ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب:نادر هاشمي وداني بوستيل
من المرجح أن يؤجج قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي بانسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني، نيران الطائفية في الشرق الأوسط. فقد بلغت العلاقات السنية الشيعية نقطة الانهيار، ولعل ذلك ما تعكسه الحروب الكارثية في سوريا واليمن، والتجمعات المضطربة في العراق ولبنان. ومع ذلك، فإن محفزات هذا التوتر حديث العهد مرتبطة أساسا بالشأن السياسي ولا صلة لها الدين.
للحد من هذا التوتر، نحن بحاجة إلى فهم أوضح للقوى الدافعة للنزاع الطائفي. وفي الحقيقة، إن التنافس الإقليمي السعودي الإيراني أمر محوري، وإدارة ترامب بما تدلي به من تصريحات وتمارسه من سياسات لا تزيد إلا من تفاقم الأزمة.
لقد عمدت المملكة العربية السعودية و”إسرائيل” إلى ثني إدارة أوباما عن مواصلة الصفقة النووية الإيرانية. لهذا السبب، كان السعوديون متحمسين عندما انتخب ترامب، ذلك أنه هاجم الاتفاق النووي الإيراني خلال حملته الانتخابية. وفي شهر أيار/ مايو الماضي، وفي زيارته للرياض، ردد ترامب وجهة النظر السعودية بأن إيران وحدها المسؤولة عن كل مشاكل في المنطقة وهذا يستدعي إيقافها بأي ثمن.
الأسباب المباشرة الكامنة وراء الصراعات العالمية هي في الحقيقة مدفوعة من قبل جهات حكومية تسعى إلى مسك زمام السلطة السياسية وتحقيق مصالحها الإستراتيجية
في هذا السياق، ينبغي أن يُنظر إلى الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني على أنه تحول منسّق مسبقا بين الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” والمملكة العربية السعودية من أجل عزل إيران ومواجهتها. فلطالما وُصف الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية على نطاق واسع، من قبل كاتبي الأعمدة وصانعي القرار والصحفيين، بأنه متجذّر في الكراهية البدائية التي استعصى حلها على مر العقود. وحيال هذا الشأن، قال كاتب مقالات رأي في صحيفة “تايمز” إن تاريخ هذا الصراع يعود إلى “القرن السابع حيث دار الخلاف بين الشيعة والسنة حول الوريث الشرعي للنبي محمد ﷺ“.
خلال فترة ولايته، استحضر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الذي راهن سياسيا على الاتفاق النووي مع إيران، شبح “الاختلافات الطائفية القديمة” لشرح التوترات في الشرق الأوسط. وفي خطابه الأخير عن حالة الاتحاد، أكد أوباما أن القضايا التي تعاني منها المنطقة “هي انعكاس لصراعات تعود إلى آلاف السنين”. لكن مثل هذا الإسقاط على الوضع الحالي، والاعتقاد بأن الأمور كانت دائما هكذا وأنها تجري على هذا النحو، خطأ فادح. فهذه الرواية الإستشراقية الملائمة أصبحت الحكمة الجديدة في الغرب، وقد كان لها تداعيات سياسية حقيقية خطيرة للغاية.
خلافا لذلك، إن الأسباب المباشرة الكامنة وراء الصراعات العالمية هي في الحقيقة مدفوعة من قبل جهات حكومية تسعى إلى مسك زمام السلطة السياسية وتحقيق مصالحها الإستراتيجية. فخلال الحرب الباردة، كانت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران ودية جدا، وكان لكلا البلدين علاقات وطيدة تربطهما بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانا يقفان على الجانب نفسه من قضايا المنطقة.
فعلى سبيل المثال، تحالفت إيران والمملكة العربية السعودية والأردن خلال الحرب الأهلية اليمنية في الستينيات مع المغاوير الموالين للمملكة المتوكلية، في حين دعمت مصر والعراق وجمهوريات عربية أخرى ما يسمى بالجمهورية العربية اليمنية. وفي الوقت الذي قدمت فيه الجمهوريات العربية الدعم لنظرائهم الجمهوريين في اليمن، كانت المملكتان السعودية والإيرانية تدعمان نظراءهم الملكيين.
على الرغم من أن الإلهام الديني للثورة الإيرانية كان شيعيا بلا شك، إلا أن الجميع في شتى أنحاء الشرق الأوسط وآسيا رأوا أنها انتفاضة شعبية ضد الإمبريالية وضد نظام ملكي قمعي مدعوم من الغرب
لكن الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 غيرت هذه المعادلة. فخوفا من انتشار الإسلام السياسي في جميع أنحاء الخليج العربي الفارسي، ردت المملكة العربية السعودية من خلال استثمار موارد كبيرة من أجل تقويض جاذبية الثورة، وسعت إلى تصويرها على أنها ظاهرة شيعية فارسية بحتة، وشكل خارجي منحرف عن الإسلام. ونتيجة لذلك، شهدت فترة الثمانينيات تدهورا في العلاقات بين السنة والشيعة في جميع أنحاء المنطقة.
على الرغم من أن الإلهام الديني للثورة الإيرانية كان شيعيا بلا شك، إلا أن الجميع في شتى أنحاء الشرق الأوسط وآسيا رأوا أنها انتفاضة شعبية ضد الإمبريالية وضد نظام ملكي قمعي مدعوم من الغرب. لذلك، شعر السعوديون بالرعب من شبح الحركات الجماهيرية التي اتخذت من الإسلام السياسي شكلا لها، لمواجهة الممالك الأخرى المدعومة من الغرب في المنطقة.
لقد غذى الدعم السعودي القوي لصدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية هذا العداء. ومع نهاية تلك الحرب سنة 1988، خفت حدة التوترات بين طهران والرياض وتحسنت العلاقات بينهما، واستمر السلام البارد في معظم فترة التسعينيات. ثم جاء غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة سنة 2003، ليكون نقطة تحول فاصلة في الصراع السعودي الإيراني، وفي العلاقات الطائفية في جميع أنحاء المنطقة. وفي هذه الفترة، كان السعوديون يخشون من الغزو الذي أعقبه تنصيب حكومة عراقية بقيادة شيعية تربطها علاقات قوية بطهران.
إثر ذلك، بدأت مخاطر “الهلال الشيعي” بالترسخ، وبدأت المخاوف من صعود إيران تنمو شيئا فشيئا بين السنة في جميع أنحاء المنطقة. وقد وصل هذا الأمر إلى حد حث العاهل السعودي، عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، سنة 2008 الولايات المتحدة الأمريكية على “قطع رأس الأفعى” بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران.
العنف الطائفي يجتاح المنطقة، بينما تغذي حرب الهيمنة السعودية الإيرانية هذه الدراما القاتلة
يبدو أن الانتفاضات العربية خلال سنة 2011 قد أوقفت مؤقتًا التوجه الطائفي، إذ خرج السنة والشيعة معا في مسيرات في سوريا واليمن والبحرين، ورددوا نفس الشعارات، وتلقوا نفس المصير القمعي على أيدي حكوماتهم. لكن في كل من هذه الحالات، تحولت الحركات الشعبية التي ضمت مختلف الطوائف إلى صراعات طائفية. بتوخي سياسة “فرق تسد”، صوّرت الأنظمة الاستبدادية المحتجين على أنهم أعداء من الخارج يحملون أجندات متطرفة وطائفية. وعلى الرغم من أن هذه الرواية زائفة بشكل واضح، إلا أنها أصبحت نبوءة تحقق ذاتها وكانت لها نتائج مأساوية.
حاليا، إن العنف الطائفي يجتاح المنطقة، بينما تغذي حرب الهيمنة السعودية الإيرانية هذه الدراما القاتلة. فمنذ سنة 2015، ترتكب المملكة العربية السعودية فظائع في اليمن بشكل أسبوعي، من قصف للمستشفيات والمدارس والأسواق وحفلات الزفاف والجنازات والمناطق السكنية، مما أسفر عن مقتل الآلاف من المدنيين.
أما إيران، فهي متواطئة بشكل كبير في جرائم الحرب التي يرتكبها الرئيس بشار الأسد في سوريا، والتي تشمل التجويع المتعمد للسكان وقصف المرافق الصحية والمباني السكنية، والإصرار على استخدام الأسلحة الكيماوية. إن إيران لا تمثل الحليف الإقليمي الرئيسي لبشار الأسد فقط، وإنما تدعم أيضا تدفقا عابرًا للحدود من المقاتلين الشيعة إلى سوريا، وتخطط لمشروع ديموغرافي يقوم على مبادلة السكان على أسس طائفية من أجل تحصين نظام الأسد. لذلك، إن المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية كلاهما مسؤول عن هذه المذابح المروعة، وعن تعميق الصدع الطائفي في المنطقة.
في الواقع، إن الاتهامات السعودية لإيران بتدبير مخطط ملتوي للاستيلاء على العالم العربي ليست إلا مبالغات ذات مصلحة ذاتية، تغطي بشكل مناسب ما تفعله الرياض من مخالفات. ولكن سياسات إيران في سوريا تجعل هذه المزاعم مقبولة جدا لدى الكثير من السنة. وفي ظل هذه التجاذبات، أصبحت الطائفية كيانا قائما بذاته، وجب حصرها ومنع تفاقمها. ومن خلال المشاركة في الرواية الطائفية للمملكة العربية السعودية ودعم حربها في اليمن، فإن إدارة ترامب تساعد في ترسيخ هذه المعضلة.
على ضوء هذه المعطيات، قد يستغرق التخلص من تبعات الطائفية في سياسة المنطقة وقتًا طويلا قد يدوم لأجيال. لهذا السبب، يعد وقف الصراع السعودي الإيراني أمرا ضروريا لهذه العملية. ومن أولى الخطوات في سبيل تحقيق ذلك، الإقرار بحقيقة أن هذه الصراعات الأبدية وغير القابلة للتغيير ليست سوى أسطورة.
المصدر: نيويورك تايمز