مرت الأيام الأولى من رمضان سريعًا، ومعها كشفت الدراما المصرية، بجانب تطورها الهائل والملحوظ في تقنيات الإخراج والوسائط الفنية، الاستمرار في تدني النص والحوار، بما يؤكد أنهما يعيشان أزمة مزمنة؛ أغلب الأعمال التي عُرضت حتى الآن ما زالت غارقة في بحر من الإسفاف، تنقل الفوضوية الحياتية لأدنى فئات الشارع إلى المنازل عبر الشاشات، من انفلات أخلاقي، إلى تطرف وتوسع في مشاهد الدماء والقتل والترويع، وتعظيم سيادة مبادئ القوة والسيطرة، في غياب شبه تام لأي معنى يتحدث عن الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان.
تطور المحتوى نسبيًا عن السنوات الماضية، ولكنه لم يصل بعد إلى ما كان عليه الفن المصري المعروف عالميًا بأصالته وجودته في المنطقة الذي كان أهم محاور رفع الوعي والارتقاء بلغة الأحاسيس والمشاعر، بجانب تفرده في لغة الحوار التي كانت من أهم روافد تشكيل الذوق العام.
ورغم الإشارات المتوالية عن دراما رمضان 2018 التي تؤكد عودة الفن المصري للريادة من جديد في المنطقة العربية، سواء بكم الإنتاج أم نوعية الأعمال التي واكبت تصعيد نجوم جدد، بما أضاف زخمًا للحالة الفنية المصرية، وخاصة الدراما التليفزيونية منها، إلا أن القيمة والرسالة، لا يزالان دون مستوى اللحظة ولم ينقلا صورة متكاملة لمجتمع محافظ يرى العادات والتقاليد والأخلاق أهم شأنًا من قوت يومه.
دراما من صفحات الحوادث
لم يجد الناقد الشهير محمود قاسم، وصفًا مناسبًا لأغلب الأعمال الدرامية لهذا العام إلا تشبيهها بصفحات الحوادث، فهي مرآة للمجتمع بالطبع، ولكنها للأسف تقدمه في أسوأ حالاته، فالحوادث لها جاذبية تتفق مع شهوات الدراما تمامًا التي تتوق دائمًا إلى الإثارة، حتى لو كانت رخيصة ومبتذلة لجذب المُشاهد.
يمكن فهم ترنيمة العنف المتزايد في الدراما، بالعودة قليلاً وتحديدًا قبل عامين، فالجميع وعي درس “الأسطورة”، مسلسل الفنان محمد رمضان الذي قدمه واحتل به العلامة الأولى في أرقام المشاهدة
حديث قاسم يقدم تفسيرًا واضحًا لسيطرة نزعات العنف على اتجاهات نجوم الدراما المصرية الذين تحولت أجساد أغلبهم إلى كتل من العضلات المتراصة، بجانب تدربهم على أحدث فنون قتال الشوارع، في نفس الوقت الذي لجأت فيه شركات الإنتاج، إلى تسويق المسلسلات على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، عبر اختيار مشاهد قتالية شعبية من تلك التي تفتن المراهقين وتجعلهم أسرى في طابور انتظار العمل الفني.
مشهد أكشن عالمي.. لو عايز تقضي على رحيم هتحتاج جيش كامل – رحيم
يمكن فهم ترنيمة العنف المتزايد في الدراما، بالعودة قليلاً وتحديدًا قبل عامين، فالجميع وعي درس “الأسطورة”، مسلسل الفنان محمد رمضان الذي قدمه واحتل به العلامة الأولى في أرقام المشاهدة، ومن خلاله ارتفع أجر الشاب الذي لم يكن يمثل أي رقم في معادلة الدراما المصرية قبل أعوام قليلة، ليتخطى الكبار ويحجز البطاقة الثانية للأعلى أجرًا، بعد عادل إمام، بـ35 مليون جنيه عن عمله الذي يعرض حاليّا نسر الصعيد، وأصبح هناك هرولة لتقليد “رفاعي الدسوقي” بطل العمل الذي حصد في مشهد لأحد المعارك بالمسلسل 62 مليون مشاهدة.
خناقة رفاعي مع عائلة النمر في مسلسل الأسطورة لـ”محمد رمضان”
تصدر الانتقام، خلطة الحبكة الدرامية لـ11 مسلسلاً رمضانيًا، بداية من كلبش 2 لأمير كرارة الذي يحاول للعام الثاني على التوالي نقل مشاهد حية من داخل عالم الشرطة، ومن خلالها يلعب على ثنائية الإرهاب والأمن، وكيف يتعامل رجل الشرطة مع المواقف الخطرة.
من “كلبش” إلى مسلسل “مليكة” الذي تقوم ببطولته دينا الشربيني – مديرة أعمال عمرو دياب – احتل ملف الإرهاب العلامة الكبرى في الصيغة الرئيسية للنص الدرامي، وأصبح واضحًا أن مشاهد استهداف كمائن الشرطة من الجماعات الإرهابية، يثير لعاب الكتاب والمخرجين والمنتجين لتقديمها بأنماط مختلفة على الشاشة، بينما كان السجن أيضًا أحد أهم مناطق التحول الدرامي الرئيسية في الحلقات الأولى لأربعة أعمال فنية، هم على التوالي رحيم للفنان ياسر جلال، وفوق السحاب لهاني سلامة، وطايع لعمرو سلامة، وأخيرًا أيوب، لمصطفى شعبان.
أولn مشاهد كلبش 2 .. سليم_الأنصاري عاد لينتقم!
أما “أبو عمر المصري” الذي يقوم ببطولتة أحمد عز، وهو عمل مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للدبلوماسي المصري والأديب والكاتب عز الدين شكري فشير، فتفرد بوضع الضابط في مكان آخر، بعيدًا عن البطولة والملحمية التي أصبح يزخر بها رجل الأمن في الأعمال الدرامية بداية من 2013، وربما يعود ذلك لشخصية الكاتب الأصلي للنص الراوائي للعمل، الكاتب المعارض للإرهاصات السياسية التي جرت في مصر بعد 30 يونيو، وهو ما يكشفه “عز” في مسلسله، والمتوقع أن يثير جدلاً كبيرًا من جديد، لا سيما أنه يلقي الضوء على سجلات الأعمال الإجرامية لبعض رجال الشرطة، ويخوض في علاقة الدولة بالإرهاب خصوصًا فيما قبل ثورة يناير 2011.
مسلسل أبو عمر المصري بطولة أحمد عز
الدراما.. صورة من المجتمع أم تصوير غير هادف لالواقع؟
مع كل نبتة عنف تزرعها الدراما المصرية في المجتمع المصري، تثار الأسئلة من جديد، سواء بشكل فني بحت أم من خلال انعكاسات العنف على أرض الواقع، لا سيما بين الطبقات المهمشة قليلة الثقافة التي ترى فيما يحدث على الشاشة، قدوة لهم، في ظل غياب دور الأسر والمدارس وحتى المساجد والكنائس، لإقامة دروس عملية على هذه النماذج، وإفهام هذه الشرائح أن ما يحدث مجرد أداء فني ليس بالضرورة أن يكون مرتبطًا بالواقع.
طوال سنوات مضت كانت العديد من الأقلام تطالب بتشديد الرقابة على الأعمال التليفزيونية التي تدخل إلى المنازل دون استئذان، وبشكل خاص في شهر رمضان الذي يتعاظم فيه الإنتاج الدرامي، فما يمكن عمله في السينما لا يصلح بالضرورة للدراما، وهي الآراء التي كانت تواجه هجومًا شرسًا من صناع الفن وأهله الذين يعتبرون الرقابة بالنسبة لهم سلاح قتل باتر لروح الإبداع في النص.
فما يقدمونه من وجهة نظرهم ليس إلا انعكاسًا للواقع بكل سلبياته وإيجابياته وهو بالتأكيد حدث سابق على العمل الدرامي، وبالتالي لا حاجة لهذه القيود، وكما تقول قوانين الرأسمالية السوق يضبط نفسه بنفسه، كذلك يرى صناع الفن أن العمل الصالح الهادف قادر على طرد غيره والسوق حكم بين الجميع.
الدولة من جهتها ولأسباب عدة حاولت ولا تزال، محاصرة ثنائيات العنف والإسفاف في الأعمال المطروحة على الأسر المصرية من خلال الشاشات
حديث صناع الدرما، ينطلق من أرضية نخبوية، كما هي السياسة في العالم العربي، كلاهما يعيش في جذر منعزلة، في الوقت الذي اهتمت الكثير من الجماهير على السوشيال ميديا بالسؤال عن أهم الأعمال التي تراعي أداب وقيم المجتمع لمتابعتها، وأغلبها انطلق من كتابات ناقدة انتشرت طوال الأيام الماضية، وحذرت من وجود علاقة بين ما تطرحه بعض الأعمال الدرامية، وما تتعرض له الأسرة من مشاكل وأزمات أصابتها في مقتل.
حصار حكومي ولكن؟
الدولة من جهتها، ولأسباب عدة حاولت ولا تزال، محاصرة ثنائيات العنف والإسفاف في الأعمال المطروحة على الأسر المصرية، من خلال الشاشات، وأصدرت عبر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام نموذجًا كاملاً لم يشمل فقط معايير الدراما المطلوبة، بل تطرق للإعلانات وفتراتها الزمنية لضبط الأداء المنفلت منذ سنوات في عالم الفن المصري.
ويرأس لجنة الدرما، بالمجلس الأعلى للإعلام المخرج محمد فاضل، وهو من جيل الرواد الذين يمتلكون حسًا أخلاقيًا، كان يتحكم في وتيرة أعمالهم التي لا تزال علامة فارقة في تاريخ الدراما حتى الآن، ووضعت اللجنة عددًا من الضوابط والشروط الواجب توافرها بالأعمال الفنية والإعلانات، في محاولة منها للسيطرة على الألفاظ الخارجة وإظهار سكين الرقابة والعقوبات المالية الكبيرة لردع المخالفين.
فاضل وعبر أكثر من تصريح له، أهاب بصناع الدراما ضرورة تقديم أعمال راقية تصور شرائح وطبقات المجتمع المختلفة ولا تركز فقط على الفئات المهمشة والمعدومة اجتماعيًا، حتى لا يخرج ذلك للعالم وكأنه الشكل الوحيد للمصريين في بلادهم، وطالبهم بالالتزام بتاريخ الدراما المصرية الذي لم يكن إلا واحة للرقي والفن الهادف، ولم يكتف بالتوجيه المعنوي بل لوح باستخدام القوة، وحقه الذي كفله له القانون في توقيع العقوبات على المخالفين.
المال والبنون.. تتر البداية
لم يحدد المجلس الحكومي، ما الضوابط والمعايير الأخلاقية والمهنية، واكتفى بتعريفها بتقاليد وخصوصيات وأداب المجتمع المصري، وهي الثغرة التي يستخدمها صناع الدراما، للهجوم على النسق الأخلاقي للجنة الدراما المشكلة من الدولة، التي تريد إلزامهم بكتالوج وترفض الخروج عنه، وربما نسي هؤلاء أن الضوابط الأخلاقية مثل السياسة التحريرية للصحف، مفهومة ضمنًا ولا تحتاج إلى كتابة بنود لشرحها، خاصة أن الأعلى للإعلام ليس دوره مراقبة وتقييم الأعمال الفنية، باعتبارها ضمن اختصاصات جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، ولكن من اختصاصه الأصيل مراقبة انعكاسات الأداء الدرامي على الشارع المصري.
سنوات طويلة والعنف يضرب نوافذ الدراما المصرية، صحيح أن تربة الدماء والعنف في سيناء، والمنطقة العربية يضفي نوعًا من الواقعية على تلك الأعمال، ولكن حتى الآن لا يبدو أن الجمهور المصري أو حتى العربي يهضمها، هو يتعامل معها مؤقتًا باعتبارها جسم غريب عليه سيلفظه قريبًا، في ظل تفضيله للدراما الاجتماعية التي نجحت بشكل مذهل خلال الأعوام الماضية وتخلصت من عقدة الماضوية، وكان في القلب منها مسلسل “جراند أوتيل” الذي أنتج قبل عامين، وتوقع العديد من النقاد البناء عليه وإعادة المجد للدراما الاجتماعية المصرية، ولكن كما هو الواقع، انتصرت تيمة العنف في النهاية.
المشهد الأقوى في دراما رمضان من مسلسل جراند أوتيل