لم تكد العلاقات المصرية السودانية تتنفس الصعداء – وإن كان ظاهريًا – حتى تعود سريعًا إلى نفق جديد من التوتر، في مشهد يعكس حجم ما تعاني منه من ضعف يميط اللثام قليلًا عن المسكوت عنه وإن سعى الطرفان إلى إخفائه مؤقتًا حفاظًا على شعرة معاوية في العلاقة بين الجارتين.
طيلة السنوات الماضية كان ملف سد النهضة بطل تأزم العلاقات بين البلدين في ظل تباين وجهتي النظر حيال المسار التفاوضي واتهام القاهرة للخرطوم دومًا بتبني وجهة النظر الإثيوبية على حساب المصرية، غير أن هذه المرة الوضع مختلف، فالسبب الذي ربما يقود إلى أزمة جديدة بين الطرفين مسلسل مصري وصفته الخارجية السودانية بـ”المسيء للشعبين الشقيقين”.
الأمر تجاوز حدود الإدانة الإعلامية للعمل إلى قرارات سياسية تنذر بمواجهة جديدة بين البلدين الأكثر تراشقًا في المنطقة طيلة السنوات الـ4 الأخيرة، فالخرطوم لم تكتف ببيان تستنكر فيه عرض المسلسل فقط، بل استدعت السفير المصري لديها لتسلمه احتجاجًا رسميًا على استمرار عرضه على الشاشات المصرية.. فهل من الممكن أن يتسبب عمل درامي في أزمة جديدة بين مصر والسودان؟
أزمة “أبو عمر المصري”
انتقد نشطاء سودانيون الصورة السلبية التي يقدمها المسلسل عن الشعب السوداني وأنه يحتضن إرهابيين، لكن يبدو أن حالة الاستنكار الشعبية انتقلت من منصات السوشيال ميديا إلى منصات وزارة الخارجية السودانية
“أبو عمر المصري” مسلسل مصري يعرض على بعض القنوات الفضائية المصرية خلال شهر رمضان الحاليّ، يقوم ببطولته الفنان أحمد عز، وهو من تأليف أحمد خالد موسى وإخراج عز الدين شكري. أحداث المسلسل تدور حول شخصية محامٍ مصري من أسرة فقيرة يدعى فخر الدين، أسس برفقة بعض زملائه من المحامين تنظيمًا سلميًا سعى لإيجاد حلول لمشاكل وقضايا المواطنين البسطاء بعيدًا عن مافيا المحاماة وأسعارهم المبالغ فيها، متبينًا هموم ومشاكل العمال والطبقة الكادحة.
غير أن هذا التنظيم سرعان ما يثير غضب جهاز أمني سيادي لأنه لم يجد وسيلة قانونية توقف نشاط هؤلاء المحامين، فيلجأ إلى وسائل أخرى خارج إطار القانون من خلال تصفية أعضاء هذا التنظيم، وبدأت بالفعل عمليات التصفية إلا أن فخر ينجح في الهروب إلى فرنسا وينجو بنفسه من محاولة اغتياله، وبعد عدة سنوات من الإقامة هناك يقرر أخيرًا العودة بصحبة طفله للعيش في السودان، حيث التحق بإحدى الجماعات الإسلامية المسلحة هناك، ليصبح كادرًا مهمًا جدًا من كوادرهم قبل أن ينقلب عليهم عائدًا لمصر بعدما كشف تورط هذا التنظيم في أعمال إرهاب وتطرف أثارت حفيظته.
المسلسل وإن لم يعرض منه حتى كتابة هذه السطور سوى 3 حلقات فقط، فإنه أثار ضجة كبيرة وسخطًا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتقد نشطاء سودانيون الصورة السلبية التي يقدمها المسلسل عن الشعب السوداني وأنه يحتضن إرهابيين، لكن يبدو أن حالة الاستنكار الشعبية انتقلت من منصات السوشيال ميديا إلى منصات وزارة الخارجية السودانية التي بدورها أصدرت بيانًا بحق المسلسل.
سخط بين رواد السوشيال ميديا بسبب المسلسل
استنكار سوداني
بالأمس الـ19 من مايو/آيار أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا تستنكر فيه ما جاء فى بعض القنوات الفضائية المصرية بعرض مسلسل مصري بعنوان “أبوعمر المصري” منذ بداية شهر رمضان بعد أن رُوج له بصورة عكست إصرار البعض على اختلاق وتكريس صورة نمطية سالبة تلصق تهمة الإرهاب ببعض المواطنين المصريين المقيمين أو الزائرين للسودان.
البيان أشار إلى أن القائمين على العمل سعوا لإيهام المتابعين بأن بعض أجزاء السودان كانت مسرحًا لبعض أحداث المسلسل، واستخدموا العديد من الوسائل كلوحات السيارات السودانية التي تعد رمزًا سياديًا لا يجوز التعامل به إلا بعد الحصول على موافقة من السلطات السودانية المختصة.
إذاعة “بلادي” السودانيَّة كانت قد أصدرت قرارًا في أبريل/نيسان الماضي بتأجيل بث مسلسل إذاعي من 30 حلقة يحمل اسم “رمال وأصداف”، يعالج من منظور سوداني بحت قضية النزاع السوداني المصري على منطقة حلايب وشلاتين
وأضاف أن هذا العمل الذي وصف بـ”المسيء” للشعبين الشقيقين قد أساء بوجه خاص للوجود المسالم للمواطنين المصريين بالسودان الموجودين بعلم السلطات المصرية وفقًا لاتفاق تسهيل حركة المواطنين بين البلدين الشقيقين، إذ إن هناك 8 رحلات جوية يومية وأكثر من 50 رحلة يومية للباصات والمركبات بين البلدين، ولم يثبت تورط أي مواطن مصري مقيم بالسودان في أي حوادث إرهابية.
الخارجية السودانية استعرضت كذلك ملامح التنسيق الأمني الكبير بين الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية في البلدين، وذلك وفقًا للاتفاق بينهما الذي لا يسمح بأي نشاط وأعمال عدائية من أي بلد تجاه البلد الآخر، هذا بخلاف التعاون المستمر بين السفارة السودانية بالقاهرة ووزارة الخارجية المصرية وكذلك بين السفارة المصرية بالخرطوم ووزارة الخارجية السودانية.
وعن تفاصيل زيارة المصريين للسودان والإقامة بها التي أساء المسلسل توظيفها بشكل يعكس صورة سلبية، أشار البيان إلى نتائج الدورة الـ10 التي عقدتها لجنة المنافذ المشتركة بين البلدين برئاسة وكيل وزارة خارجية السودان ومستشار وزير التعاون الدولي المصري، في الـ7 و8 من مايو الحاليّ، وأشاد بدورها في تسهيل حركة الركاب والسلع والبضائع والخدمات بين الجارتين، رئيسا البلدين خلال لقائهما في مارس الماضي.
وقد خلص البيان إلى التأكيد على أن هذا المسلسل المسيء للمواطنين المصريين القادمين والمقيمين بالسودان ما هو إلا محاولة عبثية لضرب الثقة وشل التواصل بين الشعبين الشقيقين، ومن المؤكد أن مصير هذه المحاولة البائسة الفشل الذريع، مؤكدًا أن وزير الخارجية السوداني بالإنابة السفير محمد عبد الله إدريس طالب بإيقاف ما أسماه “محاولات العبث والتشكيك في علاقات البلدين الشقيقين” وذلك في لقائه مع وزير الخارجية المصري سامح شكري منتصف شهر مايو/أيار الحاليّ بأديس أبابا.
قبيل إصدار الخارجية السودانية بيانها بيومين كانت قد استدعت السفير المصري بالخرطوم في الـ6 من الشهر الحاليّ وأبلغته احتجاجًا رسميًا على المسلسل قبل عرضه رسميًا وفق بعض المشاهد الترويجية (بروموهات) التي بثتها القنوات العارضة للمسلسل من باب التسويق له قبيل بداية رمضان، كما طالبت السلطات المصرية المعنية المبادرة باتخاذ قرار مناسب يضع حدًا أمام محاولات البعض العبث بمصالح ومكتسبات البلدين الشقيقين.
الخرطوم حذرت من تداعيات المسلسل على تشويه العلاقة بين الشعبين
القاهرة تعقب
ردًا على بيان الخارجية السودانية، أصدرت شبكة قنوات “ON” المصرية العارضة للمسلسل بيانًا عقبت فيه على التهم الموجهة للعمل الفني، بأن المسلسل من وحي خيال المؤلف ولا يحوي أي تلميحات تسيء إلى الدولة السودانية وحكومتها.
البيان الصادر عن القناة أوضح أن العمل لا يمت بصلة لمواقف الدولة المصرية الحريصة دومًا على تقوية وتنمية علاقاتها مع دولة السودان وشعبها الشقيق، وأنه لم يتعمد الإشارة إلى دولة السودان من قريب أو بعيد، كما أن صناع المسلسل يدركون جيدًا أهمية دور الفن في التقريب بين الشعوب وليس إثارة الأزمات بينهم، خاصة أنهم يعلمون خصوصية العلاقات المصرية السودانية، وأهمية الشراكة الإستراتيجية بين البلدين وأهمية تعزيز وترسيخ علاقات الأخوة، وتعظيم مساحات التعاون المشترك بما يليق بطموحات الشعبين، ويتسق مع ما يجمعهما من تاريخ وعلاقات وطيدة، اجتماعية وثقافية وأيضًا سياسية وأمنية واقتصادية
مسلسل #ابو_عمر_المصري قبل ان يسيء الى #السودان اساء الى #مصر حين اظهرها تصدر ارهابيين يتدربون في #السودان !
— Ahmed Alashkar (@ALASHKAR_TV) May 19, 2018
جدير بالذكر أن إذاعة “بلادي” السودانيَّة كانت قد أصدرت قرارًا في أبريل/نيسان الماضي بتأجيل بث مسلسل إذاعي من 30 حلقة يحمل اسم “رمال وأصداف”، يعالج من منظور سوداني بحت قضية النزاع السوداني المصري على منطقة حلايب وشلاتين، ورغم عدم إفصاح الإذاعة عن أسباب التأجيل فإن البعض أرجعها إلى التطورات في العلاقات المصرية السودانية التي حرصت المحطة على عدم توترها مرة أخرى عن طريق عرض هذا العمل الذي ربما يثير حفيظة القاهرة.
هذا المسلسل المسيء للمواطنين المصريين القادمين والمقيمين بالسودان ما هو إلا محاولة عبثية لضرب الثقة وشل التواصل بين الشعبين الشقيقين
مؤلف المسلسل معاوية السقا رفض التعليق على قرار التأجيل، بزعم أنه من اختصاص إذاعة بلادي التي أنتجت المسلسل كوسيلة من وسائل “القوة الناعمة” لتثبيت سودانية حلايب المحتلة من الجانب المصري، لافتًا إلى أن عرض عدد من القنوات المصرية لمسلسل “أبو عمر المصري” يؤكد الاستخدام المضلل للفنون من الجانب المصري لتشويه سمعة السودان، حسبما أشار في تصريحاته لـ(العربي الجديد).
https://twitter.com/Hassan1hasko/status/997269237763784704
توصف العلاقات المصرية السودانية منذ استقلال الأخيرة عام 1956 في أثناء حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بـ”المتأرجحة”، فمرورًا بعهد السادات الذي عمل مع الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري على توقيع “ميثاق التكامل” بين الطرفين، وانتهاءً بـ”ميثاق الإخاء” الذي وقعه البلدان عام 1987، كانت العلاقات في أغلب فتراتها تفتقر إلى ما يمكن وصفه بالحميمية – حسب ما تشير التقارير – وذلك بسبب حزمة من الخلافات والتوترات بينهما.
التقارب السوداني الإثيوبي كان نقطة الخلاف الأبرز بين البلدين، خاصة أن القاهرة دومًا كانت تحمل الخرطوم مسؤولية وصول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، هذا بخلاف ما يثار بشأن احتضان السودان لبعض العناصر المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين، وفي المقابل تنظر الخرطوم للقاهرة على أنها “الحليف شبه العدو” خاصة بعد اتهامها بدعم العناصر المتمردة في دارفور وجنوب السودان ورعاية المعارضة وتزوديها بالسلاح عن طريق ليبيا، ما أثار حفيظة السودانيين.
العلاقات بين البلدين وإن أخذت في بعض الأحيان منحى دبلوماسيًا يعزف على وتر التقارب والعمل على تخفيف حدة التوتر عبر لقاءت متبادلة وصور ملتقطة، غير أن المسكوت عنه يتناقض بشكل كبير مع المعلن، وليس لجوء الخرطوم إلى المجتمع الدولي دفاعًا عما تسميه “ملكيتها لمثلث حلايب وشلاتين” وتقاربها الشديد مع أديس أبابا سوى تجسيد لطبيعة العلاقات بين الجارتين، وهو ما يجعل عملًا فنيًا لا يتعدى دقائق معدودة ربما يكون سببًا في توترها وتأزمها رغم التنسيق المتبادل بينهما على أعلى المستويات في الفترة الأخيرة.