عام 2014، قبل عقدٍ بالضبط، وفي كلمة مسجلة أمام عدسات الكاميرا، بينما يرتدي البذلة العسكرية، أعلن حصوله رسميًا على تأييد كامل من المجلس العسكري للترشح لرئاسة الجمهورية. في ذلك المشهد التأسيسي، الذي لم يحصل ضابط على الامتياز الوارد فيه مجددًا قط، قال السيسي نصًا، مخاطبًا الرأي العام، إن بوصوله إلى قصر الرئاسة بصورة رسمية، وهو الأمر الذي كان محسومًا استنادًا إلى انعدام المنافسة، وتسويقه “منقذًا” وطنيًا قادمًا من الدولة العميقة، فإن حالة “السيولة” التي تسمح لأطراف دولية وإقليمية باستباحة العبث بالأمن القومي، ستتلاشى.
وفقًا للسردية الرسمية التي أوكلت الدولة العميقة للأذرع الإعلامية ترويجها آنذاك، فإن البلاد قد تعرضت إلى أنماط محددة من الاختراق الخارجي الفج للسيادة في الفترة من 2011 إلى 2013، وهي الاستباحة التي ساهمت، بحسب تلك الرواية، في رسم خريطة الأحداث إبان تلك الفترة.
الاختراق الحدودي الواسع من عناصر إقليمية عبرت الحدود الشرقية للبلاد وصولًا إلى القاهرة، بغرض استغلال حالة الغضب الشعبية وانشغال أجهزة الدولة بالتصدي لـ”الصدمة” غير المتوقعة، ما أدى إلى فتح السجون وتهريب القيادات السياسية المعارضة وإسقاط الدولة المركزية.
انتهاز الجانب الإثيوبي حالة السيولة والتداعي الداخلية تلك في تدشين مشروع بناء سد النهضة، الذي لم تكن أديس أبابا تستطيع الشروع عمليًا فيه حال تماسك نظام ما قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
ليست العناصر الإقليمية التي عبرت الحدود بالقوة فقط، فقد قال الجيش حينها إنه تمكن أيضًا من الإيقاع بجاسوس إسرائيلي يدعى إيلان تشايم جرابيل، كان يقوم بمهام استخبارية ميدانية في قلب ميدان التحرير لصالح جهاز “الموساد”، في إشارة ضمنية إلى أن كل الأطراف الإقليمية تتربص بالبلاد.
وبسبب حالة الضعف المركزي، عجزت القاهرة عن الصمود أمام الضغوط الأمريكية التي طالبت بالإفراج عن مجموعة دولية من نشطاء المجتمع المدني، الذين اتهمتهم الأجهزة السيادية بتلقي تمويلات أجنبية لأغراض سياسية، وهو ما انتهى إلى هبوط طائرة نقل عسكرية أمريكية لاستلامهم، رغم صدور أوامر قضائية بحبسهم، في واقعة شديدة الإهانة.
لنتأمل المشهد المصري أمنيًا كما رسمته الدولة العميقة قبل انقلاب يوليو/تموز 2013: اختراقات ضخمة للحدود وصولًا إلى القاهرة، جواسيس إسرائيليين في قلب ميدان التحرير، طائرات أمريكية تحط في أرض مصرية لتخليص كوادر دولية متهمة بالعمالة، ومخاطر وجودية تلوح من الجنوب حول المورد الوحيد للمياة العذبة في البلاد.
ومن ثم، كان “الوعد” الرئيس الذي قدمه الضابط الحاذق القادم من دهاليز الدولة العميقة وعالم الاستخبارات، عبد الفتاح السيسي، هو “كبح” هذا التداعي في بنية الدولة المركزية، وإعادة ترسيخ دعائم الأمن القومي، استنادًا إلى الزخم الشعبي الهائل في محطات الانقلاب العسكري والتفويض.. فهل هذا ما حدث فعلًا؟
برنامج “Echo 127 E” السري
يعد هذا البرنامج أحد أبرز البرامج ذات الطبيعة الخاصة في الجيش الأمريكي، وقد جرى الكشف عنه “استقصائيًا” عبر الصدفة، وظلت المعلومات المتاحة عنه، حتى بعد كشفه يوليو/تموز 2022، محدودة، نظرًا لحساسيته واتفاق مجتمع الأمن والاستخبارات والتشريع في الولايات المتحدة على استثنائيته.
وقد صمم البرنامج وفقًا لما أتيح عنه من معلومات بعد الاستقصائي الذي عملت عليه “Intercept” قبل عامين، ليكون “موازيًا” وجراحيًا لخدمة أهداف “أمريكية” بحتة في نطاق طيف واسع من الدول المستباحة سياديًا، ضمن ما يعرف بـ”الحرب على الإرهاب”.
تاريخيًا، بدأ البرنامج على هامش التدخل العسكري الأمريكي الرسمي في أفغانستان والعراق تواليًا، بحيث تحدد عملياته بإطار إشراف “قوات العمليات الخاصة الأمريكية” – اللوجيستي – دون مشاركة مباشرة، إلا في أضيق الظروف، على عمليات استهداف العناصر والمناطق الوعرة ذات الطابع الإسلامي.
البرنامج الذي لم يسمع به قط في الأوساط المصرية الرسمية ولم تعلق عليه دائرة الإعلام في الجيش، قد تلقى دعمًا كاملًا من إدارة المخابرات الحربية، خدمةً للأهداف الأمريكية، وبمشاركة وحدات بعينها ميدانيًا من الجيش المصري.
يوجه الأمريكي ويخطط ويمول، على أن يوكل التنفيذ إلى العنصر المحلي سواء كان نظاميًا أم من الميليشيات المعادية للجماعات الإسلامية على أسس جهوية وعقائدية، وقد تطور البرنامج ليخرج من العراق وأفغانستان إلى دول أخرى تشترك جميعًا في ضعف الدولة المركزية والقابلية للاستباحة.
وفقًا للاستقصائي المشار إليه آنفًا، فقد تخطت ميزانية البرنامج السري خلال 3 أعوام فقط، من 2017 إلى 2020، حاجز 300 مليون دولار أمريكي، لتمويل عدد محدد من العمليات الخاصة في دول الساحل والصحراء مثل مالي والنيجر، وفي دول عربية مضطربة مثل سوريا وليبيا ولبنان وتونس واليمن.
المدهش في التحقيق الذي ترجمه موقع “الخنادق” المعني بالشؤون الأمنية، أن مصر كانت واحدة من الدول المستباحة سياديًا التي جرى إدراجها في خريطة نفوذ البرنامج ضمن عملية “إنيغما هانتر” ضد تنظيم الدولة في سيناء.
وبحسب المتاح من المعلومات، فإن البرنامج الذي لم يسمع به قط في الأوساط المصرية الرسمية، قبل أو بعد نشر التحقيق، ولم تعلق عليه دائرة الإعلام في الجيش، قد تلقى دعمًا كاملًا من إدارة المخابرات الحربية، خدمةً للأهداف الأمريكية، وبمشاركة وحدات بعينها ميدانيًا من الجيش المصري.
“كيسموا”.. الخضوع لما كان محرمًا من قبل
مارس/آذار 2018، كان أحد التواريخ الحساسة في مسيرة الجيش المصري الحديث واستقلاله، نظرًا لما شهده هذا التاريخ من إعلان الانخراط الرسمي من جانب مصر في اتفاقية “كيسموا” سيئة السمعة.
تفرض تلك الاتفاقية، والتي كثيرًا ما يشار لها – خطأ – بالاسم “سيزموا”، إذ إن المصطلح العربي هو اختصار لـCommunication Interoperability and Security Memorandum Agreement، أن تستبدل الدولة الموقعة عليها أنظمة الاتصالات الأمريكية العسكرية بنظيرتها التقليدية المؤمنة العاملة في الجيش.
في التقليد العسكري المصري قبل صعود السيسي، كان ينظر لهذه الاتفاقية بعين الريبة الشديدة والرفض التام، لا لأنها تعني خضوع منظومة الاتصالات جزئيًا – على الأقل – لرقابة الجيش الأمريكي وحسب، وإنما لأنها كانت ترمز لتحول جيش الدولة الموقعة عليها لجيش غير قتالي منخرط في الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب.
وفقًا لـ”ويكيلكس”، فإن قيادة الجيش المصري رفضت، لسنوات، مساعي واشنطن لإجبار القاهرة على الانضمام لتلك الاتفاقية، وكانت أسماء مثل المشير طنطاوي واللواء محمد العصار تقف حجر عثرة أمام التوقيع عليها.
ويعزى ذلك الرفض إلى أن الاتفاقية تعني تلقائيًا القبول بباقي الأجندة الأمريكية لتفريغ الجيوش من مضمونها الدفاعي، لصالح التركيز الحصري على الحد من الهجرة غير الشرعية والقرصنة البحرية وتدفق الأسلحة عبر الحدود.
تنص الاتفاقية على سريان بنودها لمدة 15 عامًا تمتد إلى عام 2033، وعلى حظر تمرير أنظمة الاتصالات المستحدثة إلى أي أطراف ثالثة “المستخدم الأخير”، وعلى إشراف الخبراء الأمريكيين أو وكلائهم حصريًا على صيانة الأنظمة، دون إمكان التحاكم لأي أطراف محايدة حال النزاعات.
في المقابل، لم تحصل مصر على أي امتيازات نوعية من الجيش الأمريكي تتعلق بأنظمة التسلح التي طالما كانت محظورة على القاهرة، فقد ظلت صواريخ “أمرام” جو – جو بعيدة المدى بفئاتها المختلفة محجوبةً، كما ترفض واشنطن تلبية طلبات القاهرة في شراء مقاتلات “F -15″، ناهيك بمقاتلات “F – 35” الأكثر تطورًا.
السعودية – “إسرائيل”.. حلفاء القاهرة على الورق فقط
مما كان قد عرف عن فترة السيولة التي أصابت الدولة المركزية في مصر إبان يناير/كانون الثاني 2011، أن السعودية التي كانت متوجسة من امتداد أثر سقوط نظام مبارك، ضمن متوالية الربيع العربي، على ملكيتها النفطية الاستبدادية، قد أسست بنيةً دبلوماسية استخبارية لجمع المعلومات الحساسة والتأثير، ما أمكن، على الأوضاع في مصر.
وبحسب وثائق “ويكيليكس” المنشورة عن تلك الفترة، فقد نجحت السعودية، باستخدام المال السياسي، في استقطاب نخب بارزة محسوبة على نظام مبارك، لكتابة تقديرات موقف موضوعية عن الأوضاع السائلة في مصر، تتضمن توصيات للجهات العليا في المملكة لتعظيم المصالح وتقليل المخاطر.
يقع على رأس تلك القائمة مصطفى الفقي سكرتير رئاسة الجمهورية في عهد مبارك، ومصطفى بكري الإعلامي المحافظ المقرب من الجيش، وهي نفس الشخصيات التي أدت دورًا بارزًا في وقت لاحق، هو عام 2016، لتبرير استيلاء الرياض على جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين على البحر الأحمر، ضمن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
ما جرى اكتشافه عام 2019، أن الرياض، الحليفة الوطيدة للقاهرة على أرضية التحالف السني الإقليمي المعتدل في مواجهة الإسلام السياسي وإيران، قد استخدمت تقنيات “إسرائيلية” شديدة التقدم لاعتراض الاتصالات التي يجريها مسؤولون مصريون رفيعو المستوى داخل دوائر الدولة، منهم رئيس الوزراء وحقائب الخارجية والمالية والعدل والاتصالات.
وقد استخدمت السعودية أداة “بيغاسوس” التي تنتجها شركة NSO الإسرائيلية، ولا تباع إلا للحكومات الحليفة، لاعتراض اتصالات المسؤولين المصريين، كما جاء في التحقيق الاستقصائي الذي شاركت فيه منصة “قصص ممنوعة” الفرنسية ومعمل الأمن الرقمي التابع لمنظمة العفو الدولية وعدد من المنصات الصحافية المرموقة دوليًا وعربيًا، وكشف عنه صيف 2021، فيما لم يرد أي تعليق رسمي من السلطات المصرية على تلك النتائج.
السيادة مقابل السياحة.. الضباط الروس في المطارات المصرية
تعد المطارات، أو كما يطلق عليها المنافذ الجوية التي تحط فيها الطائرات المدنية المحملة بالركاب والبضائع ذهابًا وإيابًا، والمنافذ البرية “المعابر”، والمنافذ البحرية “الموانئ”، رموزًا للسيادة الوطنية، تحرص الدول على حوكمتها وإدارتها باعتبارها نقاطًا جغرافية تتكثف فيها السلطة والسيادة بمفهومها الحديث.
ولكن في “الجمهورية الجديدة” بدءًا من عام 2019، قامت السلطات الروسية بنشر عناصر أمنية لها في المطارات المدنية المصرية الرئيسية الواقعة على البحر الأحمر، وهما مطارا شرم الشيخ والغردقة.
تتمتع تلك العناصر، كما قالت الصحف الروسية، بصفة “الديمومة”، دون الإشارة إلى تفاصيل نصوص الاتفاق الرسمي الذي جرى بين البلدين في هذا الصدد، حيث خصصت لها مقرات داخلية للمبيت والإدارة، بغرض التأكد من التدابير الأمنية التي تقوم بها الأجهزة المصرية لحماية السياح الروس.
لـ3 سنوات كاملة منذ عام 2016، استمرت المفاوضات بين الطرفين. يتمسك الطرف المصري برفض الطلب الروسي، بدعوى انتهاكه السيادة الوطنية ونجاح التدابير الأمنية المستحدثة في استيفاء معايير السلامة التي تضمن حماية السياح الروس. فيما تصر موسكو على عدم استعدادها لتكرار فاجعة أكتوبر/تشرين الأول 2015، حين تمكن تنظيم الدولة الإسلامية المكنى بـ”داعش” (ولاية سيناء) من زرع قنبلة داخل إحدى الطائرات المدنية المحملة بالسياح الروس في أثناء عودتهم إلى ديارهم، ما أودى بحياة أكثر من 220 مواطنًا روسيًا.
كما تسببت أخطاء تقنية ارتكبها أمنيون مصريون خلال زيارات الوفود الروسية لمعاينة التدابير المستحدثة، وحاجة مصر الماسة إلى “صورة” تسويقية مستقرة في ملف صناعة السياحة إلى إضعاف منعتها في مجابهة الضغوط الروسية، خاصة أن تقارير الخبراء كانت ترفع إلى بوتين رأسًا كما أوردت صحيفة العربي الجديد.
لتتمخض المفاوضات في نهاية المطاف عن صيغة توافقية جوهرها “السيادة مقابل السياحة”، تقدم القاهرة خلالها جزءًا من سيادتها قربانًا لموسكو، نظير قبول الأخيرة عودة رحلات رعاياها إلى إحدى وجهاتهم المفضلة، البحر الأحمر في مصر.
سوخوي 35.. الحجب المهين
منذ الثمانينيات، تحاول وزارة الدفاع المصرية وشعبة التسليح الجوية فيها إقناع الولايات المتحدة بضرورة الحصول على طائرات “F 15” الفذة، ولو كانت منقوصة التسليح والتقنية، بأعداد محدودة، مدفوعة من أموال المعونات أو من ميزانية الجيش المباشرة، وذلك بغرض الحفاظ على حد أدنى من التوازن مع “إسرائيل”.
لكن الولايات المتحدة التي تضمن تفوق “إسرائيل” العسكري على جيرانها لا بمجرد التزامات تاريخية، وإنما بموجب تشريعات قانونية أيضًا، والتي ترفض حتى بيع المروحيات الهجومية المضادة للدبابات “أباتشي” لمصر بكامل تسليحها، تتجاهل احتياجات القاهرة وهواجسها الدفاعية.
ولم يشفع لمصر انضمامها إلى اتفاقية “كيسموا” المشار إليها كاتفاقية مثيرة للجدل من زاوية مساسها بالسيادة الوطنية للدول الموقعة عليها، للحصول على ما كان محظورًا عليها من تكنولوجيا دفاعية، بما فيها الطائرات والذخائر.
وكرد فعل على ذلك الصلف الأمريكي، وتوسع “إسرائيل” في تحديث سلاحها الجوي نوعيًا، بالكم والكيف، في مدد زمنية قصيرة، قرر النظام المصري بحلول عام 2019، اللجوء إلى الحل الشرقي، ممثلًا في مقاتلات “سو 35” الغنية عن التعريف.
نظرًا لأهميتها القصوى وحساسيتها، فرضت القاهرة طوقًا سريًا على الصفقة التي قدرت قيمتها لاحقًا بحوالي ملياري دولار، حيث لم يحسم أمر شرائها أمام التكهنات الإعلامية إلا المراسل العسكري الروسي البارز المقرب مهنيًا من الأوساط الدفاعية في موسكو إيڤان ساڤرونوڤ.
ليس معلومًا ما إذا كان اللوبي الإسرائيلي النافذ قد لعب دورًا في هذا، لكن واشنطن التي ترفض تلبية مطالب القاهرة الدفاعية، لوحت بورقة “العقوبات” بموجب قانون “كاتسا” المشرع في عهد ترامب لفرض عقوبات على مشتري السلاح من أعداء الولايات المتحدة في المحور الشرقي.
لتصبح القاهرة بدءًا من عام إبرام الصفقة وحتى الإنتاج الفعلي لأول دفعة من الطائرات بصدد مأزق سيادي تاريخي: الصفقة بما تتضمنه من عقوبات أمريكية على المؤسسة العسكرية وقياداتها على غرار تلك التي فرضت على تركيا إبان صفقة “S400″، أو التخلي عن السيادة والطائرات والموثوقية في سوق السلاح العالمي.
وبحلول عام 2022، أفادت الدوريات العسكرية الدولية بأن الطائرات التي أنتجتها روسيا خصيصًا لسلاح الجو المصري، قد غيرت وجهتها من القاهرة إلى طهران، بناءً على انصياع القادة المصريين للضغوط الأمريكية، وحاجة طهران الماسة في نفس الوقت لتطوير سلاحها الجوي المتهالك، ضمن اتفاق دفاعي طويل الأمد مع موسكو لمدة 20 عامًا.
بنفس منطق إيثار السلامة، رضخ النظام المصري لضغوط واشنطن في العام التالي لوقف تصدير شحنة أسلحة كانت قد صنعت خصيصًا لموسكو في سياق الحرب ضد كييڤ، ووصل الرضوخ إلى تحويل وجهة الشحنة إلى الجهة المعاكسة تمامًا، من روسيا إلى أوكرانيا.
الاستباحة الجوية
يبدو أيضًا أن المساس بالسيادة الجوية لم يقف عند المنافذ المدنية التي انتشر فيها الضباط الروس تحت ذريعة تلافي المخاطر المحتملة على السياح، أو الحرمان من الحصول على الاحتياجات الدفاعية، لتشمل المجال الجوي بمفهومه المباشر.
فمن ضمن ما فجره طوفان الأقصى أكتوبر/تشرين الأول 2023، وآثاره العابرة للحدود، وما كشفت عنه أدوات الصحافة الاستقصائية مفتوحة المصدر، بما في ذلك مواقع تتبع مسارات الرحلات الجوية وتعقب الطائرات العسكرية، أن هناك تزايدًا ملحوظًا فجًا في استباحة المجال الجوي المصري من الجهة الشمالية الشرقية.
لعقود خلت، استقر التقليد العسكري على النظر إلى منظومة الدفاع الجوي المصرية باعتبارها واحدة من أكثر المنظومات فرادةً وتعقيدًا في العالم، وقد استند هذا التقدير إلى معطيات أبرزها تداخل الأدوات الدفاعية، الشرقية والغربية، في شبكة قيادة وسيطرة مركزية واحدة، تعمل جنبًا إلى جنب مع وسائل سلاح الجو المتخصصة في الكشف والإنذار المبكر مثل طائرات “أواكس” بعيدة المدى.
لكن البيانات الواردة عن موقع “Flight Radar” في نوفمبر/تشرين الماضي تشير إلى قيام مقاتلات “تايفون” الإيطالية التي اضطلعت بمهام حماية المجال الجوي للاحتلال من خطر المسيرات المعادية، باختراق المجال المصري من الجهة الشرقية إلى عمق سيناء.
يحدث هذا مع كل الدول تقريبًا، إذ إن القاعدة الأولى هنا هي أنه لا حماية كاملة، وأن ثمة متغيرات كثيرة تؤثر في مناعة المنظومات الدفاعية، بدايةً من أعمال التشويش المعادية، وليس انتهاءً بظروف الطقس التي قد تؤدي إلى الإضرار بكفاءة منظومات المراقبة، بما فيها مسح السماء بشريًا باستخدام الجنود حاملي أدوات الرصد الكهروبصري.
لكن تحقيقًا استقصائيًا عملت عليه “عربي بوست” باستخدام الأدوات الاستقصائية مفتوحة المصدر كشف عن كارثة تقنية، وهي استباحة إحدى طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المجال الجوي المصري على نحو منهجي مطرد، دون أي مقاومة أو اعتراض.
تشير الأدوات المستخدمة في التحقيق إلى أن الطائرة الإسرائيلية من نوع “B703” وهي طائرة مدنية من طراز “بوينغ” جرى تعديلها وتشغيلها للقيام بمهام التزود بالوقود جوًا والاستطلاع، ولأسباب غير معروفة، اخترقت الطائرة السماء المصرية حوالي 100 مرة، خلال 5 أشهر، إلى أن وصلت عمق 172 كيلو مترًا بالقرب من الإسماعيلية.
ووفقًا لتقارير سابقة، فإن تلك الطائرة نفسها اعتادت استباحة المجال الجوي لدول الطوق المحاذية للأراضي المحتلة، لبنان والأردن وسوريا، كان أبرزها في أثناء التحضير لعملية الرد على الهجوم الإيراني “الوعد الصادق”، وذلك منتصف أبريل/نيسان الماضي.
السودان.. إذلال وتفكيك للأصول
من الشمال إلى الجنوب، من غزة إلى السودان الذي كان حتى منتصف القرن الماضي تابعًا رسميًا، اسميًا على الأقل، للمملكة المصرية، حيث لم يتوقف العبث بالأمن القومي المصري في حديقته الخلفية عند تمزيق السودان إلى شطريْن على أساس طائفي – اقتصادي عام 2011.
لنصل بعد عقد تقريبًا في ظل “الجمهورية الجديدة” إلى حالة يتم فيها تفكيك الوجود المصري في السودان الشمالي الأقرب لغةً ودينًا وجغرافيًا للحدود المصرية، أمام مرأى ومسمع من قيادات الجيش المفوضة شعبيًا لحماية الأمن القومي، لصالح قوى إقليمية لم تكن موجودة سياسيًا على الخريطة قبل 50 عامًا مضت.
ففي أبريل/نيسان 2023، فتكت قوات الدعم السريع التي تصنف ميليشيا متمردة متواضعة الحجم والعتاد، لا تستند جوهريًا على أكثر من الدعم المالي الخارجي، بالحامية المصرية الواقعة شمال السودان، وتحديدًا في قاعدة “مروى” الجوية.
اقتحمت الميليشيا حرم القاعدة المعروف تواجد القوات المصرية فيها لأغراض تدريبية تتعلق بالتهديدات الإثيوبية، وأسرت كتيبةً عسكرية، ودمرت أصولًا عسكرية ثمينة من مقاتلات ميج 29 الروسية في أكثر نسخها تطورًا، والتي تتبع سلاح الجو المصري، واستحوذت على منظومات “شابرال” للدفاع الجوي قصير المدى.
وفي تعبير شديد الدلالة على “تآكل الردع” وتجرؤ المحيط الإقليمي على المصالح المصرية، صورت قوات الدعم السريع مقاطع تتضمن إهانة متعمدة لقوات النخبة المصرية، ولم توافق على إطلاق سراحهم إلا بعد تدخل الوسيط الإماراتي، الذي صار لاعبًا بارزًا في الساحة السودانية.
المياه.. “نهضة” إثيوبيا بجفاف القاهرة!
تعاني مصر من شح مائي مدقع في موارد المياة العذبة، فالحصة المحدودة البالغة 55 مليار متر مكعب سنويًا من المنابع الجنوبية ثابتة نظريًا، وتتقلص عمليًا بفعل متغيرات مناخية وفنية، والنهر واحد يتيم، عكس دول أخرى تقطع أراضيها عدة أنهار، وليس نهرًا واحدًا.
وفي نفس الوقت، تفتقر مصر إلى الوفرة في المصادر غير المباشرة من المياة النظيفة مثل الأمطار والمياة الجوفية، إذ يبلغ معدل هبوط الأمطار حوالي 18 مليمترًا سنويًا فقط، وهي نسبة شديدة الضآلة، إذا ما قيست على الاحتياجات المائية للبلاد، أو إذا ما قورنت بدول مثل إثيوبيا، التي تتمتع إلى جانب الوفرة النهرية، بمعدلات هائلة في سقوط الأمطار.
بالأرقام والإحصاءات، لا تعد مصر واحدة من أكثر دول العالم جفافًا وحسب، وإنما يتداعى نصيب الفرد فيها من المياة إلى ما دون الفقر المائي، فبينما يرتبط الفقر بمتوسط ألف متر مكعب سنويًا من المياة لكل إنسان، فإن نصيب المواطن المصري هو نصف هذا الرقم.
يقول السيسي إن شح الموارد المائية المصرية هو تحد وجودي لم يفارق تفكيره منذ أن كان مديرًا للمخابرات الحربية قبل ثورة يناير، وهي الحدث – الثورة – الذي ساهم في توفير البيئة السياسية المناسبة لإقدام إثيوبيا على تهديد تدفق نهر النيل إلى مصر، بالشروع في تدشين سد النهضة.
وبناءً عليه، اعتبرت الجمهورية الجديدة أن الحفاظ على حصة مصر التاريخية من مياة نهر النيل إزاء التهديدات الإثيوبية لن يكون كافيًا لتأمين الاحتياجات الوطنية من المياة، في ظل الزيادة السكانية المطردة، وإنما سيكون لزامًا عليها اقتحام مجالات شديدة التعقيد والتكلفة مثل تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف الصحي وتقليص زراعة الحاصلات المستهلكة للمياه وتغيير نظم الري.
لكن ما حصل على أرض الواقع إزاء هذا التحدي الوجودي جاء مختلفًا مغايرًا مخيبًا للآمال، فقد منح السيسي إثيوبيا مارس/آذار 2015 توقيعًا يتضمن قبولًا رسميًا بإنشاء السد، وإطلاق مرحلة مفاوضات حول التفاصيل التالية للإنشاء، مثل الملء والتشغيل.
وبظفر أديس أبابا بهذه الوثيقة القانونية، وإصرار النظام المصري غير المفهوم على عدم التخارج منها، مضت في سياسة الأمر الواقع، مستغلةً عجز الدبلوماسية المصرية عن فرض شروطها ولو بالضغوط الدولية، وعدم جدية القاهرة في استخدام الخيارات الخشنة، رغم كثرة التلويح بها.
بعد حوالي عقد من توقيع السيسي على وثيقة الاعتراف بمشروعية سد النهضة، بدأت إثيوبيا الملء الخامس منفردةً دون التوصل إلى اتفاق مع الجانب المصري، كما تكتسب أديس أبابا زخمًا دبلوماسيًا في الحديقة الخلفية للقاهرة، السودان، مما يضعف صلابة الموقف المصري، لا سيما بعد تفكيك الحامية العسكرية المصرية في قاعدة “مروى”.
استنادًا إلى صور الأقمار الصناعية المحدثة بتاريخ 22 يونيو/حزيران من العام الجاري، يقول عباس شراقي بروفيسور الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة إن المعطيات التقنية ترجح تحسنًا كبيرًا في قدرة إثيوبيا على إدارة الفيضان في موسم الأمطار الحالي، وذلك بفضل بوابات التصريف وبوابات المفيض العلوية والتوربينات المستحدثة، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن “كل متر تخزنه إثيوبيا يخصم من حصة مصر في مياة النيل الأزرق”.
“إسرائيل”.. الدوس على الخط الأحمر
مع اندلاع معركة “طوفان الأقصى” أكتوبر/تشرين الأول الماضي على بعد أمتار من حدودها، أعلنت القاهرة أمام الرأي العام العالمي فلسفتها في التعاطي مع هذا الحدث الاستثنائي، والتي تقوم على إدانة اقتحام مستوطنات غلاف غزة وجملة ما حدث صبيحة يوم السبت من حركة حماس، دون الإخلال بالانحياز التاريخي للشعب الفلسطيني المحاصر، والذي يتعرض لحملة عسكرية تتسم بالوحشية وعدم التناسب.
وبالتزامن مع لعبها دور الوساطة الإيجابية لتجنب عدم انزلاق الإقليم إلى حرب شاملة ستمتد نارها إلى الجميع، قالت القاهرة إن لديها عدة “خطوط حمراء”، بعدم المساس بها ستظل بعيدةً عن الانخراط المتوتر في الأزمة.
بتحليل تلك الخطوط الحمراء، يتضح أنها تتعلق كليًا بالحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، أو بلغة أوضح، فإن المخاطب بتلك التحذيرات هي “إسرائيل” فقط. وتتمثل تلك الخطوط الحمراء في عدم اتخاذ إجراءات ميدانية تؤدي إلى دفع الفلسطينيين قسرًا للحدود المصرية، وهو ما يعني نكبة جديدة وتصفية للقضية على حساب سيناء المصرية، وبعدم غزو مدينة رفح، المتاخمة للحدود المصرية.
على أرض الواقع، لم يكد يمر الأسبوع الأول من مايو/آيار 2024، إلا وقد أقدمت “إسرائيل” على استباحة الخط الأحمر المرسوم من النظام السياسي في مصر. غزت رفح الفلسطينية، التي نزح إليها جل فلسطينيي الشمال أول الحرب، بعد اجتياح خان يونس. واحتلت محور فيلاديلفيا المتاخم للحدود المصرية، بالمخالفة لأحد البنود المستحدثة من اتفاقية “كامب ديفيد” عام 2005، بل وقتلت عددًا من الجنود المصريين في رفح المصرية.
لم تتوقف الإهانة الإسرائيلية المتعمدة للقاهرة عند هذا الحد، فقد تكررت عمليات قتل الجنود داخل الحدود المصرية، ودمرت معبر رفح البري من الجانب الفلسطيني، بما أدى إلى قطع الشريان المصري، الدبلوماسي والتجاري، مع عالم غزة، وتقليص المساعدات الشحيحة النافذة إلى القطاع لحدها الأدنى، مع فشل اللسان الأمريكي المستحدث على شواطئ القطاع في تلك المهمة.
ومع الصمت المصري غير المفهوم تجاه العربدة الإسرائيلية، تجرأت “إسرائيل” على المزيد من الاستباحة للمصالح المصرية، حيث اتهمت القاهرة أمام المحاكم الدولية بالمسؤولية عن حصار الفلسطينيين، بل وعن تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر محور فيلاديلفيا.
ليغدو الوضع كالتالي: القاهرة مجردة من أي أوراق سياسية في ظل عدم طرح إمكانية الانسحاب من اتفاق السلام أو تخفيض العلاقات مع “إسرائيل”، باعتبارها “خطوط حمراء” حقيقية، واستباحة جوية، وخسائر بشرية، وممارسات استفزازية، وصياغة وضع أمني جديد على الحدود مع غزة، لا يراعي الحد الأدنى من الشواغل المصرية.
انحسار البحار
تعد البحار “حجر الزاوية” في الاستراتيجية الأمنية الكونية في العصر الحديث، كما يؤكد أحد عرابي الاستراتيجية الأمريكية، وأبرز الأسماء في التنظير الأكاديمي، ألفريد ماهان. فعبر البحار، تتحرك قوافل الشحن التجاري العالمية، محملة بملايين الأطنان من البضائع والطاقة، يوميًا، مما لا يمكن للنقل البري أو الجوي استيعابه بحال. وفي عمقها تكمن الثروات الطاقوية محل النزاع الدولي وتمر كابلات نقل الاتصالات العالمية، وعلى رؤوسها تدشن الموانئ والقواعد البحرية والمدن السياحية.
لكن ما أمكن ملاحظته، أنه خلال عقد من حكم الرئيس العسكري في “الجمهورية الجديدة” تضررت المصالح السيادية المصرية في البحار الممتدة على نطاق نحو 3 آلاف كيلومتر، هي أطوال السواحل المصرية على المتوسط شمالًا والبحر الأحمر شرقا، جذريًا.
بالقرب من البحر الأحمر، فقدت الخريطة السياسية المصرية ما تتجاوز مساحته 100 كيلومتر مربع، في نقطة شديدة الاستراتيجية بالقرب من ميناء إيلات الإسرائيلي وخليج العقبة الأردني والحد البحري الشمالي للسعودية والمدخل الرأسي لقناة السويس، وهما جزيرتا تيران وصنافير، بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي حازت صفة الرسمية 2017.
لتصبح تيران وصنافير النقطة الإستراتيجية الثانية التي يتم سلبها من الدولة المصرية في العصر الحديث على البحر الأحمر، بعد منطقة “أم الرشراش” التي احتلتها “إسرائيل” بالقوة في العملية “عوفيدا” 1949، لتؤسس عليها ميناء إيلات، نافذتها الوحيدة على البحر الأحمر.
وبسبب سياسة اليد المغلولة إزاء الإبادة الجارية في غزة، وضمن نظرية “تأثير الدومينو”، فقد تضررت المصالح الاقتصادية المصرية جنوب البحر الأحمر، بعد إطلاق جماعة “أنصار الله” اليمنية العملية العسكرية للحد من حركة التجارة البحرية إلى “إسرائيل”، وهو ما أثر سلبًا بالتبعية على إيرادات قناة السويس.
على ضفاف المتوسط، تقول ورقة بحثية جديدة نشرتها منصة “حلول للسياسات البديلة” التابعة للجامعة الأمريكية في القاهرة إن 67% من المشروعات السياحية العملاقة التي طرحها النظام المصري على الساحل الشمالي للبلاد قد ذهبت إلى تحالفات خليجية، تعد أذرعًا سياسية لدولها، بما في ذلك مشروع “رأس الحكمة” الذي منحه النظام للإمارات على مساحة 175 مليون متر مربع، مقابل حزمة إنقاذ عاجلة بقيمة 35 مليار دولار.
ورغم تاريخها المشبوه في هذا المضمار، فقد وافقت الحكومة المصرية على منح الإمارات أيضًا عقودًا ممتدة تتراوح بين 15 إلى 30 عامًا لمباشرة أنشطة تقنية واستثمارية داخل أكبر الموانئ المصرية على المتوسط، مرفأي العريش وغرب بورسعيد.
كما آثر النظام المصري التفريط فيما لا يقل عن 10 آلاف كيلومتر مربع من المياة الاقتصادية الخالصة، إثر إصراره على ترسيم الحدود البحرية مع اليونان 2020، بغرض النكاية في تركيا وحصارها بواسطة حلف يشمل أيضًا قبرص الرومية و”إسرائيل” في جنوب شرق المتوسط.
وذلك بعد 17 عامًا من واقعة مشابهة اقترفها نظام مبارك إثر توقيعه على اتفاقية مشبوهة لترسيم الحدود البحرية مع قبرص الجنوبية، أدت إلى “حرمان مصر من شريط بحري يعادل ضعف مساحة الدلتا حتى يصبح لليونان اتصال بحري حدودي بقبرص، ويمكن لأنبوب الغاز مع “إسرائيل” الوصول إلى أوروبا عبر مياة يونانية قبرصية”، كما يقول أحد الباحثين البارزين في هذا الملف.
وبسبب تلك السياسات التي تؤثر المصالح السياسية على الاعتبارات القومية بين نظامي مبارك والسيسي، وبالأخص في ملف الحدود البحرية – الغاز، في المتوسط، فقد تحولت مصر إلى مستورد للغاز الطبيعي من “إسرائيل”، بموجب عقد بقيمة 15 مليار دولار، ما جعل اقتصاد البلاد تحت رحمة “دولة مجاورة” وفقًا لتصريح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
وفي المحصلة، لا يبدو أن وعد السيسي للمصريين عن دوره المنتظر في تحسين الوضع الأمني الإقليمي للبلاد قد تحقق، بل على العكس، تقول الوقائع والمعطيات إن البلاد صارت مستباحة، وتمر بلحظة حرجة غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، يذهب البعض إلى أنها قد ترقى للتهديد الوجودي.