وارى جثمان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، ومرافقه وسيم أبو شعبان، الثرى، اليوم 2 أغسطس/آب، داخل مقبرة الإمام الموسس في لوسيل بالعاصمة القطرية الدوحة، بعدما أقيمت صلاة الجنازة عليهما في مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، أكبر مساجد قطر، عقب صلاة الجمعة، وياله من شرف لقطر والقطريين أن يحتضن تراب بلدهم جثمان تلك القطعة الطاهرة من فلسطين، كما قال التلفزيون الرسمي القطري.
وشارك في مراسم التشييع عدد من القادة والمسؤولين من مختلف دول العالم، على رأسهم أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، ووالده، ووزير خارجيته، والنائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا عارف، ونائب الرئيس التركي ووزير الخارجية ورئيس البرلمان، ورؤساء وقادة الكثير من المنظمات الإسلامية، بما يعكس الرمزية والثقل الهائل للقضية الفلسطينية، التي يمثلها اليوم هنية، في وجدان العالمين العربي والإسلامي
ووصل جثمان الشهيد ومرافقه إلى العاصمة القطرية مساء الخميس الأول من أغسطس/آب، بعد مراسم تشييع رسمية وشعبية حاشدة في إيران، حيث أمّ المرشد الإيراني صلاة الجنازة على جثمانه صباح ذات اليوم، بمشاركة عدد كبير من الأشخاص والمسؤولين، بمن فيهم الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان.
وكانت حماس وإيران قد أعلنتا صباح الأربعاء 31 يوليو/تموز، اغتيال هنية وحارسه في غارة جوية إسرائيلية استهدفت مقر إقامته بطهران، غداة مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، وسط تباين بشأن عملية الاستهداف وما إذا كانت عبر صاروخ من خارج إيران أو من خلال قنبلة زُرعت في مقر ضيافته وتم تفجيرها عن بعد.
مشاركة واسعة ودعوات لأداء صلاة الغائب في كل مساجد العالم
منذ ساعات الصباح الأولى لهذا اليوم، ورغم درجات الحرارة المرتفعة (44 درجة) بدأت الوفود الشعبية من كل الجنسيات والأعراق تتجه صوب جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب، شمال وسط العاصمة الدوحة، للمشاركة في صلاة الجنازة وبدء مراسم التشييع، مرتدين الكوفية الفلسطينية ورافعين أعلام فلسطين، في مشهد يحمل الكثير من الرسائل والدلالات بشأن ما تتمتع به القضية الفلسطينية من زخم كبير.
ولم يتمكن المسجد الذي أنشئ عام 2011 وتبلغ مساحته 175 ألف متر مربع ويسع لنحو 30 ألف مصل، من استيعاب الأعداد الغفيرة التي ذهبت للمشاركة في مراسم التشييع، ما أضطر الآلاف منهم للصلاة في الخارج والوقوف في الشوارع المتاخمة في تلك الأجواء المناخية الملتهبة.
وفي السياق ذاته دعت حركة حماس في بيان لها، جميع المسلمين في مختلف دول العالم إلى “أداء صلاة الغائب على روح القائد الشهيد إسماعيل هنية، بعد صلاة الجمعة، في كل المساجد، وفاءً له ولرسالته ولدماء الشهداء”، مضيفة: “ولتنطلق مسيرات الغضب من كل مسجد، تنديدًا بجريمة الاغتيال الجبانة، وإدانة لتواصل حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة، ودفاعًا عن أرضنا وقدسنا والمسجد الأقصى المبارك”.
وتعكس المشاركة الشعبية والسياسية الهائلة في جنازة هنية، سواء في طهران أم الدوحة، ثقله السياسي المؤثر وجماهيريته الجارفة، إذ كان يتمتع بحب واحترام الجميع، كونه قائدًا وطنيًا قضى حياته جلها في الدفاع عن قضية بلاده، مضحيًا لأجلها بالمال والولد والنفس، مستبسلًا في الزود عن كرامة وعزة شعبه حتى الرمق الأخير من حياته.
صوت الاعتدال المحبوب
لم يعرف العالم خلال السنوات الأخيرة جنازات بهذا الزخم وذاك الحضور الشعبي، فمن المرات النادرة أن يجتمع العرب والعجم والفرس والترك على حب شخص بهذه الكيفية، وهو اعتراف رسمي وعلني بقيمة هذا الرجل وحضوره وثقله وأخلاقياته التي أسرت قلوب الجميع إلا العدو المحتل وذيوله وجرذانه، وهذا شرف لا يناله إلا المخلصون.
كان يُنظر لهنية على أنه صوت الاعتدال داخل حركة حماس، وحلقة الوصل الدبلوماسية بين الحركة ومختلف دول العالم، والمتحدث اللبق الوازن المتزن باسم القضية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي، لذا استحق كل هذا الحب الذي تجسد اليوم والأمس في مراسم التشييع التي شهدت مشاركات شعبية وجماهيرية لم تشهدها جنازات قادة كبار دول العالم.
ويشاء القدر أن يفضح هنية باستشهاده هذا أكاذيب وأباطيل المتصهينين العرب نقلًا عن الإسرائيليين، والقائمة زورًا وبهتانًا على تشويه صورته عبر اتهامه بالهروب من ميدان القتال، والإقامة في الفنادق الفارهة، تاركًا الشباب الفلسطيني يواجه مصيره المحتوم، ليدفع الرجل قبل وفاته الثمن باهظًا، حيث استشهد أبناؤه وأحفاده في غزة قبل أسابيع قليلة، ثم استشهاده شخصيًا اليوم، ليضرب بكل سرديات الصهاينة، الإسرائيليين والعرب، عرض الحائط بالقول والفعل.
المقاومة على العهد
يأتي استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس متزامنًا مع مرور 300 يوم على حرب غزة، تلك الحرب التي قدمت فيها المقاومة أداء بطوليًا غير متوقع رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات جراء سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها الاحتلال بعد الفشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة التي على رأسها القضاء على حماس وتحرير الأسرى.
ورغم رمزية هنية وثقله السياسي والنفسي داخل الحركة، وتربية أجيال كاملة من شباب المقاومة على مبادئه وأفكاره، واستلهام الصمود والمثابرة والقوة من شخصيته وعقليته الاستثنائية، وإيمانه المطلق بالقضية والرسالة، واعتبار فقدانه خسارة كبيرة بلا شك، غير أن ليس كل خسارة لا بد أن يتبعها انزلاق.
ويؤمن المقاومون وداعمو القضية الفلسطينية والمؤمنون بالرسالة والهدف أن الأفكار لا تموت بموت أصحابها، وإلا لماتت القضية بموت الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وصالح العاروري ويحيى عياش وأحمد الجعبري وجمال منصور، وغيرهم العشرات الذين ضحوا بحياتهم لإبقاء جذوة المقاومة متقدة.
وعليه فمن المتوقع أن يشعل استشهاد هنية ومن قبله أبنائه وأحفاده نيران الحماسة في صدور المقاومة، ويمنحها القوة الدافعة لاستكمال ما مات عليه الشهيد ومن سبقوه، وكما قال البعض “لولا استشهاد أحمد ياسين لما شهدنا بأس إسماعيل هنية وبلاءه، ولولا استشهاد صلاح شحادة لما عرفنا محمد الضيف ورأينا صنيعه، ولولا استشهاد الرنتيسي لما ذاقت إسرائيل بأس السنوار”.
العالم يترقب.. ماذا بعد الدفن؟
السؤال الأبرز الذي بدأ يفرض نفسه بعد مواراة جثمان هنية ورفيقه الثرى.. ماذا بعد الدفن؟ هل تذهب تلك الجريمة هكذا سدى دون رد يتناسب وحجم تلك الخسارة الكبيرة؟ هل تُترك دولة الاحتلال تمارس تلك العربدة دون محاسبة أو ردع؟ هل يكون الرد على مستوى ثقل المستهدف ورمزيته، أم سيكون رمزيًا مسرحيًا كما حدث في أبريل/نيسان الماضي؟ تساؤلات يتم تداولها بشكل أو بآخر على ألسنة الجميع، الحلفاء والخصوم معًا، وسط تصاعد المخاوف من اندلاع حرب شاملة.
وترتكز تلك المخاوف على التهديدات شديدة اللهجة والخطاب التصعيدي الصادر عن السلطة الإيرانية وحزب الله في آن واحد، حيث قال رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، محمد باقري إنّ إيران “تدرس حاليًا مع محور المقاومة طريقة الثأر لدماء رئيس المكتب السياسي لحماس”، هذا في الوقت الذي قالت فيه صحيفة “نيويورك” تايمز إن المرشد الإيراني أمر بتوجيه ضربة مباشرة إلى “إسرائيل”، حسبما نقلت عن 3 مسؤولين إيرانيين.
أما على الجانب اللبناني، فتوعد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله “إسرائيل” بالرد الرادع، الذي “سيأتي حتمًا ولا نقاش في هذا ولا جدل”، مضيفًا في كلمة له أمس الخميس، أن الحزب يبحث عن “رد حقيقي وفرص حقيقية من أجل تنفيذ رد مدروس جدًا”، لافتًا إلى أن المواجهة الآن لم تعد من باب المساندة للمقاومة في غزة لكن الحزب بات طرفًا أساسيًا في المعركة مع الاحتلال.
وأمام خطاب التهديد الإيراني اللبناني، الناجم عن الوضعية الحرجة للطرفين ووضع هيبتهما الإقليمية على المحك، هناك جهود دبلوماسية مكثفة تبذلها بعض القوى الدولية لتخفيف حدة التوتر ومحاولة إثناء طهران وحزب الله عن الرد أو على الأقل ضمان ألا يتجاوزا الخطوط الحمراء، تجنبًا لانزلاق المنطقة نحو آتون حرب مفتوحة.
وهكذا يودع هنية بجسده تلك الحياة، بعدما أدى واجبه وعاش على العهد الذي مات عليه، لتبقى أفكاره ومسيرته البطولية جذوة تشعل ثورة النضال في نفوس الفلسطينيين، جيلًا بعد جيل، حتى تحقيق التحرير والاستقلال الكامل، التزامًا بشعاره الذي عاش ومات في سبيله “لو خضعت كل الدنيا، لن نعترف بإسرائيل”.