في إطار استكمالنا لملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار“، الذي يتناول العديد من المماليك والسلطنات التي كانت سائدة قبل الغزو الأوروبي للقارة السمراء في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نسلط الضوء في تقريرنا الجديد على مملكة الزولو، إحدى أكثر الممالك تأثيرًا في جنوب القارة الإفريقية.
هذه المملكة التي حكمها شعب الزولو، الذي يُعدّ أكبر مجموعة عرقية في جنوب إفريقيا، تأسست في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وتحولت من مجموعة قبائل متفرقة إلى قوة سياسية وعسكرية هائلة تحت قيادة الملك شاكا.
في هذا التقرير، نغوص في تاريخ المملكة، وحروبها ضد المستعمر البريطاني، وأسباب انهيارها، وتأثيرها المستمر حتى يومنا هذا.
شاكا .. حكاية ملك
يعود أصل مملكة الزولو إلى عائلة النجوني التي كانت تعيش في إفريقيا الاستوائية وجنوب القارة الإفريقية وهي من الجماعات الناطقة بلغة “البانتو”، وكانوا يعيشون في بعض المساكن المتناثرة التي تؤلف كل مجموعة منها جماعة تخضع لأحد كبار السن.
تحولت هذه الجماعات إلى قبائل، وتحت وطأة الظروف الاقتصادية بدأت الحروب بينها حتى ظهر الملك شاكا على المسرح السياسي في القارة، وعمل على توحيد قبائل الزولو، نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، حيث تمكن من نقل الزولو من قبيلة مشتتة تضم قرابة الألفي محارب إلى قومية فعلية لها كيان سياسي وتقاليد دينية وثقافية، ودور مؤثر في حاضر ومستقبل جنوب القارة السمراء.
في يوليو/تموز 1787، أنجب زعيم قبيلة الزولو الشهير، سينزانكاخونا، طفلًا نتيجة علاقة غير شرعية مع امرأة تُدعى ناندي، في تلك الفترة، كانت تقاليد الزولو ترفض الاعتراف بالأطفال الذين يولدون لأمهات من خارج القبيلة، ما جعل هذا الطفل الذي يدعى شاكا يعيش منبوذًا في بداية حياته.
قضى شاكا جزءًا من طفولته في قبيلة والدته قبل انتقاله إلى قبيلة دليتشيني، وهي عشيرة فرعية من قبيلة ميثثوا القوية، وهناك، تم تجنيده في وحدة قتالية وخدم تحت قيادة الزعيم إنكوسي دينجيسوايو. وعندما اكتشف أن شاكا ينتمي للعائلة المالكة، عيّنه قائدًا على فوج، ما مكّنه من تطوير تكتيكاته واستراتيجياته العسكرية الفريدة.
اكتسب شاكا شهرة واسعة بفضل براعته في استخدام الرمح القصير، الذي كان سلاحًا قاتلًا في وقت كانت فيه القبائل تعتمد على أسلحة أقل فعالية، وبفضل تكتيكاته المبتكرة، مثل تكتيك “قرن الثور” (يشبه تكتيك الكماشة ابتكره الزولو في جنوب إفريقيا)، دمر قوات أعدائه في المعارك. وساعدت ساحة المعركة شاكا على إظهار مواهبه العسكرية وشجاعته الفائقة.
شكّل شاكا مجموعة من المقاتلين المخلصين الذين سرعان ما أصبحوا مصدر رعب للبلاد، وعقب وفاة دينجيسوايو عام 1817، انتقل شاكا جنوبًا عبر نهر ثوكيلا، معلنًا تأسيس مملكة الزولو، وأسس عاصمته بولاوايو في إقليم كوابي، المعقل التقليدي للزولو.
منذ البداية، حكم شاكا بقبضة من حديد، فكان يعاقب بالموت الفوري كل من يعارض أوامره، وإلى جانب ذلك، اشتهر بإصلاحاته وابتكاراته العسكرية وفطنته السياسية، ما ساهم في توسيع نفوذه وضم جيرانه إلى مملكته.
وأعاد تسليح مقاتليه عبر إدخال سلاح جديد يُعرف بـ”أسيغاي”، وهو رمح قصير ذو نصل عريض، يُستخدم للطعن في المعارك القريبة، حيث كانت عقوبة فقدان هذا السلاح الموت، ما دفع المحاربين للقتال بشراسة في مواجهات قريبة، كما منع استخدام الصنادل، وجعل المحاربين يركضون حفاة على الأرض الوعرة لتعزيز قدرتهم على التحرك بسرعة وكفاءة.
أسس شاكا نظام الفوج بناءً على الفئات العمرية، حيث تم توزيع المقاتلين في وحدات تعرف باسم “إمبيس”، وكانوا يحاربون في تشكيلات متقاربة، ما خلق شعورًا قويًا بالهوية المشتركة بينهم.
اعتمد في حروبه على تدمير أعدائه كوسيلة لبث الرعب، وكانت العديد من القرى تحترق وتتحول إلى أنقاض، وضم بقايا القبائل التي هزمها إلى قبيلته، ما ضاعف عدد الزولو وجيشهم أربع مرات في أقل من عام، وخلال فترة حكمه، اجتمعت أكثر من مائة قبيلة في مملكة الزولو.
أهم معارك شاكا كانت “الحرب الندواندوية الزولوية“، التي خاضها عام 1818 (معركة تل غكوكلي)، حيث تفوقت مملكة الزولو على قبيلة ندواندوي، وبعد عامين، انتصر الزولو مجددًا على نفس القبيلة في معركة نهر مهلاتوز.
هذا الانتصار أدى إلى تفكك التحالف الندواندوي، ما دفع بالعديد من القبائل إلى الهجرة شمالًا وشرقًا، في موجة من الهجرات القسرية عُرفت باسم “مفيكين”، التي خلفت دمارًا واسعًا وأدت إلى سيطرة الزولو على معظم الأراضي في جنوب إفريقيا، وتشير بعض المراجع إلى أن شاكا تسبب في وفاة أكثر من مليون شخص خلال فترة حكمه.
خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز العشر سنوات بعد هزيمة الندواندوي، استمر جيش شاكا في شن حروب توسعية، ما أدى إلى تجريد المناطق المجاورة من مواردها، وكانت القبائل التي تقاوم تُدمر أو يُطرد أفرادها كلاجئين، بينما القبائل المستسلمة تُمنح حكومات محلية بقيادة الزعماء التقليديين أو أفراد يعينهم شاكا.
بعد هزيمة المجتمعات التي واجهها شاكا ونهبها، توسعت مملكة الزولو لتصبح أقوى قوة عسكرية في جنوب إفريقيا، وأنشأ عاصمته الأولى “كوابولاوايو” على ضفاف نهر مهلاتوز، وكانت واحدة من أكبر التجمعات الحضرية في إفريقيا، حيث احتوت على ما يقرب من 1500 كوخ وساحة عرض كبيرة محاطة بسياج يمتد لعدة كيلومترات.
بحلول سنة 1825، وسع الزولو أراضيهم من 100 ميل مربع إلى حوالي 11500 ميل مربع، واجتاحوا كل القبائل التي عارضتهم في الشمال والجنوب والغرب.
في أكتوبر/تشرين الأول 1827، توفيت والدة شاكا، ناندي، ما دفعه إلى حالة من الجنون أدت إلى اتخاذه قرارات قاسية ومروعة، فأعدم المئات ممن حضروا جنازة والدته بتهمة عدم إظهار الاحترام الكافي، وأمر بقتل العديد من الخدم والحراس ليدفنوا بجانبها لخدمتها في العالم الآخر.
كما أصدر قرارات غريبة شملت منع زراعة القمح وإنتاج الحليب لمدة عام، وفرض قانونًا صارمًا يقضي بإعدام النساء الحوامل وأزواجهن وحتى البقرات الحوامل وصغارها، ما أدى إلى نقص حاد في الغذاء وانتشار المجاعة التي تسببت في هلاك عشرات الآلاف من سكان مملكة الزولو، وفي 22 سبتمبر/أيلول 1828، استغل إخوانه غير الأشقاء غياب قواته عن العاصمة لاغتياله وإنهاء فترة حكمه.
تقاليد الزولو
على الرغم من أن شعب الزولو كان معروفًا بحبه للحروب والقتال، إلا أنه لم يغفل عن الجانب الفني والثقافي، فقد اشتهر بأعماله المصنوعة من الخرز وصناعة السلال، كما نُسبت إليه بعض المنحوتات الصويرية التي تعكس إبداعه.
كما كانت أزياؤه الحربية وملابسه مدروسة بعناية، فكانت تتألف من تنورات قصيرة مصنوعة من جلود الحيوانات مثل النمور والثيران، وغالبًا ما كانت تغطي الجزء السفلي فقط، إضافة إلى الرمح المسنن والسهام التي تُصنع من أشجار مختارة بعناية.
في بداية تأسيس المملكة، كان الزولو وثنيين يؤمنون بأرواح الأسلاف، والذين كانوا يعتقدون أن لهم القدرة على التدخل في حياة البشر، بالإضافة إلى تقديسهم للإله “أونكلو نكولو” الذي يعدّونه الأب الروحي الذي علمهم الصيد وإشعال النار. كما كان السحر جزءًا مهمًا من تقاليدهم، حيث كانوا يعتمدون عليه للتواصل مع الأرواح.
من طقوسهم السنوية تقديم التضحية بثور تكريمًا لخالقهم وأسلافهم، حيث يواجه المحاربون الشباب ثورًا ليثبتوا شجاعتهم، وعند قتله يُعتقد أن قوة الثور تنتقل إلى ملك الزولو.
كانت عادة تعدد الزوجات جزءًا من تقاليد الزولو التي تستمر حتى اليوم، إذ يمكن للرجل أن يتزوج بأكثر من 40 امرأة، ويختار عشيقته بحرية، ويُقدّم المهر عادة في شكل أبقار يتراوح عددها بين 11 و24، يتولى الرجال رعاية المواشي والمشاركة في الحروب، بينما تتحمل النساء مسؤوليات الزراعة والطبخ وأعمال المنزل.
طقوس الموت لدى الزولو تحمل دلالات خاصة، حيث لا يتم دفن الميت مباشرة، بل يتم الانتظار 6 أيام لإعلان الخبر للجميع، وعند الدفن، يتلو أحد الكهنة الصلوات على الميت، وتُقام رقصات وأهازيج وداع حول القبر لإخبار الميت بما يجري من أحداث لإسعاده وتهدئة روحه.
نتيجة للحروب التي خاضتها مملكة الزولو، تطور الاقتصاد بشكل ملحوظ وزاد الثراء بين أفراد المجتمع، خاصة في مجال تربية الماشية التي كانت مصدر فخر كبير للزولو، ورغم أن معظم القطعان كانت مملوكة للملك ورجاله، فإن الجميع شارك في رعايتها.
الصراع الأول
رغم بطش شاكا الشديد في الحروب، أبدى حسن نية في البداية تجاه الأوروبيين، إذ منحهم أراضٍ داخل مملكته ليعيشوا في سلام دون تدخل منه، ما سمح له بالتعرف على أساليب حياتهم والاستفادة من خبراتهم.
هذا التبادل أدى إلى ازدهار التجارة بين الزولو والأوروبيين، لكنه مكن الأوروبيين أيضًا من التوسع والاستيلاء على أراض واسعة داخل المملكة، ما أثار غضب العائلات الأرستقراطية التي شعرت بالتهديد من الوافدين الجدد.
أول الأوروبيين الذين قدموا إلى مملكة الزولو كانوا الهولنديين، الذين كانت نيتهم تأسيس دولة هولندية على أراضي الزولو، فاندلع صراع دموي بين الطرفين فيما عُرف بمعركة “نهر الدم” في ديسمبر/كانون الأول 1838، وانتهت بانتصار الهولنديين، رغم التفوق العددي للزولو.
نجح البوير، وهم أحفاد المستوطنين الهولنديين الذين أسسوا أول مستوطنة في جنوب إفريقيا عام 1652، في الاستيلاء على الأراضي التي أرادوها، قبل أن يتمكن الزولو من استعادتها بعد سنتين.
بعد نصف قرن، واجه الزولو تهديدًا جديدًا تمثل في الاستعمار البريطاني، في ديسمبر/كانون الأول 1878 طلب السير هنري بارتل فرير من ملك الزولو آنذاك سيتشوايو حل جيشه وقبول مقيم بريطاني في المملكة، ليجنبوا أنفسهم الغزو، لكن الزولو رفضوا هذا الطلب.
أمر السير هنري بارتل فرير بغزو مملكة الزولو عام 1879، وكانت الكارثة العسكرية تنتظرهم، إذ تلقى البريطانيون هزيمة ثقيلة في معركة إيساندلوانا يوم 22 يناير/كانون الثاني 1879 وقتل جيش الزولو أكثر من 1300 جندي بريطاني مسلحين ببنادق حديثة ومدفعية في يوم واحد.
هذه الخسارة اعتبرت الأكبر في صفوف الجيش البريطاني منذ الانتفاضة الهندية عام 1857، وكانت أسوأ هزيمة يتكبدها البريطانيون على أيدي قوة إفريقية محلية، ما أدى إلى سقوط حكومة دزرائيلي وأثبتت أن الجيش البريطاني ليس منيعًا كما كان يُعتقد.
انهيار الإمبراطورية
لم تثن هزيمة البريطانيين في معركة إيساندلوانا من خططهم للسيطرة على مملكة الزولو، إذ جددوا خططهم وطوروا تكتيكاتهم الحربية واقتصروا في البداية على مواجهات صغيرة للتغلغل في المملكة والسيطرة على أراضيها.
بلغت المعارك ذروتها في حصار أولوندي، التي كانت آنذاك عاصمة الزولو، وتمت هزيمة المملكة والقبض على حاكمها سيتشوايو بعد شهر من هزيمته، ثم نُفي إلى مدينة كيب تاون، ومن ثم نقل البريطانيون حكم مملكة الزولو إلى 13 “ملكًا صغيرًا”، لكل منهم مملكته الفرعية الخاصة، حتى يضمن عدم اتحاد المملكة مرة أخرى.
نجح البريطانيون في خططهم، إذ سرعان ما اندلع الصراع بين هذه الممالك الفرعية، وفي عام 1882، سُمح لسيتشايو بزيارة إنجلترا، وكان له لقاءات مع الملكة فيكتوريا وشخصيات شهيرة أخرى قبل السماح له بالعودة إلى زولو لإعادة تعيينه ملكًا، لكن على منطقة أصغر بكثير من مملكته الأصلية.
لم يأمن سيتشوايو “الخيانة”، حيث تعرض سنة 1883 لهجوم في أولوندي من قبل زيبهيبو، أحد الملوك الـ13، وفي فبراير/شباط من السنة التي تلت الهجوم مات الملك ويقال إنه مات مسمومًا، ورث ابنه دينوزولو، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 15 عامًا، العرش.
تحالف الملك الجديد دينوزولو مع البوير الهولنديين ووعدهم بالأرض مقابل مساعدتهم له في حربه ضد باقي الملوك، وهو ما أثار قلق البريطانيين الذين أرادوا منع البوير من الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، فقرروا ضمّ زولولاند إليهم في سنة 1887.
في سنة 1887، انتهى الحكم الفعلي لمملكة الزولو، لكن نسلهم متواصل إلى اليوم وتعاملهم السلطات المتعاقبة في جنوب إفريقيا بوصفهم جزءًا أساسيًا من الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، ويتم استشارهم في شؤون تسيير الدولة وتصرف لهم رواتب وامتيازات كبيرة تصل إلى 66 مليون دولار سنويًا.
على الرغم من انهيار المملكة، ظل شعب الزولو جزءًا مهمًا من الحياة السياسية والاجتماعية في جنوب إفريقيا، واستمرت المملكة شكليًا، حيث تم تتويج ميسوزولو كا زويليثيني ملكًا للزولو في أغسطس/آب 2022، رغم أن هذا المنصب لا يتمتع بسلطات سياسية رسمية.