على الرغم من أنّه لا يوجد الكثير من الدراسات التي تربط ما بين الصيام بمفهومه الإسلاميّ وبين أثره على نفسية الأفراد والمجتمعات خارج نطاق الكتب الدينية والإسلامية البحتة، إلّا أننا نستطيع من خلال إعادة النظر في الدراسات السيكولوجية الحديثة التي ترتبط بشكلٍ أو بآخر بالآثار والفوائد التي تسوقها الكتب الدينية للصوم والالتزام به على كلٍ من الصحة النفسية والروحيّة للأفراد.
وبشكلٍ عام، يقدّم شهر رمضان وصيامه فرصةً كبيرة للأفراد المسلمين لتعزيز قدراتهم على التحكم في ذواتهم وضبط أنفسهم، الأمر الذي يعود بالفوائد الإيجابية المتعددة على كثيرٍ من الجوانب الشخصية أيضًا، مثل تحسين قدرة الفرد على تحمّل ضغوطات الحياة وتوتّرها من جهة، وتحسين فرصه على النجاح من جهة أخرى.
كما وفي الوقت نفسه، يشكّل رمضان فرصةً قوية لتعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية العلاقات الشخصية، ما يعود بالنفع أيضًا على نفسية الأفراد أنفسهم لما له علاقة في زيادة فرص التواصل الاجتماعيّ وتخفيف الوحدة والحدّ من الانغلاق على الذات وما ينتج عنها من اكتئاب أو قلق وما إلى ذلك.
تجربة المارشميلو: الصوم كوسيلة لضبط النفس والتحكّم بالرغبات الآنية
تُعتبر “تجربة المارشميلو”، التي أجراها الباحث والطبيب النفسي النمساوي “وولتر ميشيل” في جامعة ستانفورد في ستينات القرن الماضي من أكثر التجارب تشويقًا في علم النفس؛ إذ هدفت لمعرفة مدى قدرة الأطفال المشاركين بالتجربة، والذين تراوحت أعمارهم ما بين سنتين إلى أربع سنوات، على كبح رغباتهم للحصول على مكافأة أكبر، أيْ دراسة قدرتهم على تأخير إشباع متعتهم الفوريّة في سبيل متعةٍ أكبر في المستقبل.
وباختصار شديد، قدّم الباحثون عرضًا خاصًا وصفقةً مميزة للأطفال المشاركين في التجربة: ستحصل على قطعةٍ أخرى من المارشميلو في حال صبرتَ حتى عودة الباحث للغرفة ولم تأكل القطعة الأولى التي توجد أمامك على الطاولة. ونظرًا لصغر أعمار الأطفال، فلنا أنْ نتخيّل أنّ هكذا طلب سيكون من الصعب بمكان تنفيذه، فمقاومتهم لقطعة المارشميلّو ليس من السهلّ أبدًا بكلّ تأكيد.
نجح 33.3% فقط من الأطفال في ضبط أنفسهم ومنعها من أكل المارشميلو للحصول على المكافأة في نهاية الأمر، باتباعهم استراتيجيات مختلفة للتعامل مع الموقف؛ فعلى سبيل المثال قام جزءٌ منهم بتغطية عيونهم بأيديهم لتحول بينهم وبين رؤيتهم للقطعة، وآخرون حاولوا مداعبتها بأيديهم أو تذوقها بألسنتهم دون أن بلعها.
نُشرت التجربة عام 1972، وبدأت منذ ذلك الوقت تشكّل أهمية كبيرة في علم النفس التطوريّ والسلوكيّ، غيرَ أنّ الجزء المثير منها لم يكن ذلك الجزء من التجربة وإنما ما جاء بعدها بأكثر من عشر سنوات. ففي دراسة أخرى أجراها الباحث نفسه، قام ميشيل بزيارة العائلات التي اشترك أطفالها في الدراسة الأولى لفحص مدى نجاحهم بناءً على مقاييس عدة؛ مثل علامة اختبار “SAT“، أي اختبار إنهاء مرحلة الثانوية، واختبار صعوبات التركيز أو المشاكل السلوكية، إضافةً لقدرتهم على التعامل مع الضغط والتوتّر النفسيّين، وتكوين صداقات وعلاقات اجتماعيّة جيدة.
توصلت التجربة إلى أنّ قدرة الفرد على مقاومة الإغراءات وكبح الرغبات الفوريّة يتمّ اكتسابها في سنٍّ صغيرة، وترتبط بشكلٍ كبيرٍ وواضح على قدرته في المستقبل على التعامل مع جوانب الحياة المختلفة بطرق أكثر نجاحًا.
نتائج الدراسة كانت حاسمة؛ فقد سجّل الأطفال الذين لم يكبحوا رغباتهم في التجربة الأولى وأكلوا قطعة المارشميلو قبل عودة الباحث تحصيلًا دراسيًا أقل ومشاكل سلوكية أكثر، بالإضافة لقدرةٍ أقل على التعامل مع الضغط والتوتّر وتكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية. وعلى النقيض تمامًا، كان التحصيل الدراسي للأطفال الذين نجحوا في كبح شهواتهم وتأجيل متعتهم اللحظية بمقاومة قطعة المارشميلو، أعلى بفارقٍ ملحوظ من غيرهم، إضافةً إلى تسجيل قدرةٍ أكبر على التعامل مع الضغط ونجاحٍ أعلى في العلاقات الاجتماعيّة.
ومن هنا، استنتج الباحثون أنّ قدرة الفرد على مقاومة الإغراءات وكبح الرغبات الفوريّة يتمّ اكتسابها في سنٍّ صغيرة، وترتبط بشكلٍ كبيرٍ وواضح على قدرته في المستقبل على التعامل مع جوانب الحياة المختلفة بطرق أكثر نجاحًا. ومن الجدير ذكره أيضًا أنّ هذه الدراسة أُجريت عدة مرات باستهدافها العديد من الأعراق والمجموعات الثقافية، بنتائج متّسقة تمامًا مع الدراسة الأصلية.
لكن كيف يمكن أنّ نفهم أثر الصوم على الصحة النفسية للفرد في ضوء هذه الدراسة؟
بدايةً علينا قبل كلّ شيء تعريف ضبط النفس بوصفه مصطلحًا سيكولوجيًا وفلسفيًا قبيل التطرّق له في الإطار الدينيّ. كان سيغموند فرويد أول عالم نفسيّ معروف يتطرّق لقدرة الفرد على التنظيم الذاتي وضبط النفس من خلال استخدامه لطاقته النفسية. ومنذ ذلك الحين، ظهرت العديد من الاختلافات في تعريف مصطلح “ضبط النفس” في أدبيات علم النفس؛ مثل السيطرة المضنية وقوة الإرادة والانضباط الذاتي وقوة الأنا في إدارة الصراع بين الهو والأنا العليا، وغيرها الكثير.
فكرة الصوم، مثله مثل الكثير من الطقوس الدينية، تتمركز حول كبح الرغبات اللحظية لفترة معينة من الزمن. وبكلماتٍ أخرى، حول ضبط النفس ومحاولة التحكّم بها.
واختصارًا، يتفق الكثير من الباحثين على أنّ التحكم في النفس وضبطها بوصفه عملية إدراكية معرفية فهي القدرة على تغيير استجابات الفرد لجعلها تتماشى مع معايير عُليا مثل القيم والأخلاق والمُثل والتوقعات الاجتماعية، إضافةً للسعي إلى تحقيق أهداف طويلة الأجل على حساب المُتع الآنية والحالية.
ومن هذا التعريف، يمكن وصف “ضبط النفس” بكونه خاصية تتعلّق بالفرد ورغباته الخاصة من جهة، وبالطبيعة الاجتماعية له والتي تتصل برغباته ودوافعه التي ترتبط برغبات ودوافع غيره ممن ينتمون للمجموعة ذاتها من جهة أخرى. وقد آمن الفلاسفة والحكماء، تمامًا كما علماء النفس، منذ القدم بأنّ قدرة الفرد على “تأخير إشباع” رغباته وشهواته تُعدّ واحدةً من أكبر المؤشرات على النجاح. فأنْ تستطيع التخلّص من رغبة الإشباع الفوري، يساعدك في سدّ الفجوة والثغرة بين ما أنت عليه حاليًا وبين ما تريد أنْ تكون عليه، أي بين ذاتك الحقيقية وذاتك المتخيّلة. ومن هنا نستطيع أنْ نربط بين تجربة المارشميلّو والدراسات السيكولوجية الحديثة الشبيهة بها بالصيام وأثره على الصحة النفسية للفرد.
يرى ابن حزم أنّ ضبط النفس يتم بردعها عن الطبع الغضبيّ والشهواني؛ فالنفس لها نوازع الشهوة ونوازع الغضب، والفرد إنْ استطاع أن يمنع نفسه عن هذين المنزعين استطاع أن يحقق الراحة النفسية المنشودة.
ولو عدنا إلى كتب الدين، لوجدنا أنّ أحد الأسباب التي تبرّر الصيام وتدعو له، هي قدرته على تدريب الأفراد على ضبط نفوسهم وكبح رغباتهم وشهواتهم لفترةٍ من الزمن، لما في ذلك من فوائد جمى تعود عليه من جهة وعلى المجتمع ككلّ من جهةٍ أخرى. وبتعريفٍ قريب من تعريف علماء النفس الأوروبيين الحديثيين، فقد توصّل ابن حزم إلى أنّ ضبط النفس يتم بردعها عن الطبع الغضبيّ والشهواني؛ فالنفس لها نوازع الشهوة ونوازع الغضب، والفرد إنْ استطاع أن يمنع نفسه عن هذين المنزعين استطاع أن يحقق الراحة النفسية المنشودة.
فالإسلام في أصله متجذّر على فكرة ضبط النفس والتحكّم بالذات، ومعظم طرقه تنطوي على بعض الطقوس أو الأفكار التي تقوم على فكرة ضبط النفس وتطويرها، مثل مواعيد محددة للصلاة أو الدعوة إلى الابتعاد عن المحظورات التي تضرّ بالنفس والآخرين والالتزام بالسلوكيات النافعة وغيرها الكثير. وفكرة الصوم، مثله مثل الكثير من الطقوس الدينية، تتمركز حول كبح الرغبات اللحظية لفترة معينة من الزمن. وبكلماتٍ أخرى، حول ضبط النفس ومحاولة التحكّم بها.
على أنه يجب أنْ نعي أكثر أنّ ما وراء فكرة الصوم ليست فقط الامتناع عن الطعام والشراب والشهوات الجنسية وحسب، وإنما هي فرصة لتدريب النفس أكثر على التحكّم بالرغبات الآنية والاندفاع وراء تحقيقيها بشكلٍ فوريّ وعاجل، مهما كان نوع تلك الرغبات، سواء على سبيل الطعام أو الجنس أو الكلام أو الأفكار أو العواطف وغيرها.