لطالما نُظر إلى الصيام، في الأديان والثقافات المختلفة، بوصفه وسيلةً للتجديد الدينيّ والروحيّ وطريقًا مرتبطًا بالأخلاق والقيم الإنسانية العديدة، إلّا أنّ العديد من الأفراد والمجموعات التي لا تنتمي للجماعات الدينية أو الروحية لم تعترف بفوائد الصيام إلا بعدما بدأت برامج الحميات الغذائية المتنوعة بالانتشار مع التأكيد على نجاحها ونتائجها الإيجابية والدعوة إلى تجريبها.
فوفقًا لكتب التاريخ، كان فيثاغورس من بين العديد من الذين أشادوا بفضائل الصيام على الأصعدة الجسدية والروحانية والنفسية. كما عُرف الصوم كتقليدٍ مميز يميل إليه الفلاسفة والقدّيسين والحكماء في اليونان القديمة ولمدة قرون طويلة. وربّما يمتد تاريخه إلى ما قبل ذلك، حيث كان معروفًا أيضًا أنّ الثقافات البدائية كانت تدعو أفرادها إلى الالتزام بالصوم لمدة معينة قبيل الذهاب للحرب، لتشجيع المحاربين على الصبر وجَلد الذات إضافةً لتجنب الكوارث مثل المجاعات وشحّ الطعام الذي قد يواجهونه.
وقد لعب الصيام دورًا رئيسيًا في جميع الديانات الرئيسية في العالم، باستثناء الزرادشتية التي تحظره، بارتباطه بالعديد من المُثل الدينية مثل التوبة والتسليم وبوصفه شكلًا من أشكال ضبط النفس وتهذيب الذات؛ فيصوم المسلمون شهر رمضان المبارك، ويلتزم اليهود بالصوم في عدة أيام متفرقة خلال السنة.
أما الروم الكاثوليك والعقيدة الشرقية فيلتزمون بالصوم لمدة 40 يومًا وهي الفترة التي صام فيها المسيح 40 يومًا في الصحراء. ويُذكر في كتبهم أنّ المؤمنين كانوا يصومون قبيل الإقدام على قرارات مهمة، لتدريب النفس على التركيز على ما هو مهم بعيدًا عن الأشياء المادية، وقد اتبع العرب قبل الإسلام في صيامهم الأديان المحيطة بهم مثل المسيحية واليهودية، فلما جاء الإسلام أقر شعيرة الصوم وأكد أنه لم يبتكره، وإنما كان سنةً من سنن الأولين في الأرض.
ظهر في العصر الحديث الكثير من الأشكال والأنواع المختلفة للصيام بعيدًا عن الجانب الدينيّ له، وبتركيزٍ أكثر على النتائج الإيجابية للصحة الجسدية والنفسية المرتبطة به
كما حضر الصيام لفترةٍ طويلة كبادرةٍ للاحتجاج السياسيّ ضد الأنظمة القمعية، ولهلّ أشهر الأمثلة على مرّ التاريخ هي حركة “سافرجت” النسائية في أوروبا، والتي خاضت صيامًا في نهاية القرن التاسع عشر للمطالبة بحقوق المرأة ورفض معاناتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ثمّ كان هناك المهاتما غاندي الذي خاض عدة أشكالٍ من الصيام أو الامتناع عن الطعام خلال نضاله من أجل استقلال الهند، دام أطوله لمدة 21 يومًا متتاليًا.
ونتيجةً لهذا التاريخ العريق للصيام بين الحضارات والثقافات العديدة، ظهر في العصر الحديث الكثير من الأشكال والأنواع المختلفة له بعيدًا عن الجانب الدينيّ له، وبتركيزٍ أكثر على النتائج الإيجابية للصحة الجسدية والنفسية المرتبطة به. فعلى سبيل المثال، ظهر في القرن التاسع عشر ما يُعرف باسم “الصيام العلاجيّ” كجزء من “حركة النظافة الطبيعية” في الولايات المتحدة، الذي هدف، وما يزال حتى اللحظة، مع إشرافٍ طبي إما للعلاج أو لمنع تفشي الأمراض وانتشارها في الجسم، من خلال الامتناع عن الطعام، ما عدا الماء، لفترةٍ معينة من الزمن تختلف من شخصٍ لآخر، يتبعها نمطٌ معيّن من الطعام يخلو من أيّ أطعمة قد تضرّ بالجسم.
تقوم فكرة برامج “الصيام العلاجيّ” على أنّ الصيام يعطي الجسم فرصةً كبيرة لتنقية أنسجته وللقضاء على الأنسجة غير المرغوب فيها ومنع تراكمها. وقد استخدم البرنامج على نطاقٍ واسعٍ في علاج العديد من الأمراض بما في ذلك السمنة والسكري والصرع وأمراض الأوعية الدموية وتصلب الشرايين والسرطان وأمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، وغيرها الكثير.
وتختلف الحميات الغذائية المرتبطة بالصوم العلاجيّ وتتنوع، فمنها ما يسمح فقط بتناول الماء والعصائر وغيرهما من السوائل، ومنها ما يركّز على التقليل من السعرات الحرارية والالتزام قدر المستطاع بالطعام الصحيّ مثل الخضروات والفواكه والألياف، وغالبًا ما يتمّ الأمر بشكلٍ متقطّع، أيْ خلال أيّام معينة يتخلّلها أيامٌ يغيب فيها البرنامج ويُسمح للصائم بأكل ما يشاء.
تقوم فكرة برامج “الصيام العلاجيّ” على أنّ الصيام يعطي الجسم فرصةً كبيرة لتنقية أنسجته وللقضاء على الأنسجة غير المرغوب فيها ومنع تراكمها.
ولعلّ الفكرة الأساسية من وراء الصوم المتقطع هي محاولة تقليد الحياة البدائية للإنسان، إذ أنه كان يقضي فتراتٍ طويلة دون طعام أثناء اعتماده على الصيد، نظرًا لصعوبة توفّر ما يصطاده بين الفينة والأخرى. وتشير الفرضيات حيال ذلك، أنّ صوم الإنسان البدائيّ المتقطّع هذا كان يؤدي إلى جعل مخّه أكثر نشاطًا وحدّة، لتحفيز العثور على الطعام والبقاء على قيد الحياة. ما يعني أنّ خلايا دماغية جديدة كانت تنمو ويزداد نشاطها في الفترة التي يصوم فيها، إلا أنّ هذا لا يعني أنه بإمكاننا الجزم بأنّ ذلك النمو هو نتيجة الصيام أم لسببٍ آخر.
وبالإضافة إلى الآثار الإيجابية على الجسد وأعضائه، قامت العديد من الدراسات والأبحاث في السنوات الأخيرة بدراسة آثار الصوم على الصحة العقلية والنفسية للفرد، فقد وجدت إحداها أن الصوم المتقطع والحميات الغذائية المرتبطة به تؤدي إلى تحسين المزاج، والصفاء الذهني واليقظة، بالإضافة إلى زيادة الشعور بالسعادة وأحيانًا النشاط والخفة.
إذ يرى علماء النفس أن الآثار الإيجابية للصوم قد تكون إحدى الآليات التطورية التي تكيف معها الإنسان منذ القدم وطورها خلال فترات المجاعات ونقص الغذاء، وبعبارة أخرى، عندما يصبح الغذاء نادرًا، تقوم أجسامنا بإفراز بعض المواد الكيميائية لمساعدة أدمغتنا وحمايتها من الآثار السلبية لعدم وجود الطعام.
وجدت إحدى الدراسات أن الصوم المتقطع والحميات الغذائية المرتبطة به تؤدي إلى تحسين المزاج، والصفاء الذهني واليقظة، بالإضافة إلى زيادة الشعور بالسعادة وأحيانًا النشاط والخفة.
فخلال الأسبوع الأول من الصيام، يبدأ الجسم بالتكيف مع الجوع من خلال إفراز كميات ضخمة من الكاتيكولامينات “catecholamine” بما في ذلك هرموني الأدرينالين والدوبامين، بالإضافة إلى الهرمونات التي تعمل على تنظيم نسبة الجلوكوز في الجسم، كل هذه الهرمونات يتم إفرازها في حالة “الكر والفر” التي يدخلها الجسم في أوقات الضغط والتوتر والإجهاد بهدف حماية الجسم من آثار تلك الأوقات والتخفيف من حدّتها.
كما أشارت دراسة أُجريت عام 2009، أن الصوم العلاجي خفف خلال بضعة أيام فقط من أعراض الاكتئاب والقلق عند 80% من ذوي الأمراض المزمنة ممن اشتركوا في الدراسة. وبالرغم من أنه لم تتضح الآلية وراء ذلك، غير أن الباحثين اعتقدوا أن السبب يعود إلى إفراز هرمون الإندورفين “endorphins” خلال الـ48 ساعة الأولى من الصيام، والمسؤول عن تخفيف الألم والتوتر على المدى القصير، والشعور بالسعادة والراحة على المدى البعيد.
ولا يجب أن نغفل عن أن الصوم يؤتي ثماره ونتائجه الإيجابية فقط إذا مورس بالشكل الصحيح، فقد يستغرب الكثيرون ممن يقرؤون هذا المقال من أن أنهم لا يرون أيًا من هذه النتائج أبدًا، وإنما على العكس تمامًا قد يجعل منهم الصوم أناسًا قلقين غاضبين لا يحتملون صغائر الأمور ويفقدون أعصابهم بسرعة كبيرة، متناسين أن الكثير من العادات الخاطئة التي ترافق الصوم تمنع عنا الكثير من إيجابياته وتحرمنا من فوائده، فالأكل النهم والإكثار من الحلويات بعد الإفطار مثلًا جميعها تحيل بين انتفاع الجسم الحقيقيّ من الصوم.