عشية دخول شهر رمضان الكريم، تعود عديد من العادات والتقاليد التي غابت عن الشارع والمجتمع التونسي طيلة أحد عشر شهرًا، لتصدر المشهد ثانية، عادات وإن قلت نتيجة أسباب عدة، فتبقى سمة التونسيين طوال هذا الشهر الفضيل.
استعداد شعبي كبير
البداية تبدأ بالاستعدادات الحثيثة التي تميز هذا الشهر الكريم عن غيره، حيث تنشط الأسواق التي تفوح بمزيج مدهش من روائح التوابل والحبوب والقهوة والمحلات والفضاءات التجارية الكبرى، وتنتعش حركة التجارة ويتضاعف الاستهلاك أكثر من مرتين، حتى إن السوق حاليًّا يسجل نقصًا في بعض المواد الاستهلاكية نتيجة ارتفاع حركة الشراء.
يعمل المشرفون على مساجد تونس في كامل أنحاء البلاد على تنظيفها وتزينها بأضواء الزينة
وتشهد أسواق تونس رواجًا وإقبالًا كبيرًا، حيث يعرض الباعة كل ما يحتاجه التونسيون خلال رمضان من التوابل والتمور والفواكه الجافة، لصناعة ألذ المأكولات التي يشتهر بها المطبخ التونسي، كما يكثر الإقبال على أنواع معينة من الأواني التي تستعمل بشكل كبير خلال رمضان، كأواني حساء “الشربة” وأطباق الحلوى والعصائر، وتنتشر البسطات التجارية التي تبيع لوازم رمضان مثل المفارش وأغطية السفرة والقدور والطواجن والخبز التقليدي.
وتقبل العائلات، كل حسب مقدرتها الشرائية، على شراء لوازم الوصفات والحلويات التي تحضرها النساء التونسيات قبل أيام من بدء هذا الشهر، وأشهرها على الإطلاق حلويات “الغريبة” التي تصنع بخلط الدقيق مع السكر ومسحوق الخبز والزيت والسمن والفانيليا، فضلاً عن الصمصة وغريبة حمص وكعك الورقة والبقلاوة وغيرها.
أسواق تونس تتهيأ لاستقبال رمضان
الاستعداد لشهر رمضان الكريم في تونس، لا يقتصر على شراء المواد الاستهلاكية والأواني فقط، بل يمتد إلى المساجد حيث يعمل المشرفون على مساجد تونس في كامل أنحاء البلاد على تنظيفها وتزينها بأضواء الزينة وتعطيرها بأفضل العطور لاستقبال المصلين.
كما تعمل ربات البيوت أيضًا على غسل الأواني التي ستستعمل طيلة رمضان وغسل منازلهم وتهيئته لسهرات رمضانية تتجدد كل عام إضافة إلى طلاء الجدران والأسقف بلون جديد مضيء، احتفالاً بهذا الشهر العظيم.
عادات قديمة متجددة
فضلاً عن هذه الاستعدادات الكبرى التي تميز هذا الشهر الفضيل، يتميز شهر رمضان في تونس بعديد من التقاليد والعادات، والبداية تكون بالاحتفال بيوم “القرش” أي اليوم الأخير من شهر شعبان، حيث تعد ربة البيت وجبة دسمة لوداع شهر شعبان، وتختلف هذه الوجبة حسب إمكانات وظروف هذه الأسرة وتلك، لكن في العادة ما تكون في القرى طبق كسكي بلحم الخروف.
وتتغير العادات الغذائية لدى التونسي في شهر رمضان، ويزداد استهلاكه للمواد الغذائية بشكل كبير، ويشمل هذا غالبية المنتجات الاستهلاكية على غرار الحليب والخبز والمواد السكرية نظرًا لارتباط بعض العادات الاستهلاكية بتناول الحلويات في “السهرية”.
وتمتلئ المائدة الرمضانية التونسية بالعديد من أنواع المأكولات والحلويات التي تتغير بتوالي أيام الشهر الكريم، ومن أهم الحلويات التي تحضر يوميًا على المائدة المخارق والزلابية التي تقدم على شكل حلويات تتخذ أشكال نجوم وهلال، تيمنًا بالشهر الكريم.
يحرص التونسيون طوال هذا الشهر على فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين
ومع أول ليلة رمضانية، يتجدد العهد مع “اللمات” العائلية والسهرات، حيث يقبل التونسيون على المهرجانات والمقاهي التي تتحول إلى ملتقى العائلات والأصدقاء والخلان، ويفضل معظم التونسيين الذهاب لهذه الحفلات على البقاء في البيت، فهي تريحهم من تعب النهار وسماع ومشاهدة ما ينغص راحتهم في شاشات التليفزيون وقنواته المختلفة.
وخلال هذا الشهر، خاصة في ليلة السابع والعشرين منه (تعتبر هذه الليلة في المخيال الشعبي التونسي ليلة القدر)، تقام مواكب الخطبة بالنسبة للفتيات وتقديم الهدايا للعروس، كما تنقش العروس الجديدة يديها ورجليها بالحناء، وتقام حفلات ختان الأطفال في هذه الليلة الكريم تيمنًا بها.
وللجانب الروحي مكان أيضًا في عادات التونسيين في هذا الشهر الفضيل، حيث تزدهر حلقات تحفيظ القرآن ومجالس الذكر والوعظ الديني والمحاضرات، والمسابقات الدينية طوال ليالي وأيام الشهر الكريم، وتصدح المآذن بتلاوات خاشعة للقرآن، وتقام صلاة التراويح في كامل المساجد، تقربًا إلى الخالق العظيم ورغبة ورهبة في لقائه سبحانه وتعالى.
تتزين ليالي رمضان تونس بالحفلات الفنية
ورغم تقدم الوقت والتطور التكنولوجي، ما زالت تونس تحتفظ بتقليد “بوطبيلة” أو “المسحراتي” كما يسميه المشارقة، ويجوب “بوطبيلة” الأزقة والشوراع مؤذنًا بقرب موعد السحور والإمساك، ويضفي “بوطبيلة” أجواءً جميلة ينتظرها التونسيون في الأحياء التي يجوبها من خلال نقر الطبل والمناداة بالدعوة إلى السحور.
ويستخدم المسحراتى في ذلك طبلة يُمسكها بيده اليسرى، وبيده اليمنى سير من الجلد، أو خشبة يُطبل بها، وترتبط مهنة “بوطبيلة” بتاريخ إسلامي يعود إلى عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث كان المسلمون يعرفون وقت السحور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بأذان بلال بن رباح، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان عبد الله ابن أم مكتوم.
ويحرص التونسيون طوال هذا الشهر على فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين، حيث توزع المساعدات على الأسر الفقيرة وتنظيم قوافل تضامنية تقدم هدايا ومبالغ من المال للمحتاجين، ليكون رمضان بذلك شهر التكافل الاجتماعي والإنساني بين عموم التونسيين في مختلف أنحاء البلاد.