نالت القضية الفلسطينية وأحداثها المريرة على نصيب وفير من كتابات الشعراء الفلسطينيين، فسجل كل منهم وقائع وحقائق مختلفة، إذ نجحت هذه الأشعار بتلخيص الحالة الفلسطينية والذاكرة الجماعية الشعبية، وبالرغم من أنها كُتِبت منذ عقود طويلة، إلا أنها استطاعت أن توثق أحداث الماضي والحاضر والمستقبل، فغالبية الشعراء تمتعوا ببصيرة ساعدتهم على تصور الوضع الفلسطيني تباعًا على ما مروا به من انتهاكات وخيبات متواصلة.
جدير بالذكر أنه تم غناء بعض هذه الأشعار؛ ما ساهم في انتشارها على أوسع نطاق، مع ضرورة الإشارة إلى أن هؤلاء الشعراء لم يكتفوا بالمقاومة بالقلم فقط، فلقد حاربوا العدو الإنجليزي والإسرائيلي على الجبهات بالسلاح، ومنهم من ارتقى شهيدًا للوطن، ليجمعوا بين القول والفعل.
عبد الرحيم محمود.. عن ضياع الأقصى وخذلان العرب للقضية الفلسطينية
اشتهر هذا الشاعر بسبب قصيدته “نجم السعود” التي ألقى ببيت منها أمام سعود بن عبد العزيز -ثاني ملوك المملكة العربية السعودية- خلال زيارته لفلسطين عام 1935، فقال له “أجئت تزور الأقصى؟ أم جئت تودعه قبل ضياعه؟”، ومنذ ذاك الوقت، وصِف عبد الرحيم ببعد النظر وبحسه الوطني الذي استطاع أن يستقرأ خذلان الحكام العرب للشعب الفلسطيني وقضيته، وتنبأ ما ستؤول إليه الأمور في البلاد بسبب الموقف العربي المتهاون.
وفي واقعة سابقة، كتب عبد الرحيم عن وعد بلفور في قصيدتين، الأولى تحمل اسم الوعد، والثانية باسم عيد الجامعة العربية، وأظهر فيهما غضبه من إغفال الأمة لوضع الشعب الفلسطيني ولامهم على محالفة العدو ونبهم من منح اليهود حق التملك في الأرض وهدد في المقابل المستعمر الإسرائيلي من أطماعه في فلسطين.
بلفور ما بلفور ماذا وعد
لو لم يكن أفعالنا الإبرام
إنا بأيدينا جرحنا قلبنا
وبنا إلينا جاءت الآلام
لم تكن هذه التهديدات عبارات مصفوفة في قصائده، فلقد عرف عبد الرحيم بشجاعته واستعداده الدائم لمواجهة العدو، ولذلك التحق بالكلية الحربية في بغداد وتخرج ضابطًا برتبة ملازم، وذهب إلى بيروت والشام ليتلقى التدريبات العسكرية، وعلى إثر هذه التجارب؛ شارك في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 والحرب العربية ضد “إسرائيل” بعد رفض قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، ويوم النكبة، ليستشهد في النهاية في معركة الشجرة في عام 1948 وعمرة 35 عامًا؛ تاركًا 27 قصيدةً للأدب الفلسطيني وتاريخه.
راشد حسين.. عن قانون الغائب ومصادرة الأراضي الفلسطينية دون حق
حمل هذا الشاعر اسم الغائب الحاضر وهي صفة أطلقها القانون الإسرائيلي عام 1950 على اللاجئين الفلسطينيين خلف الخط الأخضر أو في الدول العربية، وهو واحد من أهم مظاهر الصراع الفلسطيني الصهيوني والذي نتج عنه حالات طرد وإخلاء واسعة أسفرت عن استيلاء القوات الإسرائيلية على ما يزيد عن ربع مليون دونم من أراضي المواطنين الفلسطينيين الذين ظلوا في الأرض المحتلة بعد النكبة.
وبموجب هذا القانون، صادرت حكومة الاحتلال بعض الأملاك الدينية وكأن مالكها غائبًا أيضًا، وكانت هذه الانتهاكات عبارة عن استخفاف “إسرائيل” في مقدسات الأديان الأخرى، ولأنها صادرت أملاك كثيرة دون حق، كتب الشاعر راشد قصيدته “الغائب” التي غنتها لاحقًا الفنانة الراحلة ريم بنا، مع استبدال لكلمة الغائب باللاجئ.
الله أصبح غائباً يا سيدي.. صادر إذاً حتى بساط المسجد
وبع الكنيسة فهي من أملاكه.. وبع المؤذن في المزاد الأسود
وأطفئ ذبالات النجوم فإنها.. ستُضيءُ درب التائه المتشرد
حتى يتائمانا أبوهم غائب.. صادر يتائمانا إذاً يا سيدي
لا تعتذر! من قال أنكَ ظالمٌ لا تنفعلْ! من قال إنك معتدي؟
يعد راشد من أهم أدباء المقاومة الفلسطينية، وكما هو الحال مع بقية الشعراء، مارس المقاومة وانضم إلى الحركات النضالية لمواجهة “إسرائيل” وأظهر بكتاباته تمرده وغضبه على التمدد الصهيوني في الأراضي الفلسطيني وكتب عبارات يردده الفلسطينيون في ذكراه وفي غالبية المناسبات الوطنية، مثل “سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر- أن الشعوب إذا هبت ستنتصر”.
والمثير للاهتمام، بأن راشد لم يمتنع عن ذكر وطنه وأزمته حتى داخل قصائد الحب والغزل، فدمج بين الحكايتين بشكل جذاب وممتع، فكتب في قصيدته “رسالة من المدينة”:
وَسِرْتِ بَعِيدَاً ورأسكِ نَحْوِي
وفي النظراتِ معانٍ سخيـةْ
وشوقٌ بعينيـكِ أنْ ترجعي
كأشـواقِ لاجئةٍ يَافَوِيَّـةْ
كما ركز الشاعر في كتاباته على مآسي اللاجئين وأحوالهم في الغربة، ملخصًا المآسي الإنسانية وحالة التشرد التي عاشها الفلسطينيون في خيام وكالة الغوث، فقال:
لن تصير الخيمة السوداء في المهجر قصرا
وصديد الجرح والإعياء لن يصبح عطرا
وجيوش القمل لن تصبح أغنامًـا فتقرى
ودموع اليتم لن تصبح للأيتام خمرا
وثمة فتاة بين الخيام ماتت ولم يسعفوها:
دفنوها في ظلام الليل سرًا دفنوها
لينالوا مؤن الطفلة من قوت جهنم
ومضوا عنه وقالوا:
عش سعيدًا في جهنم
وفي ديوانه “صواريخ” كتب لأمه تفاصيل وظروف وضعه في مخيمات اللاجئين وصور له حجم الإهانة والمذلة التي يعيش فيها اللاجئين داخل هذه الخيم؛ حافرًا في ذاكرة التاريخ حجم الشقاء الذي مر على هذه الأجيال في بلاد المهجر:
ولخيمتي بابان يا أمي كأبواب العذاب
باب يقود إلى الجحيم إلى الشتائم والسباب
نحو الخيام العابسات كبعض أكداس السحاب
وهناك في جهة السماء على جبين السقف باب
تبدو النجوم خلاله كاللاجئين بلا ثياب
توفيق زياد.. عن معتقلي السجون الإسرائيلية وتحدي المحتل
يعرف هذا الشاعر الفلسطيني بعدد من قصائده التي ضربت جذوره بذاكرة الفلسطينيين، وأبرزها “هنا باقون”، بجانب أنشودته الشهيرة “أناديكم أشد على أياديكم” التي غناها مجموعة من الفنانين العرب مثل أحمد قعبور وعابد عازرية. التزم توفيق في موقفه تجاه المحتل، فكان في صفوف المقاومة الأولى لذلك تلقى كل أنواع الاعتداء التي وصلت إلى حد هدم بيته ومحاولة اغتياله، لكنه لم يهاب وقال لهم:
كأننا عشرون مستحيل
في اللد ,والرملة ,والجليل
هنا .. على صدوركم ,باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج , كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
هنا .. على صدوركم ,باقون كالجدار
حتى أصبحت هذه الكلمات رد كل فلسطيني يتعرض لمحاولة تهجير أو نفي أو تهويد في أرضه، هذا بالإضافة إلى الكتابات الشعرية التحريضية والحماسية التي كتبها للمقاومين مثل “ادفنوا موتاكم وانهضوا”، التي بات يرددها المقاتلون على الجبهات تجبنًا لليأس والخضوع.
تطرق توفيق في كتاباته أيضًا إلى قضية الأسرى والمعتقلين، فكتب لهم قصائد عديدة، مثل “سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة” و”كلمات مقاتلة” و”من وراء القضبان، ولا بد من الإشارة إلى أن توفيق تعرض لتجربة السجن التي تحدث عنها في قصيدة “سمر في السجن” ويعبر عن الأيام التي قضاها في حبس الدامون، ويسرد أحاديثه مع رفاقه في الزنزانة ويصور كل ممارسات الذل التي تعرضوا لها، ولكنهم مع ذلك لم يتوقفوا عن الحديث عن الحرية والسلام متحدين جبروت السجان وقسوة الظروف، فكتب:
أتذكّر….إنّي أتذكّر..
الدامون…لياليه المرّة
والأسلاك والعدل المشنوق على السور
هناك والقمر المصلوب على..
فولاذ الشبّاك ومزارع من نمش ..
أحمر في وجه السّجان الأنقر
تطول قائمة الشعراء الفلسطينيين الذين قاتلوا العدو والنسيان بكلماتهم، ومنهم فدوى طوقان وإبراهيم طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم، إذ يمكن فهم التاريخ الفلسطيني والتعرف على المنعطفات الرئيسية في القضية من خلال قراءة أبيات قصائدهم التي تضع القارئ في المشهد الذي مضى وكأنه في قلب الحدث.