ترجمة وتحرير: نون بوست
أثبت الحوثيّون المدعومون من إيران أنهم مشكلة عويصة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. فمنذ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والهجوم الإسرائيلي اللاحق على قطاع غزة، شنّ الحوثيون – وهم جماعة شيعية متمردة تسيطر على جزء كبير من اليمن بعد حرب أهلية دامت حوالي عقدًا من الزمان – هجومًا على “إسرائيل” وحاولوا استخدام موقعهم في البحر الأحمر لتعطيل سير حركة الملاحة في المنطقة. هاجموا السفن التجارية والعسكرية في المنطقة مما أدى إلى إنشاء تحالف بقيادة الولايات المتحدة لمحاولة كبح جماحهم. لكن أفضل جهود هذا التحالف فشلت في ردع الحوثيين.
بعد تباطؤ قصير في نيسان/ أبريل وأيار/ مايو، تسارعت وتيرة هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر بشكل كبير في حزيران/ يونيو مسجلةً أكبر عدد هجمات منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
لم تؤكد هجمات تموز/ يوليو إلا مدى إصرار هذه الجماعة التي لا تبدو مستعدة للتراجع. ففي التاسع عشر من تموز/ يوليو، نجح الحوثيون في ضرب تل أبيب بطائرة مسيرة من صنع إيراني، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة عشرة آخرين على الأقل.
كانت هذه المرة الأولى التي يتمكن فيها الحوثيون من ضرب الأراضي الإسرائيلية بعد أشهر من المحاولة. كما أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن الهجمات على ميناء إيلات في جنوب “إسرائيل”. وعلى إثر ذلك، ردت “إسرائيل” باستهداف خزانات النفط والبنية الأساسية الأخرى في ميناء الحديدة اليمني، مما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة العشرات.
في الأشهر السابقة، ضربت القوات الأمريكية والبريطانية أهدافا عسكرية للحوثيين في هجمات تهدف إلى معاقبة المسلحين ومنعهم من شن هجمات من جانبهم. لكن مواصلة قصف الجماعة حتى إخضاعها لن ينجح: فالحوثيون قادرون على تحمل عقاب كبير ومواصلة شن الهجمات ضد سفن الشحن في البحر الأحمر وضد “إسرائيل”. علاوة على ذلك، لا يشعر الحوثيون بالقلق إزاء فقدان بعض قدراتهم العسكرية.
الواقع أنهم يعتقدون على الأرجح أنهم يربحون، ليس بالضرورة الحرب على الأرض بل حرب المعلومات. فإن القتال ضد الولايات المتحدة و”إسرائيل” يمثّل جزءاً أساسيا من الطريقة التي يعرّف بها الحوثيون أنفسهم (وتشمل شعاراتهم “الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا!”)، كما أن دعمهم للشعب الفلسطيني يتردد صداه على نطاق واسع في اليمن وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وبالتالي، تمكن الحوثيون من استخدام العنف بنجاح لتصوير أنفسهم باعتبارهم المدافعين عن الفلسطينيين، وتعزيز شرعيتهم في الداخل والخارج، وإظهار أهميتهم كعنصر رئيسي في “محور المقاومة” الإيراني ــ شبكة من المنظمات العسكرية الشيعية وغير الشيعية التي تمتد من العراق إلى لبنان والتي تستخدمها طهران لنشر نفوذها في المنطقة.
ظنّ زعماء الحوثيين أنهم يكسبون المزيد من الإطراء والدعم في المنطقة من خلال شن هذه الهجمات أكثر مما يخسرونه من الاضطرار إلى تحمّل القصف. وهم ينظرون إلى حربهم باعتبارها مبادرة للعلاقات العامة، وحتى الآن، كانت تستحق في نظرهم كل نقطة من الدماء والثروة.
القلوب والعقول
منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، استهدف الحوثيون أكثر من 70 سفينة في البحر الأحمر وخليج عدن في هجمات أسفرت عن مقتل أربعة بحارة وإغراق سفينتين واختطاف سفينة ثالثة. وأدى هذا الارتفاع في موجة العنف إلى تلميع صورة الحوثيين باعتبارهم أبطال الفلسطينيين وخصمًا شجاعًا للغرب. ولم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من وقف موجة الهجمات أو كبح الحملة الدعائية للجماعة.
ويزعم الحوثيون أن هجماتهم هي رد على غزو “إسرائيل” لغزة ووعدوا بالاستمرار حتى توافق “إسرائيل” وحماس على وقف إطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية بحرية إلى المنطقة المدمرة.
كان للهجمات عواقب وخيمة على التجارة الدولية في البحر الأحمر – ففي الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2024، انخفضت حركة الشحن عبر المنطقة بمقدار النصف. وفي سنة 2023، تعاملت السفن التجارية التي تمرّ عبر قناة السويس والبحر الأحمر مع ما يقدر بنحو 15 بالمئة من التجارة العالمية، بما في ذلك 25 إلى 30 بالمئة من جميع شحن الحاويات.
سعى تحالف متعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة إلى حماية السفن في البحر الأحمر من خلال إسقاط صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة وضرب الأصول العسكرية الحوثية في اليمن. لكن من الواضح أن هذه الجهود لم تكن كافية لحماية التجارة العالمية.
تكمن المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة في أنها ركزت كثيرًا على الأبعاد العسكرية للصراع. قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كان الحوثيون يكافحون من أجل تعزيز سلطتهم على الأراضي التي يسيطرون عليها وصرف الانتباه عن سجلهم السيئ في الحكم. وعززت ضرباتهم اللاحقة ضد إسرائيل وسفن الشحن في البحر الأحمر شرعيتهم بشكل كبير داخل اليمن وفي المنطقة الأوسع. نزل الآلاف من اليمنيين إلى الشوارع في كانون الثاني/ يناير في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين نظمها الحوثيون، مما سلط الضوء على شعبية القضية ودور الحوثيين كقائد لها.
وضع هذا الدعم العلني للفلسطينيين أعداء الحوثيين المحليين – التحالف المناهض للحوثيين في اليمن – في موقف دفاعي حيث سارعوا إلى إدانة تصرفات الحوثيين مع الاستمرار في ترديد الدعم الخطابي للحوثيين للفلسطينيين. ويصر الحوثيون على أن كفاحهم نيابة عن غزة المحاصرة أدى إلى تعزيز صفوفهم. ويزعمون أنهم جنّدوا أكثر من 100 ألف مقاتل جديد (وهو رقم قد يشمل أيضًا جنودًا أطفالًا) منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
تقدم وسائل الإعلام الحوثية، بما في ذلك “المسيرة”، وهي منصة إعلامية رقمية مقرها بيروت ناطقة باللغة الإنجليزية والعربية، وكذلك الخطابات التلفزيونية لزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، فكرة جيدة عن روح هذه الحملة الدعائية. لقد صاغت رسائل الحوثيين باستمرار هجمات الجماعة كجزء من القتال ضد إسرائيل ومحاولة لفرض التهدئة في غزة.
كما يزعمون أنهم يستهدفون فقط السفن المرتبطة بإسرائيل، على الرغم من أن العديد من السفن التي هاجموها لا يبدو أنها مرتبطة بها. ويصور الحوثيون أنفسهم باعتبارهم أبطالاً شجعانا للقضية الفلسطينية وأحد الجهات الفاعلة القليلة في الشرق الأوسط التي هي على استعداد للوقوف في وجه الغرب.
أكد الحوثيون علاقاتهم بإيران وأعضاء آخرين في “محور المقاومة” حتى أنهم يزعمون أنهم نفذوا عملية عسكرية مشتركة مع ميليشيا مدعومة من إيران في العراق لاستهداف ميناء حيفا الإسرائيلي. فرحت وسائل الإعلام الحوثية بالثناء الذي تلقته الجماعة من شركائها في طهران. وفي كانون الثاني/ يناير، أشاد القادة الإيرانيون بالحوثيين على “موقفهم القوي والموثوق في دعم الشعب الفلسطيني المضطهد”.
يعتقد الحوثيون أن تعزيز مكانتهم في المنطقة يجعل هزيمة الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضدهم أسهل بكثير. تبنى الإيرانيون فكرة مفادها أنهم “يتعرضون للهجوم” من جانب الولايات المتحدة وأنهم يواجهون الإمبريالية، وهي الرسالة التي تروجها الأنظمة الاستبدادية القمعية، التي غالباً ما تحقق نجاحا عظيماً. والواقع أن زعيمهم أصر على أن “مواجهة أميركا بشكل مباشر شرف ونعمة عظيمة”.
لكن من الواضح أن المرء لا يحتاج إلى التعاطف مع أهداف الحوثيين لفهم ما تحاول الجماعة تحقيقه من خلال حملتها الإعلامية. إن حكم الحوثيين عنيف وقمعي، وليس للحوثيين أي ادعاء شرعي بتمثيل الشعب اليمني. والواقع أن هجماتهم على الشحن في البحر الأحمر تجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لشعب اليمن، الذي يعاني بالفعل من التداعيات الإنسانية لحرب مدمرة عصفت ببلاده لعقد من الزمان. ولكن فهم ما يحاول الحوثيون تحقيقه ــ ولماذا يعتقدون أنهم منتصرون ــ من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة في وضع سياسة فعّالة لمواجهتهم.
الرسالة
لسوء الحظ، لا تملك الولايات المتحدة سوى خيارات قليلة جيدة عندما يتعلق الأمر بالرد على الحوثيين. فحتى الآن، فشلت الضربات العسكرية والعقوبات التي تستهدف قيادة الحوثيين والجهود الرامية إلى منع تهريب الأسلحة في وقف الهجمات. ومن غير المرجح أن يؤدي تصعيد نطاق وشدة الضربات التي تقودها الولايات المتحدة إلى تغيير حسابات الحوثيين أو تغيير الديناميكيات العسكرية للصراع بشكل كبير.
تصعيد العمل العسكري قد يؤدي إلى تدهور القدرات العسكرية المتطورة للحوثيين في الأمد القريب، لكن الحوثيين سيكونون قادرين على تجديد تلك القدرات بالصواريخ المهربة من إيران. (حتى الآن، لم يتمكن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من وقف نقل هذه الأسلحة إلى اليمن). وفي الوقت نفسه، يمكن للحوثيين استخدام التكنولوجيا منخفضة التكلفة، بما في ذلك المسيّرات في الجو والبحر.
بعد عقود من حرب التمرد، أصبحوا ماهرين في نقل وإخفاء أصولهم. وحتى لو أسقط التحالف الذي ترعاه الولايات المتحدة القنابل في جميع أنحاء أراضي الحوثيين، فإن مثل هذا الهجوم لن يقلل من القدرات العسكرية للحوثيين إلى الحد الذي لا تستطيع معه المجموعة شن هجماتها الخاصة.
والأسوأ من ذلك، أن حملة القصف المتسارعة من شأنها أن تزيد من خطر التصعيد وسوء التقدير. وسعت الضربات الأمريكية في اليمن إلى تقليل الخسائر في صفوف المدنيين والعواقب الإنسانية من خلال التركيز بشكل ضيق على أنواع محددة من البنية التحتية العسكرية. وتوسيع نطاق الضربات الجوية من المرجح أن يؤدي إلى مقتل المزيد من المدنيين وإلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية، مما يعيد الولايات المتحدة إلى نفس الفوضى التي واجهتها عندما دعمت تدخل التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن في سنة 2015. وأدانت العديد من البلدان والمؤسسات الدولية هذا التدخل – والدور الأمريكي في تمكينه – بسبب الخسائر المروعة في صفوف المدنيين والكارثة الإنسانية التي أعقبت ذلك.
إن حملة القصف الأمريكية الأكثر تنسيقًا الآن لن تؤذي اليمنيين وتعمق أزمتهم الداخلية فحسب، بل ستمنح الحوثيين وداعميهم في إيران ومحور المقاومة الإيراني زخمًا أكبر لشن هجمات ضد الأصول الأمريكية في المنطقة. لا تريد واشنطن مثل هذا التصعيد وأفضل فرصة للولايات المتحدة لردع هجمات الحوثيين هي إيجاد طرق لإجراء حملة إعلامية خاصة بها لمواجهة رسائل الحوثيين.
وطالما يعتقد الحوثيون أنهم يفوزون بحرب المعلومات، فمن المرجح أن يستمروا في هجماتهم. إن تحييد الدعاية الحوثية هو أفضل طريقة لردع هجمات الجماعة. والطريقة الأكثر مباشرة لإضعاف رسالتهم هي التوصل إلى وقف إطلاق نار مستدام في غزة. ورغم عدم وجود ضمانات بأن الحوثيين سيوقفون هجماتهم بمجرد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فإن ذلك من شأنه أن يقلل إلى حد كبير من قوة رسالتهم من خلال القضاء على مصدر ضخم للظلم والقلق الشعبي.
يمكن لأنواع أخرى من الرسائل المضادة أن تخفف أيضًا من تأثير هجمات الحوثيين. وتوفر جهود الكابتن كريس هيل، قائد حاملة الطائرات يو إس إس أيزنهاور، مثالاً مذهلاً يمكن أن يصبح نموذجًا لحملات أوسع نطاقًا. فخلال فترة انتشار حاملة الطائرات لمدة تسعة أشهر في البحر الأحمر، أطلق هيل مبادرة على وسائل التواصل الاجتماعي كانت رسائلها متفائلة بلا هوادة، مسلطًا الضوء على الرجال والنساء الذين يخدمون على متن سفينته وإضفاء الطابع الإنساني على طاقمه.
وقد أثبت فعاليته بشكل خاص في مكافحة التضليل الحوثي. ففي حزيران/ يونيو، انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي مزاعم كاذبة بأن الحوثيين ضربوا أو حتى أغرقوا “يو إس إس أيزنهاور”، وتضخمت المزاعم من خلال الحسابات المؤيدة لروسيا والصين.
وببساطة من خلال العمل كصوت موثوق يصور الحياة اليومية على متن حاملة الطائرات أيزنهاور، أثبت هيل أن السفينة كانت على ما يرام. ورغم أن رسائله موجهة بلا شك إلى الجمهور الأمريكي، إلا أنها لا تزال تنتشر في نفس بيئة وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتشر فيها الكثير من الدعاية الحوثية. ومن خلال دحض الرسائل التي يرسلها الحوثيون ومناصروهم، بما في ذلك روسيا والصين، يمكن لمثل هذه المنشورات أن تلعب دوراً مهما في مكافحة التضليل.
يمكن أن تكون منصات وسائل التواصل الاجتماعي فعالة في إظهار الضرر الذي تسببه هجمات الحوثيين، وتسليط الضوء على نمط الحوثيين من القمع والنفاق وإظهار أن الجماعة لا تساعد الناس بل تؤذيهم. وتُظهِر صور مجموعة حاملة الطائرات أيزنهاور وهي تهب لمساعدة طاقم السفينة تيودور متعددة الجنسيات التي أغرقها الحوثيون، كيف يستهدف الحوثيون ليس فقط السفن التجارية بل أيضاً الأشخاص العاديين من مختلف أنحاء العالم الذين يعملون عليها.
كما يمكن أن تنقل الرسائل الأمريكية كيف اعتقل الحوثيون موظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في حزيران/ يونيو، وفي هذه العملية جعلوا الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للعديد من الأسر اليمنية التي تعتمد على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.
تؤدي هجمات الحوثيين على السفن التجارية إلى ارتفاع تكلفة الشحن، مما يجعل السلع الأساسية مثل الغذاء والوقود أكثر تكلفة بالنسبة لليمنيين. وقد أدى هجوم الحوثيين في تموز/ يوليو على ناقلة النفط خيوس ليون إلى إلى تسرب نفطي بطول 125 ميلاً على طول ساحل البحر الأحمر، مع عواقب اقتصادية وخيمة على اليمنيين العاملين في صناعة صيد الأسماك، وهي مصدر رئيسي للعمالة والأمن الغذائي. إن تبادل المعلومات على منصات التواصل الاجتماعي حول الضرر الذي ألحقه الحوثيون باليمنيين العاديين من شأنه أن يساعد في إظهار نفاق هذه الجماعة.
سوف تستمر مثل هذه الهجمات ما دام الحوثيون يعتقدون أن الحملة تعود عليهم بالفائدة من خلال نشر الرسائل التي يريدون إرسالها إلى ناخبيهم المحليين وشركائهم في محور المقاومة الإيراني والغرب. ومن الممكن أن تؤدي حملة المعلومات المضادة التي تشنها الولايات المتحدة إلى تقليص هذه الفوائد إلى حد كبير وتجعل من غير المجدي بالنسبة للحوثيين مواصلة الضربات العنيفة في مختلف أنحاء المنطقة.
المصدر: فورين أفيرز