ترجمة وتحرير: نون بوست
قد يموت خلال الأشهر الأربعة المقبلة مليونان ونصف مليون سوداني لأسباب مرتبطة بالجوع. وهذا ضعف عدد الذين جوّعهم نظام بول بوت في كمبوديا على مدى أربع سنوات، وضعفين ونصف عدد الذين ماتوا في المجاعة التي شهدتها إثيوبيا ما بين 1983 و1985 التي ألهمت تسجيل الأغنية الخيرية “نحن العالم”. وكما قال مؤخرا مارتن غريفيث، أكبر مسؤول إنساني في الأمم المتحدة: “لا أعتقد أنه كان لدينا هذا العدد من الأشخاص المعرضين لخطر المجاعة من قبل”.
إن التوسع الهائل للمقابر في إقليم دارفور في السودان وعنف الإبادة الجماعية الذي يميز المعارك في المدن الرئيسية هو الجزء المرئي من جبل المعاناة الإنسانية، وحتى مع احتدام الحروب في أماكن أخرى من العالم لا يوجد ما يوازي حدة الصراع في السودان ونطاقه. منذ اندلاع الحرب الأهلية في نيسان/أبريل 2023، فرّ عشرة ملايين سوداني من ديارهم، وأصبح واحد من بين كل ثمانية نازحين داخليًا في العالم سودانيًا، كما أن عدد الأطفال الذين نزحوا من ديارهم في السودان أكثر من أي مكان آخر.
لكن يبدو أن العالم لا يكاد يلاحظ معاناة السودان وشعبه إذ ساهم المانحون بـ 31 بالمائة فقط من مبلغ 2.7 مليار دولار الذي طلبته الأمم المتحدة للسودان – وهو عجز يزيد من تفاقم أزمة الجوع. تعلن الحكومات من حين لآخر عن فرض عقوبات أو يدلي قادة العالم والمنظمات الدولية ببيانات تعبر عن قلقهم، إلا أنهم في معظم الأحيان لا يتخذون إجراءات ذات مغزى لوقف إراقة الدماء.
لا تقوم أي دولة بما يكفي لإنهاء المعاناة بل إن بعض الدول تغذّي الحرب الأهلية في السودان وتستفيد منها. فقد قدمت مصر وإيران وتركيا الدعم العسكري للخرطوم رغم وجود أدلة على أن القوات المسلحة السودانية تشارك في القصف العشوائي والتعذيب وتستخدم التجويع كسلاح حرب.
ودعمت روسيا في البداية قوات الدعم السريع شبه العسكرية، وهي الطرف الآخر في النزاع، التي تعود جذورها إلى ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت إبادة جماعية في دارفور قبل عقدين من الزمن. لكن موسكو تلعب الآن على كلا الطرفين: ففي أيار/مايو، أبرمت اتفاقًا مع القوات المسلحة السودانية لإنشاء قاعدة دعم لوجستي روسية على البحر الأحمر مقابل أسلحة ومعدات.
وفي الوقت نفسه، أمضت المملكة العربية السعودية، التي تربطها صلات تاريخية بقيادة القوات المسلحة السودانية، أشهرًا في تقويض جهود استئناف المفاوضات بين الأطراف المتحاربة التي توقفت في أواخر سنة 2023، ولم تتمكن الولايات المتحدة من الحصول على موافقة السعودية على استئناف المحادثات إلا في شهر تموز/يوليو حيث تقرر إجراؤها في آب/ أغسطس في جنيف.
لكن الجهة الخارجية التي تتحمل المسؤولية الأكبر عن التجويع والتطهير العرقي هي الإمارات العربية المتحدة، ففي الوقت الذي ترتكب فيه قوات الدعم السريع هجمات الإبادة الجماعية على المدنيين في دارفور ومناطق أخرى تقوم أبو ظبي بتسليم الأسلحة إلى هذه الميليشيا. وفي الوقت نفسه، تقوم شركات عديمة الضمير بتهريب الذهب السوداني إلى الأسواق الإماراتية مما يؤجج الصراع أكثر.
وقد تمكنت الإمارات من التصرف بحصانة، حيث أن احتياطياتها النفطية وأهميتها الاستراتيجية كثقل موازن لإيران، ودورها في الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب في قطاع غزة، تجعل القادة الغربيين مترددين في ممارسة ضغوط كبيرة على أبوظبي.
بالنظر إلى الدور الكبير الذي لعبته الإمارات في تأجيج الأزمة في السودان، فإنه من الضروري أن تجبر الجهات الفاعلة الخارجية القيادة الإماراتية على تغيير مسارها.
حتى إذا ظلت الولايات المتحدة وشركاؤها غير راغبين في اتخاذ إجراءات جريئة، مثل فرض عقوبات شاملة على هذه الشبكة أو الاستثمار في قوات حفظ سلام جديدة في دارفور، فيمكن للجهات الفاعلة العامة والخاصة الاستفادة من نقاط ضغط أخرى على القيادة الإماراتية، بما في ذلك تجارتها في الذهب المرتبط بالصراع، ومصالحها المالية في الفرق والبطولات الرياضية، وشرائها للأسلحة الأمريكية، واعتمادها على جماعات الضغط في واشنطن. إذا واجهت ضغوطًا كافية، فقد تستنتج أبو ظبي أن دعمها لقوات الدعم السريع يمثل مشكلة أكبر من اللازم.
ذهب الحرب
كان الذهب محركًا رئيسيًا للحرب في السودان، ورغم أن قوات الدعم السريع متورطة بشكل أكبر في تجارة الذهب، إلا أن كلا الطرفين قاما بتهريب وبيع كميات كبيرة من الذهب لتغذية آلة الحرب، وتستفيد الإمارات حاليًا من هذه التجارة.
لم تتوفر إحصاءات سنة 2023 بعد، ولكن في سنة 2022 استوردت الإمارات العربية المتحدة 39 طنًا من الذهب من السودان بقيمة تزيد عن ملياري دولار، ولا تزال الشحنات المباشرة من الذهب السوداني مستمرة حتى اليوم. كما تقوم الجهات السيئة بتهريب الذهب السوداني إلى تشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان وأوغندا – لينتهي المطاف بالكثير منه في الإمارات.
ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة التجارية، وصل أكثر من 60 طنًا إلى الإمارات عبر هذه الطرق في سنة 2022. وأشارت وزارة الخارجية الأمريكية في نشرة مخاطر الأعمال الصادرة في أيار/مايو 2023 إلى أن الإمارات تتلقى “تقريبًا كل” الذهب المصدر من السودان.
تُعد الإمارات مركزًا عالميًا لغسيل الذهب وأكبر وجهة للذهب المهرّب من أفريقيا. وقدّر تقرير حديث صادر عن منظمة سويسايد السويسرية غير الحكومية أنه تم تهريب 405 طن ذهب من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى الإمارات في سنة 2022، مما يجعل الإمارات العربية المتحدة أكبر مستورد للذهب الأفريقي غير المشروع في تلك السنة.
ويقول خبراء الصناعة إن الكميات الكبيرة من الذهب المهرب التي لا يتم الإعلان عنها في بلدانها الأصلية تصبح فجأة قانونية عند نقلها عبر الإمارات العربية المتحدة، مما يعزز دور الدولة الرائد في غسيل الذهب.
وما بين 2020 و2022، ضغطت رابطة سوق لندن للسبائك، وهي منظمة عالمية مؤثرة في مجال تجارة الذهب، وفرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية، وهي هيئة حكومية دولية لمكافحة غسيل الأموال، على أبوظبي لمعالجة مسألة الذهب وغسيل الأموال. وردًا على ذلك، اتخذت القيادة الإماراتية بعض الخطوات نحو الإصلاح حيث طالبت مصافي الذهب بالخضوع للتدقيق وفقًا للمعايير الدولية. لكن لا تزال هناك ثغرات مهمة، لا سيما في أسواق الذهب في البلاد حيث يتم تداول الذهب مقابل النقد.
من شأن اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد تجارة الذهب غير المشروعة أن يزيد من صعوبة استفادة الإمارات والشركات الإماراتية من الحرب. يجب أن تنسق رابطة سوق السبائك في لندن مع الحكومات الأخرى لدفع الإمارات للسماح بمراقبة مستقلة لأسواق الذهب لديها – على غرار بعثات المراجعة المستقلة التي تعطل تجارة الماس الدموي فيما يعرف باسم نظام عملية كيمبرلي لإصدار الشهادات. بدون مراقبة مستقلة لأسواق الذهب، فإن الإصلاحات المحلية لن تساهم كثيرًا في الحد من تجارة الذهب الممول للصراعات.
وأخيرًا، ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرض المزيد من العقوبات على الشركات التي تشتري وتبيع الذهب المهرب من مناطق الصراع من السودان. ففي حزيران/ يونيو، حظرت وزارة الخزانة الأمريكية وصول سبع شركات مقرها الإمارات إلى النظام المالي الأمريكي للاشتباه في انتهاكها للعقوبات الأمريكية المفروضة على السودان.
وتعد هذه خطوة جيدة، ولكن للتأثير على تفكير القادة الإماراتيين يتعين على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشديد العقوبات الحالية، واستهداف كامل شبكة الشركات والأفراد في الإمارات المتورطين في تهريب الذهب من السودان. ونظرًا لأن المالكين كثيرًا ما يغيّرون أسماء الشركات ويستخدمون مديري شركات وهميين ليحلوا محل الأفراد المسؤولين فعليًا، فإن العقوبات لابد أن تكون بعيدة المدى حتى تنجح.
الضغط الكامل
قد يكون تعطيل تجارة ذهب الصراع السوداني وسيلة فعالة بشكل خاص بالنسبة للجهات الفاعلة الخارجية لإبعاد الإمارات عن دعم قوات الدعم السريع، لكنها ليست الطريقة الوحيدة المتاحة لها. فعلى غرار السعودية، استثمرت الحكومة الإماراتية بكثافة في غسيل السمعة الرياضية – من خلال التمويل إما بشكل مباشر أو من خلال شركات خاصة، والدوريات والفرق الرياضية في جميع أنحاء العالم.
وقد حصلت بعض أكبر أندية كرة القدم الأوروبية، مثل ميلان الإيطالي وأرسنال ومانشستر سيتي وريال مدريد، على دعم إماراتي. وكذلك الأمر بالنسبة للفورمولا وان، الدوري الدولي لسباقات السيارات، ودوري البيسبول المتحد، وهو دوري مقره دبي، وتضم مجموعة ملاكه لاعبين سابقين في دوري البيسبول الأمريكي الرئيسي، وعدد من المنظمات الرياضية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، بما في ذلك الرابطة الوطنية لكرة السلة، وبطولة القتال النهائي وبطولة الولايات المتحدة المفتوحة للتنس.
وسيشعر المشجعون بالفزع بحق عندما يعلمون أن رعاة رياضييهم المفضلين يتعهدون أيضًا بتمويل العنف الإبادي. وإذا ما قامت بعض الفرق الرياضية والبطولات واللاعبين والمشجعين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتنديد بمساهمات الإمارات في الأزمة السودانية، فإن الحرج العام قد يجعل الإمارات تفكر مليًا في سياساتها.
يجب على الولايات المتحدة أيضًا إعادة النظر في الأسلحة التي تبيعها للإمارات سنويًا بمليارات الدولارات. وقد أطلق أعضاء في الكونغرس ومنظمات المجتمع المدني، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، تحذيرات بشأن تسليح الإمارات لقوات الدعم السريع، وحثوا الدول التي تزود الإمارات بالأسلحة على بذل المزيد من العناية الواجبة للتأكد من أن تلك الشحنات لا تصل إلى دارفور.
وقدمت سارة جاكوبس، النائب الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا والعضو البارز في اللجنة الفرعية لأفريقيا التابعة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مشروع قانون في أيار/ مايو 2024 من شأنه أن يحظر مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الإمارات حتى يشهد الرئيس الأمريكي بأن أبو ظبي قد توقفت عن تسليح قوات الدعم السريع.
وسيؤثر الحظر على كل من المبيعات الحكومية والخاصة الأمريكية وسيشمل الأسلحة النارية والمدفعية والذخائر والصواريخ والقنابل والمتفجرات والمركبات العسكرية والطائرات، من بين أنواع أخرى من المعدات. وإذا ما ازداد الزخم وراء مشروع القانون، فإن الإشارة إلى أن واشنطن تجعل من هذه المشكلة أولوية يمكن أن ترسل تحذيرًا مفيدًا إلى الإمارات.
وأخيرًا، ينبغي على أعضاء الكونغرس الأمريكي والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة أن يوجّهوا نداءً إلى الشركات الأمريكية التي وظفتها أبو ظبي للتأثير على السياسة الأمريكية وتشكيل الرأي العام بما يرضيها. فعلى سبيل المثال، لدى مجموعة الاستشارات الاستراتيجية عقدان مع الحكومة الإماراتية بقيمة إجمالية تبلغ 5.6 مليون دولار بالإضافة إلى النفقات للفترة 2024-25.
وبالمثل، تعاقدت شركة “أكين غامب شتراوس آور آند فيلد”، وهي شركة محاماة بارزة في واشنطن، من الباطن مع شركة ضغط مقرها العاصمة لتقديم المشورة للإمارات بشأن المبيعات العسكرية في سنة 2023، وحصلت هي نفسها على 3.8 مليون دولار كرسوم من الإمارات على مدى ستة أشهر في السنة نفسها. وطالما أن الإمارات تساعد وتحرض قوات الدعم السريع فإن جماعات الضغط وشركات المحاماة في واشنطن التي تعمل لصالح الحكومة الإماراتية تساعد في تمكين الفظائع.
زيادة الضغط
قبل ما يقارب عقدين من الزمن، وفي خضم الإبادة الجماعية في دارفور، وضع تحالف الناشطين العالمي “أنقذوا دارفور” نصب عينيه التأثير على السياسة في الصين، التي كانت في ذلك الوقت أكبر مستثمر في السودان. واتهمت منظمة “أنقذوا دارفور” الصين بتجاهل الفظائع في دارفور وأطلقت حملة تنتقد عدم اتخاذ بكين أي إجراء بينما كانت تستعد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية لسنة 2008.
وفي أوائل شباط/ فبراير 2008، استقال ستيفن سبيلبرغ، الذي تم تعيينه مديرًا فنيًا لحفلي افتتاح واختتام الألعاب، احتجاجًا على علاقة الصين بالإبادة الجماعية. وكان للإدانة الدولية المتصاعدة تأثير: بحلول أواخر شباط/ فبراير، انضمت بكين إلى الجوقة الدولية التي تضغط على الخرطوم للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى مخيمات النازحين المدنيين، مما حال دون وفاة مئات الآلاف من المدنيين جوعًا.
وكما أظهرت حلقة سبيلبرغ قبل عقدين من الزمن، فإن الضغط من مصادر غير متوقعة يمكن أن يحدث فرقًا.
واليوم، يجب على مجموعات المناصرة والشركات والفرق الرياضية والرياضيين وصانعي السياسات وأي شخص لديه منبر عام أن يستخدم جميع الأدوات المتاحة له لمنع تصاعد المجاعة والإبادة الجماعية في السودان.
إن الإمارات متورطة بعمق مع قوات الدعم السريع وتتحمل مسؤولية كبيرة عن الأزمة، ولكن هذا يعني أن لديها أيضًا نفوذًا هائلًا – إذا تم حث أبو ظبي على استخدامه – لتشكيل قرارات قوات الدعم السريع. وعلى الجانب الآخر، يمكن لمصر والسعودية، اللتين تتمتعان بنفوذ على القوات المسلحة السودانية، أن تساعدا في الضغط من أجل وقف إطلاق النار وإنهاء عرقلة هذه القوات للمساعدات المنقذة للحياة.
فدون المزيد من الضغط على الأطراف المتحاربة والجهات المستفيدة منها في المنطقة، فإن الأزمة الإنسانية المتردية أصلًا في السودان ستزداد سوءًا. ولا ينبغي أن يتطلب الأمر صور الأطفال السودانيين الذين يتضورون جوعًا والتي تملأ الأخبار لكي تضع الشركات والمجموعات الرياضية والحكومات المبدأ فوق الربح أو النفعية.
المصدر: فورين أفيرز