مشاركة الأمين العام للمؤتمر الشعبي في أعمال ملتقى أم جرس الذي أنعقد للنظر في الأزمة الدارفورية ومحاولة إيجاد سبل تؤدي لحلول توقف الحرب والإقتتال في الإقليم المتأزم، مشاركة الشيخ الترابي على ذلك النحو، بعثت الأسئلة متعالية، تحاول أن تفحص العلاقة الخاصة التي وسمت كامل سيرة الإقليم والعضوية من ابنائه في الحركة الإسلامية، وإذ عبّر الشيخ الترابي في أوقات كثيرة عن أنه الأقدر على فهم قضية دارفور فإن السؤالات ثارت من جديد، كيف يمكن للأمين العام للمؤتمر الشعبي أن يحل أزمة دارفور رغم تعقيداتها في يسر ونجازة عاجلة.
وفي معرض رده على تلك التساؤلات يقول الشيخ الترابي: ” أتحدث عن الموضوعات وخطّطنا بوصفنا تنظيماً، ورقة كاملة باللغة العربية والإنجليزية عن كل مسائل الخلاف في دارفور ويمكنني أن أقول لك هنالك نموذج بينهم وبين أهل الجنوب خذ ذات النموذج وطبقه على دارفور، عندئذ ستعالج المشاكل كلها..”
وكان المؤتمر الشعبي قد خطط ورقة حرر فيها مسائل الخلاف وتصوراته للحل دعا فيها إلى: “أن يمنح أهل دارفور نيابة الرئاسة وإقليميا ينسق بين الولايات حتى لا يقسمها المركز ويعلو عليها، وحدودهم القديمة التي كانت تعبرها صادرات الإبل بينهم وبين مصر، وحظهم النسبي في مجالس التشريع..”
ويستطرد الشيخ الترابي في بيان تصوراته لحلول مرضية في دار فيقول: “هم كذلك يريدون حظهم في المال العام زائداً شيئاً ما لأنهم ظلموا منذ احتلهم الإنجليز لأنهم كانوا يقفون جهاراً مع العثمانيين ضدهم وكذلك مع الألمان ضدهم، وبأثر هذه القضية حرموهم من الطرق ومن التعليم وكل وجوه التنمية، وكذلك الوطنيون ورثة الإنجليز فساروا سيرة الإنجليز وفعلوا بهم ذات الشيء، فيريدون حظاً أكثر قليلاً من المال العام المخصص للولايات… اعطوهم ذلك ودعوهم في فترة انتقالية يحكمون أنفسهم حتى الانتخابات التي يتنافس فيها الناس، أحزاباً قومية وأحزاباً اقليمية، تحدد من يلي أمر الولاية هنالك ومن يلي أمر السلطة القومية..”
أقبلت الحركة الإسلامية على الساحة الدارفورية تحمل مشرعاً سياسياً محضاً يعبّر عنه رموزها الأوائل الأسبق انتظاماً في سلك الجماعة وتنظيمها، خطاباً ينصرف متصوباً إلى قضايا السياسة والحكم وإذ لم تلج الحركة إلى تلك الساحة عبر نهجها الديني في تقديم مفاهيم الدعوة الإسلامية خارج أطر المفاهيم السلطوية فإن ذلك قلل -لأول مرة- من وقع فعل الحركة وتأثيرها أمام تيارات التدين الطائفي العريض لا سيما ذلك الذي يرتكز على إرث المهدية وجهاد قائدها الأول.
استطاعت الحركة من بعد عبر قياداتها الشابة أن تجد لها قاعدة تمد كسبها داخلاً يصل غالب القبائل والبيوتات بالأقليم، لكن الصلة الأقوى والكسب الأكبروالأميز كان جاء من بين قبائل دارفور غير العربية، لكن الوجود الغالب للتيار الإسلامي في أوساط المتعلمين من أبناء إقليم دارفور عامة منذ وقت مبكر وتنامي مدّه وأزدهاره خلال عقدي الستين والسبعين ثم الإقبال على موالاة الجبهة الإسلامية القومية منتصف عقد الثمانين ظل يبعث الأسئلة حول تلك العوامل التي دفعت جاذبة قطاعات واسعة من أهل الاستنارة في دارفور إلى التوالي مع الواجهات والمنظمات السياسية للحركة الإسلامية.
منذئذٍ أفلحت المرجعية الفكرية للحركة، في أن تجتذب قطاعات واسعة من المتعلمين الدارفوريين، يدخلون في الحركة الإسلامية أفواجاً، عبر رؤية تفصل المبادئ الإسلامية الأصيلة عن الغلاف الثقافي العربي الخاص الذي يحيط بها.
إذاً فقد انبرى الشيخ الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية في ساعة تأسيسها، يصوب نقده الأحدّ للأحزاب التقليدية واعتمادها خطة التدين الطائفي الذي يخلط بين المبادئ العامة للدين والقيم والممارسات السائدة في المجتمع وإذ مضى الشيخ الترابي يلح على ضرورة أن يتم التمييز بين شمولية المبادئ الإسلامية وضيق أفق الممارسات الثقافية العربية وينبّه إلى ضرورة تحرير الأولى من الثانية، فإن تلك الرؤية أمدت الجبهة الإسلامية بمدد وافر من شرائح المتعلمين موالين لكنهم يمثلون صفوة المجتمع الدارفوري لا سيما من القبائل غير العربية.
جاءت النُذُر الأولى تشير إلى تذّمر أبناء دارفور داخل الحركة الإسلامية سابقة لإنقلاب الإنقاذ (يونيو/ 1989) منذ عهد الديمقراطية الثالثة حينما استقال نائبان برلمانيان من كلتة الجبهة الإسلامية القومية داخل الجمعية التأسيسية بدفعٍ من اثر الصراع الدائر في الأقليم بين الرعاة والمزراعين هما بولاد وفاروق أحمد آدم.
كان داؤود يحي بولاد هو الأسبق في التعبير عن الشعور بالضيم والتهميش داخل الحركة منذ وقت مبكر فعلى حين ركن غالب قيادات الحركة من إقليم دارفور إلى تكتيكات الإلتصاق والتشبث بصف التنظيم إنتظاراً للسوانح وما تأتي به الأقدار فقد خرج بولاد مغاضباً ومحارباً لذات النظام الذي جاءت به حركته ملتحقاً بالجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، الأمر الذي لم يغفره له (إخوانه) فأسلموه إلى حبل المقصلة متعجلين سفك دمه لأول فور سقوطه أسيراً بين أيديهم، سوى ذلك الوجه المأسوي فقد كشفت حركة بولاد عن شعور عميق بالضيم انتظم كثيفاً أوساط عضوية الحركة من دارفور وأقاليم الهامش الأبعد نحو الجنوب.
مثّل أنضمام بولاد للحركة الشعبية كناية عن إيمان ببرنامج سياسي يستلهم أشواق المهمشين لكنه في ذات اللحظة كفر بالدولة المركزية وخططها وسياساتها جميعاً، وإذ كان يمكن لتلك الحادثة أن تَهدِيَ الإنقاذيين إلى أقتناص العبر واستجلاء العظات فإن النذر كلها عمُّيت عليهم حتى فاجأهم الإصطفاف الجهوي الأحد من قبل كتلة دارفور وقد إنعطفت إليها تعضدها وتناصرها كتلة الجنوبيين خلال المؤتمر القومي العام للمؤتمر الوطني (1997).
حملت لحظة الخروج من الأجهزة المستسرة في الحركة إلى علن المؤتمر الوطني مفاجأة لقيادة التنظيم الإسلامي إذ وجدت نفسها تقف وجهاً لوجه أمام تكتل جهوي من ولايات دارفور تحالفه كتلة الاعضاء من الجنوب يصرون على تجديد الولاية للشفيع أحمد محمد أميناً للتنظيم لدورة جديدة.
مها يكن ذلك التكتل الجهوي داخل المؤتمر الوطني غير منظم ولا مقصود، نشأ للحظته عفوياً أو بإيعاز من بعض قيادات المركز ممن لم يكن راغباً في صعود غازي العتباني، إلى موقع الأمانة العامة، يعدّونه وجهاً آخر لحسن الترابي إلا أنه حمل إشارة مهمة تعكس حالة السخط والتظلم وسط عضوية الأقاليم الأبعد نحو الهامش، لا سيما دارفور، ذات العبرة التي خرج بها الأستاذ المحبوب عبد السلام في قراءته لتلك الواقعة:
“لقد كشفت لحظة الانتقال، بما تحملُ من تكاليف، مواضع الهشاشة والخلل في البناء.. فالقيادة ظلَّت تختار وتقرِّر، والقاعدة ظلَّت توافِقُ وتُقِر، ولكنها غافلةٌ عما تموجُ به عضويَّتها من حركةٍ وانفعال يستشعرُ ظُلماً وتهميشاً، ويطلُبُ العدل والإنصاف، حتى داخل الصف التنظيمي. فقد ظلَّ أعضاء الحركة، من الأطراف عامة ومن دارفور خاصة يستشعرون مرارةً تجاه قسمة المناصب في قيادة الحركة والدولة، وآليَّة توزيع الفُرَصِ والمغانم، مهما تكُن قليلة محدودة، ومن طبيعة شبكة العلاقات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تنتظم قيادة الحركة ذات المزاج والتوجُه الشمالي العاصِمِي الخُرطُومِي باختراقاتٍ محدودة في القيادة من الأطراف..” إذاً فقد توالت إنفعالات العضوية من دارفور ومضت تتعبأ نحو التعبير الأعنف الذي سيحمل لاحقاً لافتة العدل والمساوة
ما كاد المؤتمر العام القومي للمؤتمر الوطني (1997) يكمل أعماله حتى تشكل في الخرطوم جسم مطلبي ضم عضوية أبناء دارفور في الحزب الحاكم يسعى لمضاغطة النظام من داخله املاً في إصلاح كفة التنمية وضمان حصة الإقليم من السلطة والثروة. ويثبت الكاتب والمهتم بالشأن الدارفوري محمود ممداني: “أن حركة العدل والمساواة كانت قد أنشأت خلايا سرية لها في الفاشر منذ العام (1993) بينما وصل تأسيس مكاتبها إلى الخرطوم في العام (1997) إلا تلك التحركات وصفت بأنها ميلاً لإصلاح النظام من الداخل، لكن محمود ممداني يمضي إلى القول: أن ذات الأشخاص الذين تشكلت منهم العدل والمساواة بالخرطوم (1997) أصدروا كتاباً يوثق تهميش الدارفوريين في الحكومة المركزية..”
قضت مفاصلة الإسلاميين مطلع هذه الألفية على أي أمل في معادلة قسمة السلطة إصلاحاً من داخل النظام يحفظ كفل أنصبة الإقليم في التنمية على الوجه الذي كان يرجوه أعضاء التنظيم الإسلامي من دارفور وإذ إنهارت بالتمام رؤية الحركة الإسلامية في الحكم الإتحادي، وأصابت كامل المشروع ردة تناقض ذات الرؤية التي ظل الشيخ الترابي يضاعف بها كسوب الحركة في دارفور وتقوم على فصل المبادئ الإسلامية الأصيلة عن الغلاف الثقافي العربي الخاص الذي يحيط بها، وإذ لم تجد تلك الرؤى طريقاً إلى السياسات وتدابير الحكم وإذ لم تمثل أفكار الشيخ الترابي والتصوراته في السياسة والحكم تشكل قاعدة للتنظيم فإن جملة ممارسة الحركة في السياسة والحكم لم ترق لمستوى ذلك التنظير أو تقارب المثال الذي رسمه.
وإذ تفجرّت دارفور بصراع محموع عنيف كان أحد أقطابه أعضاء في تنظيم الحركة الإسلامية التي تقسمّت بين المعارضة والحكومة فإن فصيلاً منها يمثل أبناء دارفورالذين نهضوا إلى ساحة الحرب خارجين يطلبون حقوقهم عبر فوهة البندقية. وإذ ثارت التهمة الرسمية عالية يرددها إعلام الخرطوم الرسمي والموالي تنسب ثورة العدل والمساواة إلى خاص تدبير المؤتمر الشعبي فقد عبّر د. علي الحاج محمد عن استجانه لذلك الإدعاء وهو يقول لمندوب الأمم المتحدة في بون الذي نقل له إتهام نظام الخرطوم له بالضلوع في تمويل هجوم شنته حركة مسلحة على مدينة الفاشر:
“I wish I were, this is rubbish”
“كل هذا (rubbish) كذب .. هراء .. افتراء.. وليس له أي أساس من الصحة..”