سنضطر إلى سؤال المتنبي مرة أخرى بأي حال عدت يا رمضان؟ فالقلوب المؤمنة الخيرة تشاهد غزة ولا تستطيب العسل، فالعجز عن النصرة مهين، لكن الجميع ينخرط في سوق رمضان، فرمضان صار سوقًا لسلع مختلف ألوانها لكنها استهلاك تفاخري في كل التفاصيل، وربما في صلوات التراويح أيضًا، فبعض التعبد مهرجان حضور والله أعلم بالسرائر.
لكن المهرجانية طاغية، وثمة خطاب في تونس نسمعه في كل رمضان هو البكاء على رمضان زمان في بابا سويقة، انتقل الناس إلى ألف مقهى جديد وإلى ألف مطعم في الضواحي الجديدة، وهناك يتمتعون بسهراتهم الرمضانية وينفقون مالا لبدا ثم يبكون على كافيشانطا بابا سويقة، ثمة حنين مرضي أصولي الروح إلى القديم المتهالك في ذات الوقت الطموح إلى عيش مختلف، هذه التناقضات تجعل رمضان يعود بغلاف تراثي من زمن الانحطاط السياسي والثقافي ولا يفلح المتعبدون في هذه السوق في فرض رمضان موعظة وشكر وتأمل إيماني.
رمضان الحنين الأصولي
رمضان نسخة واحدة تسحب كل سنة، فيعود القديم بصيغته الثابتة وربما لا تتغير إلا أسعار المواد الغذائية، هناك أصوليتان تختصمان في رمضان.
أصولية تعبدية تروج لرمضان بصفته خلاصًا نهائيًا وتنتج خطابًا مشابهًا لخطاب آخر حول الحج الذي ينظف المرء من كل الآثام، يفرط هذا الخطاب في الإغراء بالتعبد المنقذ من الظلال ويتسلح بأدوات دعوية توجع ضمير غير المتعبدين، فيجدون في أنفسهم شعورًا قاسيًا بالإثم لأن التعبد لم يكن مطابقًا لمبالغات الخطاب الدعوي، فتنتج ردات فعل نكوصية هاربة من الإفراط في التعبد إلى التعبد بما يتيسر والسخرية من الإفراط المنفر.
عندما كان المستعمر يحتل العاصمة وكانت أماكن لهوه ممنوعة على التونسيين خاصة غير الناطقين بلغة المستعمر، ظهرت مقاهي التونسيين اللاهية مستنسخة في الغالب على شاكلة ملاهي الفرنسيين
حمل الناس بالإفراط ينتج التفريط، وهذا عمل يتكرر في كل رمضان خاصة بعد ازدهار وسائل الاتصال الحديثة، فبعد الإذاعة الوعظية حلت التلفزة ثم حلت وسائل التواصل الاجتماعي التي تقتحم على المرء بيته الحقيقي وبيته الافتراضي، فيجد نفسه بين تأثيمين يرفض فيكفّر أو يقبل فيستنقص تعبده.
هذه إحدى تمظهرات الدعوة التي لا تراعي أخذ الناس باللطف وإرشادهم لا إجبارهم، وتعج كثير من المساجد بخطابات مماثلة، وفي تونس يقع في هذا الخطاب الأصولي المتشدد حتى الأئمة الذين ينتسبون إلى الجهاز الرسمي (أي غير المتهمين بالإرهاب)، فما دام الخطاب غير سياسي مباشر ولا يروج لحزب إسلام سياسي فلا أحد يراقب مضمونه الأصولي.
أصولية ثانية تعيش في آخر صرعات الاستهلاك التفاخري وتعيش بآخر منتجات الثقافة الرقمية، ولكنها تروج لخطاب آخر يملأه الحنين إلى رمضان زمان، ماذا كان في رمضان زمان مثلاً؟
عندما كان المستعمر يحتل العاصمة وكانت أماكن لهوه ممنوعة على التونسيين خاصة غير الناطقين بلغة المستعمر، ظهرت مقاهي التونسيين اللاهية مستنسخة في الغالب على شاكلة ملاهي الفرنسيين، فكانت الكافيشانطا (Le café chantant) حيث تقدم عروض رقص ماجنة بمقابل، ويحضر الناس ويعيشون الضجة الليلة حول تلك المقاهي، طبعًا لم يخرج من تلك المقاهي فن شعبي يحمل روحًا نضالية ضد المستعمر يمكن مقارنته مثلاً بفن سيد درويش في مصر أو بأزجال بيرم التونسي، كان فنًا أقرب إلى المجنون الذي يروج لتخفيف عبء الصوم على الصائمين بما يقرن الآن في أذهان متلقي هذا الخطاب صورة رمضان الماجن ليلاً النائم نهارًا.
هذه الأصولية تعود كل رمضان وهي أصولية مسيطرة على إنتاج الثقافة في تونس، لذلك أعادت إحياء إحدى أهم مغنيات الكافيشانطا وملاهي الليل وهي المغنية حبيبة مسيكة (يهودية تونسية) المشهورة بخلاعتها في الفن (إنتاج فيلم ممول من الدولة ومن جهات فرنكوفونية) وهي نفس الجهات التي أعادت إحياء وترويج صورة أحد عتاة الخارجين عن القانون وصنعت منه أسطورة بطل شعبي، جاذبة اهتمام المتابعين إلى الهوامش ضمن مشروع واع بنفسه، هو إبقاء التونسيين في تاريخهم المنحط عبر التسويق لأن ذلك هو المتاح الوحيد أو الوجه الوحيد القابل للبقاء.
هذه الأصولية المالكة لقدرات مالية وإعلامية تعجز في كل رمضان عن تجديد خطابها وغرس مخيال جديد مختلف يمكن أن يجابه فعلاً الأصولية الدعوية بصورة رمضان غير خليع وغير متشدد.
خلصنا من فوازير رمضان فقد شاخت نيللي(أو رحمها الله) وانكسر ظهر شريهان (شفاها الله) لكن احتلتنا الكاميرا الخفية وأكل رامز الجو بمال خليجي وفي كل تلهية وفي كل بناء صورة عن رمضان اللاهي الماجن الكسول نهارًا
صراع الأصوليات يكرر رمضان
يمكن تنويع مظهر عمل الأصوليين عربيًا، فالمتشددون يحملون الناس في رمضان إلى القرن الأول للهجرة ويقدمون صورة مجتمع ملائكي لقوم يجاهدون في سبيل الله وينشرون دعوة نبيه، منذ أربعين سنة تقريبًا وصناعة المسلسلات التاريخية تنتشر وتأخذ حيز فرجة كبير في رمضان فيرد عليها بمسلسلات أخرى يقال لها اجتماعية.
يبدأ الترويج قبل رمضان ثم تغرق الأسر في الفرجة من الظهر إلى السحور، تخمة ارتبطت برمضان نتاجها انغماس الناس في فردانيتهم وعزلتهم وانتهاء رمضان اللقاءات العائلية والتزاور والإفطارات الجماعية التي يمكن أن تجسد روح رمضان الاجتماعي غير الدعوي المتشدد وغير الماجن، مثلما بدأ ينتشر لدى الجاليات المسلمة المهاجرة إلى الغرب بتأثير كبير من تقاليد الأتراك التي عادت مع سيطرة حزب العدالة والتنمية على بلديات تركية وإعادة إحياء نشاط رمضان الاجتماعي.
لقد تخلصنا من فوازير رمضان، فقد شاخت نيللي (أو رحمها الله) وانكسر ظهر شريهان (شفاها الله) لكن احتلتنا الكاميرا الخفية وأكل رامز الجو بمال خليجي، وفي كل تلهية وفي كل بناء صورة عن رمضان اللاهي الماجن الكسول نهارًا، فلا شك أن هذا الكم من الاستهلاك الفرجوي ينيم عقولاً كثيرة تنسى أنها تعمل في النهار.
هل يمكن انقاذ رمضان من التجار؟
لا تتوفر رغبة لدى التجار في إنهاء التجارة، ففي كل ربح وفير ورمضان تجارة مزدهرة لكل شيء، تحريض الاستهلاك الغذائي لا يختلف عن غيره، وهنا لا تختلف مناسبة دينية عن مناسبة أخرى مثل عيد الحب، حين يتضاعف ثمن الوردة عشرة أضعاف وتنتشر الشيكولاتة المغشوشة، لقد استولى التجار (تجار البيض كما تجار الثقافة كما تجار الجنة) على المناسبة وكل يروج لما يربحه، كيف يمكن إنقاذ رمضان من التجار؟
أنا ممن يعتقد أن رمضان فرصة للسعادة دون مسلسلات ودون إفراط في الحلوى، ولذلك لا أشعر أن رمضاني هذا يشبه ما سبقه والله أعلم بالسرائر
لا بد من تيار ثالث لا يخجل من التعبد ولا يشعر بالإثم لأنه لم يصل إلى الجنة في رمضان، جيل لا يعتبر رمضان فرصة للقمار والسهر اللاهي فقط والتنفيس ليلاً عن الكبت في النهار، جيل يؤمن ولا يفرط ويتمتع ولا يفرط، جيل يمر ببرنامج تربوي خارج الأصوليات المشار إليها أعلاه.
هل هذه حلول مثالية؟ نعم هي طريق طويلة تحتاج التجرد من التاجر لاكتشاف المؤمن السعيد، هل يوجد مؤمن سعيد؟ أنا ممن يعتقد أن رمضان فرصة للسعادة دون مسلسلات ودون إفراط في الحلوى ولذلك لا أشعر أن رمضاني هذا يشبه ما سبقه والله أعلم بالسرائر.