بحضورٍ خافت وبأقل القليل من الكلمات، عبرت السلطة الفلسطينية عن حزنها وتعازيها لاستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، الذي قضى في استهدافٍ إسرائيلي لم تعترف دولة الاحتلال به حتى الآن في طهران.
إسماعيل هنية الذي كان أيضًا رئيس الوزراء الفلسطيني في الحكومة الفلسطينية العاشرة في الفترة ما بين 2006 وحتى اتفاق الشاطئ الذي وقع في منزله شديد التواضع بمخيم الشاطئ عام 2007، هو أيضًا رأس قائمة التغيير والإصلاح التي فازت في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية عام 2006، وحظيت بـ76 مقعدًا من أصل 132 في المجلس التشريعي الفلسطيني.
وهو أيضًا التوافقي الوحدوي قبل الانتخابات حين كان ممثلًا لحركة حماس في لجنة المتابعة العليا للفصائل الفلسطينية إبان انتفاضة الأقصى 2002، والساعي باستمرار للتنازل من أجل الوحدة الوطنية من خلال التزامه بالحوار الفلسطيني حتى آخر أيام حياته.
ومع كل هذا لم يكن رد الفعل الرسمي والحزبي للسلطة الفلسطينية ولحركة فتح على استشهاد إسماعيل هنية إلا خجولًا وباردًا لا حرارة فيه، حيث اقتصر على تصريحٍ رسمي لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أعلن فيه إدانته لعملية الاغتيال، واعتبارها “عملًا جبانًا وتطورًا خطيرًا”، داعيًا الجمهور الفلسطيني وقواه الوطنية إلى الوحدة والصبر والصمود في وجه الاحتلال.
أما “الإعجاز السلطوي” فقد تمثل في إعلان الرئيس حالة الحداد وتنكيس الأعلام على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، ليومٍ واحدٍ فقط، في تجاهلٍ لأهمية مساعي الرجل ودوره في خدمة القضية الفلسطينية، ولمكانته الدبلوماسية السابقة داخل منظومة الحكومة الفلسطينية، ولما أقدمت عليه السلطة – بشكلها الحالي – من محاولات إفشال واضحة لحكومته دفعته للتنحي حقنًا للدماء وسعيًا لمصلحة الشعب الفلسطيني.
وفيما غاب الرئيس محمود عباس عن جنازة الشهيد هنية في دولة قطر، حيث تقاطرت الوفود والحشود على مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، قبل مواراته الثرى في مقبرة الإمام المؤسس في لوسيل بحضور أفراد عائلته، فإن الرئيس الفلسطيني أعلن أنه هاتف خالد مشعل، نائب رئيس الحركة، مقدمًا له تعازيه.
فيما نقل المتحدث باسم حركة فتح، منذر الحايك، أن الرئيس محمود عباس أوفد إلى قطر كلًا من: محمود العالول، نائب رئيس الحركة، وأمين سر اللجنة المركزية لحركة “فتح”، جبريل الرجوب، للمشاركة في تشييع جثمان الشهيد إسماعيل هنية، مؤكدًا أن مشاركة الحركة في التعزية والمواساة تأكيدٌ على وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة التحديات التي تنال من قضيته الوطنية.
بينما رثى العالول، الشهيد إسماعيل هنية بقوله: “الأخ إسماعيل هنية قائد وطني كان له دور كبير وهام في النضال الفلسطيني، والدم الفلسطيني واحد والموقف الفلسطيني واحد في مواجهة الاحتلال”.
مشيرًا إلى أن اغتيال إسماعيل هنية يجب أن يشكل قوة دفع لمتابعة تحقيق وتنفيذ إعلان بكين نحو تحقيق الوحدة الوطنية، بينما ذهب جبريل الرجوب للتأكيد على أن استهداف هنية إنما هو “اغتيال قائد سياسي ومس بسيادة دولة عظمى يعكس الاستخفاف بدماء الفلسطينيين وسيادة الدول”.
وعبر أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، عن أمله بفتح صفحة جديدة للوحدة والبدء في حوار وطني شامل، معربًا عن حزنه لاستشهاد هنية وعظيم الخسارة الفلسطينية له، حيث قال: “فقدنا قائدًا عظيمًا ويجب أن يكون مسلسل جرائم الاحتلال حافزًا لبناء وحدة وطنية”.
موقف عدائي
رد الفعل الرسمي لحركة فتح والسلطة الفلسطينية لم يأت إلا استمرارًا لحالة التجاهل والانفصام بينها وبين الشارع الفلسطيني، الذي استقبل نبأ اغتيال إسماعيل هنية بالغضب الشديد والتنديد والاستنكار الواسع، إذ صدحت مآذن المساجد في عموم أرجاء الضفة الغربية المحتلة بإدانة الاغتيال، والتعبير عن حزنها لفقد الشهيد.
الحراك الشعبي توالى مع جنازة الشهيد في قطر، حيث أقيمت صلاة الغائب على الشهيد في عددٍ كبيرٍ من مساجد الضفة الغربية، في الخليل وطولكرم ونابلس وطوباس وجنين، كما خرجت مسيرات حاشدة، تأكيدًا على الوفاء لدربه والانتقام لدمه.
وفيما أقيمت صلاة الغائب على روح الشهيد إسماعيل هنية في عددٍ من دول العالم بحضورٍ رسمي وحكومي واضح، كما هو الحال في ماليزيا التي أقيمت فيها الصلاة في العاصمة الإدارية بحضورٍ حكومي كثيف، وإندونيسيا حيث أقيمت الصلاة في المسجد الوطني بحضور عشرات الوزراء ومسؤولي الأوقاف والدفاع، وتركيا التي أقيمت بإمامة رئيس الشؤون الدينية، فإن “المقاطعة” ومسجدها لم تعمد إلى إقامة صلاة الغائب على روح شهيدٍ فلسطيني وقائد خلد العالم ذكره حيًا وميتًا.
وهو ما يثير التساؤل في قلب الشارع الفلسطيني من خلال المقارنة بين الوجود الواضح للرئيس الفلسطيني محمود عباس في جنازة شمعون بيريز الرئيس الإسرائيلي الأسبق، وحالة الحزن الشديد التي عبر عنها وتعازيه الحارة لعائلته، وبين غياب تعازيه لعائلة هنية وغياب الوجود الفعلي له في جنازة الأخير، وهو الذي تواجد في قطر مطلع العام الحالي، في إطار مساعيه لإيجاد موطئ قدمٍ له في أي ترتيبٍ مستقبلي للوضع في قطاع غزة.
محمود عباس بين جنازة بيريز وجنازة إسماعيل هنية.
يستحق شيمون بيريز أن يشارك محمود عباس في جنازته. أما إسماعيل هنية، فلا..!!
من صلّى عليه الملايين في أرجاء الأرض، لن يضيره غياب من يوفّر للقَتَلة “أرخص احتلال في التاريخ”، بحسب تعبيره.
سلام الله على إسماعيل، والعار لمُدمني العار. pic.twitter.com/RKgv5i5ZZS
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) August 2, 2024
المقارنة تعقد أيضًا من خلال حضوره في مناسبات دولية وإقليمية من بينها مسيرة الجمهورية تنديدًا بالهجوم على صحيفة “شارل إيبدو” وهي التي كانت تنشر الصور الكاريكاتورية الساخرة بالإسلام والمسلمين ونبيهم، حيث تواجد في الصف الأول مزاحمًا رؤساء الدول للتأكيد على دعمه “لحرية الرأي والتعبير”، وأعلن الحداد إبان ذلك في الأراضي الفلسطينية، فيما اكتفى بيومٍ عابر واحد حدادًا على إسماعيل هنية.
تشمل المقارنة أيضًا ما نُشر مؤخرًا من رسائل الاطمئنان الدافئة التي أرسلها عباس إلى ترامب، المرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية، للتأكيد على التضامن معه وتمني الشفاء له، والتي صيغت ببروتوكولية احترافية، بينما غابت الاحترافية بليلها ونهارها عن تعازيه في إسماعيل هنية، مكتفيًا بتصريحٍ مقتضب ومكالمةٍ عاجلة.
وللحقيقة فإن القيادة الفلسطينية تسير في رد فعلها منطلقةً من موقفها العدائي من حركة حماس وكل ما يتصل بها من فرحٍ أو ترح، لا يرتبط ذلك بالسابع من أكتوبر تحديدًا، بل هو مرتبطٌ بهنية نفسه وبعام 2006 حين استطاع هنية ومرشحو قائمته انتزاع المجلس التشريعي بسلاسة لا تكاد تذكر من حركة فتح، لتنقلب المعارضة إلى حكومة والحكومة إلى معارضة، وهو ما تجاوز إدراك فتح وتعظيمها لنفسها ولمفهوم “التاريخ النضالي” في ذاكرتها.
تلك المرحلة التي وسمت وستسم القضية الفلسطينية حتى يُكتب لها أن تنفصم العُرى عند مرحلةٍ من المراحل، وتنتهي حالة الهزيمة اللامتناهية التي لم تستطع فتح ولا رئيسها تجاوزها منذ ذلك الحين، وهو ما دعاها لإفشال أي جهدٍ وحدوي، بدءًا من بيت هنية في مخيم الشاطئ، مرورًا باتفاق مكة، فاتفاق الدوحة، واتفاق القاهرة، وأخيرًا اتفاق بكين.
دواعي الموقف الفلسطيني لا تنفصل أيضًا عن عموم الموقف العربي المنبطح والمطبع، لا سيما أنها مستندة ومدعومة من دول التطبيع ومعتمدة عليها في بقائها، وهو ما يدفعها لأن تراوح في ردود فعلها العامة والخاصة حدود الموقف الإماراتي والسعودي والمصري، منطلقةً في ذلك من تفضيلها للبقاء على حالة من الود الخفي مع الحكومة الإسرائيلية، والرضا المعلن من الإدارة الأمريكية.
كما أن موقفها البارد، واختيارها المنتقي لوجوه العزاء – العالول والرجوب – يعكس وجود مستويين في ديناميكيات اتخاذ القرار بالسلطة الفلسطينية، أحدهما مخصص للتماهي مع الوحدة الفلسطينية وفصائل المقاومة ويتصدره محمود العالول الذي استشهد ابنه خلال انتفاضة الأقصى، ويحظى بتوافق كبير من قاعدة فتح الشعبية، وجبريل الرجوب الذي يمتلك علاقات وطيدة مع الفصائل الفلسطينية وخاصة مع حركة حماس، حيث يعرف الجمهور الفلسطيني أخاه، نايف الرجوب، القيادي في حماس والنائب في المجلس التشريعي عنها.
بينما على المستوى الآخر المتخصص بالالتزامات الإسرائيلية والعربية “التنسيق الأمني واتفاقيات التطبيع” هناك حسين الشيخ وماجد فراج، وهما المتحكمان الفعليان بفتح والسلطة وعلاقاتها العربية والدولية والإسرائيلية، وفيما يمثل المستوى الأول “المنظور الوجاهي” لحركة فتح والسلطة، يمثل الآخر “الأساس الفعلي الجاد” لها ولمواقفها والتزاماتها، وهو ربما ما يبرر طبيعة الوفد الفلسطيني الرسمي للمشاركة في جنازة إسماعيل هنية.
يظهر أثر ذلك، من تنديد أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حسين الشيخ، بعملية الاغتيال، متوجهًا للفصائل الفلسطينية بدعوته “لاستغلال” هذه الجريمة الإسرائيلية الجديدة، لترتيب البيت الفلسطيني واستعادة الوحدة الداخلية لتحصينها”، حيث يبدو تنديد الشيخ مغرقًا في الغرابة في إشارته لاستغلال الجريمة وكأنه استغلال لغياب هنية لترتيب البيت الفلسطيني، متجاهلًا أن هنية وصاحبه العاروري الذي سبقه مطلع العام الحالي كانا الأقرب للمصالحة والأكثر سعيًا لها والتزامًا لخطوطها، وأن تواضع مطلب أحدهما بوقف “التنسيق الأمني” وإطلاق سراح “المقاومين في سجون السلطة” كان خطًا أحمر عن حسين الشيخ فضل تجاوزه لصالح رضا منظومة الاحتلال عنه، وأن الوحدة الداخلية التي يرتجيها حسين الشيخ غاب عنها في بكين بعد محاولات إفشالها!
مواقف ملتبسة!
يأتي موقف السلطة الفلسطينية البارد من اغتيال إسماعيل هنية بعد أقل من أسبوعٍ على اختتام جولات الاتفاق على الوحدة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية في بكين، حيث اتفق 14 فصيلًا فلسطينيًا على “حكومة مصالحة وطنية” تحكم قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ومن بين هذه الفصائل حركة حماس وحركة فتح، بعد سلسلة جولات كادت أن تتوقف إثر رفض محمود عباس إرسال وفده أو التعامل الجدي مع مطالب الفصائل.
رغم ذلك تم الاتفاق الذي نص على تشكيل حكومة مؤقتة “لحكم ما بعد الحرب في غزة”، حيث وقع عليه كل من محمد العالول نائبًا عن رئيس حركة فتح محمود عباس، وعن حماس، موسى أبو مرزوق، نائبًا لرئيس حركة حماس إسماعيل هنية.
لكن هذا الاتفاق الذي لم يؤخذ على محمل الجد على المستوى الفلسطيني الداخلي والإقليمي العربي، والدولي الغربي، أخذته السلطة الفلسطينية فجأة وبعد أقل من تسع ساعات على تأكيد استشهاد إسماعيل هنية للواجهة بإرسالها إياه مباشرةً للإدارة الأمريكية، تحت مسمى “خطة بشأن حكم موحّد في الضفة وغزة“، وفيما لم يُعلن حتى اللحظة عن تفاصيل للحكم الموحد الذي تتوخاه السلطة في القطاع، لكنه لا شك لن يُبنى على تراكم تجربة المقاومة الفلسطينية، ولن يختلف عن أجندة التنسيق الأمني المتواصلة.
فيما يُرجح أن غياب إسماعيل هنية وحجم الفراغ الكبير باستشهاده قد أوحت للمستوى الأمني في السلطة الفلسطينية بإمكانية “إعادة تدوير” اتفاق الوحدة وتقديمه للمجتمع الدولي على وجه السرعة، بما يمنحها قدرة للمناورة مقابل حركة حماس التي تعيد ترتيب صفوفها، ومحمد دحلان الذي تضطلع الإمارات بعملية غسيله وتبييضه تحت مسمى “لجنة وطنية” لتقديمه كبديلٍ فلسطيني مناسب إسرائيليًا لليوم التالي.
تاريخ محتدم
مهما يكن من موقف السلطة من الشهيد الراحل، وتفاعلها مع حياته أو استشهاده، فإن التاريخ يحكي عن مفاصل صعبة جمعت قيادات الحركة الإسلامية بأخرى من منظمة التحرير وحركة فتح، بدءًا من مرحلة تصدر العمل الطلابي، مرورًا بالعمل السياسي والمقاوم، وانتهاءً بالاستشهاد، وهو ما يعني أن موقف السلطة من إسماعيل هنية لم يكن في يومٍ من الأيام خاصًا بالرجل، بقدر ما كان مرتبطًا بالتفاعلات بين الإسلاميين والعلمانيين والتي لم ينجح الموت في إجبارهم على تجاوزها.
فعبد العزيز الرنتيسي، وصالح العاروري، وإسماعيل أبو شنب، وصلاح شحادة، وجمال منصور، وصلاح دروزة، ومهند حلاوة، والكثير الكثير غيرهم من قيادات حماس على المستوى السياسي والعسكري خبروا تجربة الصراع مع فتح في الجامعات أو السجون وحتى أروقة المجلس التشريعي، ومهما قيل من لغة دبلوماسية في رحيل أحدهم، فإن جماهير كلا الطرفين لا يمكن لها أن تنسى التاريخ المحتدم والمتواصل بينهما، وهو ما تجلى في أروقة العمل الجماهيري والتعبوي التحريضي المعفى من القياس والتتبع.
هذه هي طبيعة الموقف، ولا يمكن نقضها إلا بانتظار النهاية لأحد أعمدة السلطة الفلسطينية، لنرى كيف ستكون ردة الفعل المقابلة على ذلك، وإلى أي درجة ستغطي “مبررات” الوحدة الوطنية، ودواعي “استغلال الظرف” على رد الفعل، عمقًا وشكلًا.