ترجمة وتحرير: نون بوست
حل موسم الأعياد الدينية في الأراضي المقدسة، وقد تزينت أجزاء من البلدة القديمة بفوانيس تحمل الألوان الصفراء والخضراء والحمراء، احتفالا بشهر رمضان. وفي يوم الجمعة الأولى من هذا الشهر، امتلأت الشوارع في الحي الإسلامي بالحركة بعد أن كانت هادئة في معظم الأوقات. وكان الأطفال الصغار على جوانب الطريق يرفعون أصواتهم بأسعار الحلويات لجلب المارة الجائعين، الذين يصومون منذ طلوع الشمس إلى غروبها كل يوم طيلة شهر رمضان.
كما يتدفق في هذه المناسبة الفلسطينيون من كل أنحاء “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية، على متن حافلات وسيارات، لإقامة صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وهو المكان المقدس الذي يؤمن المسلمون أن النبي محمد صلى فيه. وقالت فاطمة بدر، الشابة المسلمة البالغة من العمر 19 سنة، والتي توجهت إلى المسجد رفقة أمها واثنين من النساء: “في يوم الجمعة فقط يمكننا دخول الأقصى، وهذا فقط في شهر رمضان. أما في بقية الشهور فإنه غير مسموح لنا بالدخول لهذا المكان، ولذلك، تمتزج هذه اللحظات بالنسبة لي بالعاطفة والمشاعر القوية”.
تخيم على حياة المسلمين في القدس مشاكل عديدة مثل تصاريح الدخول والخروج والتطورات السياسية، ويظهر هذا التأثير بشكل خاص مع بداية رمضان خلال هذا الأسبوع. ففي يوم الإثنين، تم افتتاح السفارة الأمريكية في القدس. وفي يوم الثلاثاء، أحيى الفلسطينيون ذكرى النكبة، التي تمثل الهزيمة التي مني بها العرب في الحرب التي دخلوها في 1948 لمنع إقامة دولة يهودية، وما تلاها من مأساة تعرض لها الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره من البلدات والأراضي الذي يسكنها.
خلال الفترة الأخيرة، خيمت أحداث العنف على قطاع غزة، حيث تجمع المتظاهرون على امتداد السياج الفاصل بينهم وبين “إسرائيل”. وأثناء اقتراب بعض المتظاهرين من السياج، قامت القوات الإسرائيلية بإطلاق الغاز المسيل للدموع والأعيرة النارية على من تجرؤوا على الاقتراب، خوفا من عملية اختراق للحدود.
مع تراجع الاحتجاجات في قطاع غزة، في الوقت الحالي على الأقل، وبدأ رحيل الصحفيين والأطقم التلفزيونية، ستتواصل نفس المعاناة اليومية للفلسطينيين
كانت حركة حماس، التي تمثل تنظيما مسلحا وحزبا سياسيا في نفس الوقت يشرف على إدارة قطاع غزة، قد نظمت مسيرة العودة لتكون مناسبة يطالب فيها الفلسطينيون بحقهم بالعودة لمنازل أجدادهم، التي أقيمت عليها ما تسمى الآن دولة “إسرائيل”. ولاحقا، أعلنت حماس أن 50 من جملة 62 سقطوا خلال هذه الاحتجاجات يومي الاثنين والثلاثاء، ينتمون إلى صفوفها. عموما، من المستحيل التأكد من صحة هذا الادعاء، وربما تكون هذه الحركة بصدد تعمد المبالغة في إظهار نفوذها في القطاع.
مع تراجع الاحتجاجات في قطاع غزة، في الوقت الحالي على الأقل، وبدأ رحيل الصحفيين والأطقم التلفزيونية، ستتواصل نفس المعاناة اليومية للفلسطينيين. ففي الغالب، تتداخل مشاكل التراخيص والسياسة، مع طابع الحياة الجميل والروحاني في شهر رمضان، مع تذكير دائم بالتوترات الكامنة، التي انفجرت خلال الأسبوع الماضي، ثم عادت لتشهد هدوءا من جديد مع عودة الوضع القائم ذاته، في انتظار أن يحدث انفجار آخر في أي لحظة.
في وقت اهتمت فيه وسائل الإعلام بصور قنابل الغاز والجدار الدخاني الذي أحدثه حرق الإطارات المطاطية في غزة، تدور قصة أخرى أكثر هدوء، أبطالها بقية الفلسطينيين الذين عاشوا هذا الأسبوع دون أن يشاركوا في المظاهرات الحاشدة والفوضوية، ولكن ما يعيشونه أيضا لا يقل أهمية. أفادت سيدة تدعى سارة، وهي فلسطينية مولودة في الولايات المتحدة وتعيش في القدس مع زوجها سامر: “لا أخرج من المنزل كثيرا، أحاول البقاء في الداخل. ولكن الأوضاع السياسية خيمت على كل شيء، حتى على الحديث أثناء تناول الإفطار، وفي الأوقات المتأخرة من الليل ووقت السحور، وأثناء التجمع للصلاة في المسجد الأقصى، لا يمكنك أن تركز على صلاتك”.
أما زوجها سامر فقد أخبرنا بأنه كان متوترا بشأن القدوم إلى المسجد الأقصى، وعبور الجحافل من الفلسطينيين الغاضبين والجنود الإسرائيليين الذين يتواجدون بأعداد كبيرة مدججين بأسلحتهم في كل مداخل الأقصى. وأضاف سامر: “لقد أصبحت متقدما في السن، وأريد فقط أن أعيش وأهتم بعائلتي وعملي، فأنا لدي الكثير من الفواتير لأسددها، ولكن بصراحة في أعماقنا لا أحد منا سعيد بما يجري”.
واشنطن قد أعلنت أنها قد اختارت هذا التاريخ بالذات لفتح السفارة، لأنه يصادف ذكرى ما يسمى استقلال” إسرائيل”
تعيش أغلب أجزاء القدس حاليا أجواء احتفالية، إذ أن اليهود سوف يحتفلون قريبا بعيد الشافوعوت (عيد الأسابيع)، الذي يعتقدون أن الله أنزل فيه التوراة في جبل سيناء. أما المسيحيون، سيحتفلون بعيد العنصرة (عيد الخمسين) الذي يقصد به حلول الروح القدس على تلاميذ المسيح، وميلاد الكنيسة. بالنسبة للمسلمين، فإن شهر رمضان يمثل بداية نزول الوحي القرآني على النبي محمد، وعلى امتداد كافة أيام الشهر المقدس، يتلو المسلمون صلوات وأدعية خاصة، ويمسكون عن الأكل والشرب خلال ساعات النهار، ويقضون السهرات في تناول الأطباق اللذيذة الخاصة بهذا الشهر.
أفادت بدر، قائلة: “أنا أنتظر هذا اليوم للقدوم إلى هنا في كل عام”. وتأتي هذه الفتاة وعائلتها غالبا لشراء كميات كبيرة من الكعك (وهو خبز طويل ودائري مغطى بحبات السمسم). وتعشق بدر تلاوة الصلوات والأدعية الخاصة برمضان، في المسجد الأقصى. وقد صرحت بدر أنه “في أجواء الليل والنسمات المنعشة، تبدو الأجواء رائعة، فتشعر بأنك قريب من الله، خاصة وأنك في هذا المكان المقدس”. ورغم أن بدر تعيش في مدينة الخليل، التي تبعد 20 ميلا عن القدس، فإنه يتوجب عليها انتظار شهر رمضان من كل سنة لزيارة الأقصى، لأن الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية، لا يحق لهم عادة دخول القدس، إلا في إطار ظروف استثنائية مثل الحالات الطبية الطارئة.
في شهر رمضان، تمنح السلطات الإسرائيلية تراخيص سفر للناس الذين يريدون أداء الصلاة. وبالنسبة لكثيرين، فإن هذا الشهر ليس فقط مناسبة للصلاة وتذوق الحلويات الطيبة، بل هو يمثل فرصة نادرة لزيارة الأهل والأقارب الذين يعيشون في “إسرائيل”، والقيام ببعض التسوق والذهاب في رحلات لرؤية البحر الأبيض المتوسط.
أثناء التجمعات والمظاهرات التي شهدتها مدينة رام الله في بداية هذا الأسبوع إحياء لذكرى النكبة، شعر بعض الفلسطينيين بالقلق من إمكانية إلغاء “إسرائيل” لهذه التراخيص، خاصة بسبب حدة الاحتجاجات في غزة. وأفادت عهد عواد، البالغة من العمر 28 عاما: “أعتقد أن “إسرائيل” والولايات المتحدة قررتا إعلان فتح السفارة في هذا اليوم بالذات، أي قبيل شهر رمضان، لجعل الناس أكثر غضبا وإحباطا”.
كل الأشخاص تقريبا الذين تحدثنا معهم في رام الله والقدس، قالوا إنهم يصلون لأجل الضحايا الذين قتلوا أو جرحوا خلال احتجاجات قطاع غزة
كانت واشنطن قد أعلنت أنها قد اختارت هذا التاريخ بالذات لفتح السفارة، لأنه يصادف ذكرى ما يسمى استقلال “إسرائيل”. من جهته، أشار عمر حماد، صهر عهد عواد، إلى أنه لم يكن يخشى أن تلغي “إسرائيل” التراخيص، بما أن المسلمين ينفقون أموالا كثيرة في متاجر الإسرائيليين خلال رمضان. في هذا الصدد، أوضحت عهد، أن “كل شيء علينا توقعه من قتلة الأطفال”، في إشارة منها إلى الرضيعة ليلى غندور البالغة من العمر 8 أشهر، التي فارقت الحياة خلال احتجاجات غزة بسبب استنشاقها للغاز المسيل للدموع (يشار إلى أن طبيبها أعلن لاحقا أنها ربما تكون قد توفيت بسبب عيب خلقي في القلب).
كل الأشخاص تقريبا الذين تحدثنا معهم في رام الله والقدس، قالوا إنهم يصلون لأجل الضحايا الذين قتلوا أو جرحوا خلال احتجاجات قطاع غزة. في هذا الشأن، صرح عمر حماد، أنها “بداية مؤسفة لشهر رمضان”. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، فإن حوالي 2700 جرحوا يومي الاثنين والثلاثاء، إلى جانب سقوط 62 شهيدا.
تماما مثل كل من تحدثنا إليهم، عبر حماد عن تأثره بما يحدث وغياب تركيزه الروحي خلال الشهر المقدس، حيث أفاد أنه “كان يفترض أن يكون شهر رمضان احتفالا، وشهرا للسلام والسكينة لكل المسلمين حول العالم… ولكن دخول هذا الشهر بهذه الطريقة هو أمر مؤسف. إن الصائم يحتاج للصبر في رمضان، والتجارب مثل التي عاشها الناس بالأمس في قطاع غزة تؤثر على معنوياتك وتشعرك بالإحباط”.
رغم أن كثيرين من الفلسطينيين يعبرون بوضوح عن غضبهم، حول ما يعتبرونه عربدة وقمعا إسرائيليا في غزة، فإن الأوضاع في القدس والضفة الغربية شهدت هدوءا نسبيا خلال هذا الأسبوع. وحتى الاحتجاجات التي شهدتها رام الله يوم الثلاثاء، اجتذبت فقط حوالي 200 شخص، بعضهم من السياح الأوروبيين الذين جاؤوا متحمسين لرفع الأعلام الفلسطينية والتعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين.
تعتبر محدودية المظاهرات في المناطق الأكثر قربا من القدس، دليلا على عدم صحة الرواية التي تقول بأن قرار ترامب بنقل السفارة هو السبب الرئيسي للفوضى في قطاع غزة
تماما مثلما هو الحال في باقي القرى والبلدات الفلسطينية، فإن أغلب المحلات والمؤسسات الحكومة شهدت إضرابا يوما كاملا للاحتجاج على النكبة. وقد خيمت على المدينة المغلقة حالة من الاسترخاء، ولم تبد عليها مظاهر الاستعداد للمواجهة. وقد جلس الرجال في حلقات يتحدثون ويدخنون على جوانب الشوارع، فيما فضل أغلب الناس البقاء في منازلهم.
تعتبر محدودية المظاهرات في المناطق الأكثر قربا من القدس، دليلا على عدم صحة الرواية التي تقول بأن قرار ترامب بنقل السفارة هو السبب الرئيسي للفوضى في قطاع غزة. وفي الواقع، تعد الظروف المعيشية الصعبة في القطاع، مثل نقص مياه الشرب والكهرباء، وتوقف صرف الأجور، وانتشار البطالة والتضييق على حرية الحركة، عوامل غذت الرغبة في الاحتجاج.
من جهتها، عملت حماس على تشجيع الناس على التوجه نحو الحدود. وفي مناطق فلسطينية أخرى، حيث يعيش الناس أوضاعا اقتصادية أقل سوءا، ولا تسيطر حركة حماس التي تعتبرها الولايات المتحدة ودول أخرى تنظيما إرهابيا، يبدو أن غضب الناس يتجه نحو الخمود، عوضا عن التصعيد. وكما أخبرتنا إحدى الشابات، فإن الاحتجاجات في مناطق مثل رام الله، عادة ما تكون مؤقتة.
على هذا النحو انتهى أسبوع مليء بالأحداث المأسوية والآلام. ولكن على الرغم من الموت والدمار، والرمزية الهائلة لخطوة نقل السفارة، فإن العديد من الأمور الأخرى لا تزال على حالها.فقد حل رمضان هذه السنة كما في السنوات السابقة، والمسلمون الفلسطينيون حصلوا على تراخيصهم، وركبوا الحافلات نحو الأقصى. وعلى مدى أربعة أسابيع على الأقل، سوف يتمكن الناس من رام الله والخليل والقدس من الالتقاء للصلاة وتناول الطعام، والاستمتاع بمشهد الأطفال الصغار وهم يلعبون بالمسدسات المائية أثناء خروجهم من الأقصى.
سيأتي الناس إلى هنا كل أسبوع إلى أن يتم منعهم من ذلك، وهم يصلون دائما حتى يتغير هذا الأمر رغم صعوبة تحقق الأمنية. أما سلام أبو سليم، وهي طالبة جامعية من نابلس، فقد تؤكد أنها ستأتي إلى القدس كل أسبوع، قائلة: “أنا آتي هنا لأخاطب الله وأخبره بأننا خائفون”.
المصدر: الأتلانتيك