب نظرا لأنهم كانوا يفتقرون إلى أي حافز في الحياة”.
لا تزال الجثث تحت أنقاض المباني بعد مرور عشرة أشهر من سقوطها
لمساعدة هذا الجيل من الشباب، لا بد من دفعه إلى الانخراط في الأنشطة الترفيهية وورش العمل الإبداعية. وقد قام الأستاذ مؤيد عبد الحسن رفقة طلابه بعرض مسرحية يوم 21 آذار/مارس بمناسبة يوم “الفرانكوفونية”. وقد تطرقت هذه المسرحية إلى ما شهدته بلاد الرافدين من أحزان من منظور ملحمة جلجامش، القصة الأسطورية لبابل، في محاولة لتجسيد احتلال الموصل من قبل تنظيم الدولة.
“رأيت أحد أصدقائي يموت أمام عيني”
لم يكن الأساتذة والمعلمون في منأى عن الوقوع في حالة صدمة. فقد اعترف حمد حسن، مدير قسم الفرنسية، بأنه لا يرغب حتى في عبور النهر لاكتشاف أنقاض المدينة القديمة، القلب النابض للموصل. وقد تعهد بالعودة إلى هناك حين يقع إعادة بناء المدينة، الأمر الذي قد يطول انتظاره. من جهتها، بادرت سولين، وهي فتاة يزيدية تبلغ من العمر 22 سنة، لتطلع على مصير المدينة القديمة. وقد عادت من الزيارة مذعورة. فقد باتت المدينة مسكونة بأرواح من قتلوا هناك خلال المرحلة الأخيرة من استرجاع السيطرة على المدينة التي كانت وحشية، والتي تميزت بإبادة آخر المتطرفين المتحصنين في الأحياء الفقيرة إلى جانب المدنيين.
في الأثناء، لا تزال الجثث تحت أنقاض المباني بعد مرور عشرة أشهر من سقوطها، الأمر الذي يثير الاستياء والانزعاج. كما أن أشباح “المختفين”، أي الذين اختطفهم الإرهابيون لإعدامهم، تمنع أسرهم من إعلان الحداد وقبول العزاء. ولكن الحياة عادت من جديد إلى الحرم الجامعي لتدب في جميع أرجائه بغض النظر عن مباني الكليات التي دمرت بالكامل. في الوقت ذاته، شرع الطلبة والأصدقاء يتجولون في المناطق الخضراء ضمن المركب الجامعي، وخرجت الفتيات ترتدين حجابهن الكامل.
في هذا السياق، أفاد تامر، أحد طلبة الهندسة، قائلا: “رأيت أحد أصدقائي يموت أمام عيني. لقد قُتل في الشارع جراء انفجار سيارة قيادي في تنظيم الدولة وقع استهدافه بغارة جوية. لقد كنت من حفل زفاف، لأجد نفسي أشارك في جنازات عدد من أصدقائي وأقاربي”. وأردف تامر قائلا: “لقد عملت في صيانة الدراجات في متجر والدي أثناء احتلال التنظيم للمدينة، وحضرت دروسا خاصة حتى ألحق بركب زملائي، كما تطوعت لتنظيف المساجد والكنائس. لقد أمضيت وقتا ممتعا لأن الأنشطة كانت متنوعة. في الأثناء، يكاد يكون من المستحيل مقابلة الفتيات خارج الكلية، لأن المجتمع في الموصل محافظ للغاية”.
لا تزال المدينة الضخمة تحاول جاهدة حتى تتعافى، على الرغم من الحيوية التجارية التي عادت لتكتسح شرق الموصل
أقر تامر بأن حياته اليومية صعبة جدا. وفي هذا الشأن، أورد تامر أنه “من الصعب الخروج من المدينة للذهاب في نزهة. أما عند الحواجز على الطرقات التي تسيطر عليها القوات الشيعية شبه العسكرية، فقد يطول احتجازنا لمجرد أن أسماءنا السنية المطولة قد يكون لها صلة غامضة بأحد الإرهابيين. فضلا عن ذلك، كان من الصعب قضاء الشؤون الإدارية، حيث يجب عليك أن تكون ذو علاقات أو قادرا على دفع المال للمسؤولين للحصول على أبسط الوثائق الإدارية”. وأردف الشاب العراقي متأسفا، أنه “خلال حكم تنظيم الدولة كان الفساد منتشرًا، ولكن في كنف السرية. أما بعد اندحار التنظيم فقد أصبح الفساد يمارس علانية”.
“كل شيء يمكن أن يبدأ من جديد”
لا تزال المدينة الضخمة تحاول جاهدة حتى تتعافى، على الرغم من الحيوية التجارية التي عادت لتكتسح شرق الموصل، حيث وقع بناء مدينة جديدة. وتبدو عملية إعادة الإعمار بطيئة. وفي الأثناء، أعربت العائلات العريقة المثقفة في الموصل عن قناعتها بأنها كانت ضحية “مؤامرة” ما. ففي الواقع، تُحمل تلك العائلات مسؤولية تحويل مدينتهم إلى “عاصمة الدولة الإسلامية”، للتركمان الذين انضموا إلى تنظيم الدولة بشكل جماعي، والقرويين الذين قدموا للاستقرار في المدينة، “والعرب النازحين”، الذين نزحوا تنفيذا لمخطط صدام حسين، إلى شمال العراق بغية تغيير ديموغرافية المناطق والتفوق على الأقليات. وقد وقع تدمير الفسيفساء العرقية والدينية التي تتميز بها المدينة.
من جهته، أفاد أياز، الطالب اليزيدي في قسم الفرنسية، الذي يعود كل مساء إلى بعشيقة، الناحية التي تتسم بتعدد الثقافات والتابعة لمحافظة نينوى حيث يستقر الطلبة اليزيديين، قائلا: “لا أحد يعاملني بعنصرية، لكني أشعر بأنني معزول. أشعر بأمان في الكلية، لكنني أعتقد أن كل شيء يمكن أن يبدأ من جديد”. وبالنسبة للمسيحيين واليزيديين، على حد السواء، لا سبيل أمامهم للتحرك بحرية في الموصل.
تم تجديد الكنائس الأربع الموجودة في المدينة بتمويل أميركي، وسيرافق افتتاح الكنيسة الرئيسية مراسم رسمية، وذلك في غضون شهر واحد من الآن من قبل البطريرك الكلداني الكاثوليكي، المونسنيور ساكو
انطلقت عمليات نزوح المسيحيين قبل قدوم تنظيم الدولة، وذلك نتيجة الابتزاز والتهديد الذي مارسته في حقهم بعض الجماعات المتطرفة. وانتهى الأمر بالتطهير العرقي الذي أقره تنظيم الدولة في حزيران/ يونيو سنة 2014. كما أغلقت كنيسة الدومينيكان، التي كانت واحدة من المعالم التاريخية التي تجسد الحياة الفكرية والروحية في الموصل، بشكل دائم. وقد قررت معظم العائلات المسيحية عدم العودة، بينما بقي أبناؤهم الذين التحقوا بالجامعة في المدينة، في حين فضلوا العيش في مكان آخر.
يقيم حوالي أربعين مسيحيا في المباني التي خصصتها لصالحهم منظمة “لوفر دوريان” في كارملش، وهي بلدة تقع ضمن قرقوش، التي تمثل قطب نهضة المسيحية في نينوى. في هذا الشأن، قالت نورا: “لقد غادرت الموصل قبل ست سنوات، ولن أعود إليها أبدا، خاصة بعد أن تلقت عائلتنا ظرفا يحتوي على رصاصة ورسالة تهديد”. كانت صديقتها ميرنا قد غادرت المدينة الثانية في العراق سنة 2005 مع بداية الحروب الطائفية. في هذا الصدد، أوضحت ميرنا قائلة: “لدينا منزل في الموصل وهو الآن محل إيجار. أتمتع بصديقات مسلمات في الكلية، وقد دعوني إلى حفلات شرقية في البيت، لكنني امتنعت عن الذهاب. فمن المستحيل أن أرتدي الحجاب لأذهب إلى هناك، في حين أن عدم ارتدائه سيجعلني محط أنظار الجميع هناك”.
من جانب آخر، تشهد كارمليش عملية إعادة بناء، حيث وقع تجديد المنازل التي أحرقها القرويون المسلمون في المنطقة بتحريض من تنظيم الدولة، واحدا تلو الآخر، في حين أصبحت الشوارع نظيفة. في الوقت ذاته، يتعايش المسيحيون مع الشبك، الأقلية الشيعية هناك بشكل سلمي. كما عاد إلى المدينة 320 عائلة من أصل 800 أسرة. وقد افتتحت منظمة “لوفر دوريان” ورشة نجارة في المدينة، حيث تصنع “مقاعد الصلاة”، فضلا عن الألواح الشمسية الجهدية، وهو نشاط يشهد ازدهار مستمرا.
علاوة على ذلك، تم تجديد الكنائس الأربع الموجودة في المدينة بتمويل أميركي، وسيرافق افتتاح الكنيسة الرئيسية مراسم رسمية، وذلك في غضون شهر واحد من الآن من قبل البطريرك الكلداني الكاثوليكي، المونسنيور ساكو. وفي هذا السياق، قالت ميرنا: “أنا أحب هذا المكان. لقد اعتدنا على الحروب. وفي حال قررنا أن نعيد أمجادنا فلن يكون ذلك في الموصل”، فنينوى المدينة الآشورية القديمة ليست ببعيدة عن هنا.
المصدر: لوفيغارو