ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة رهيبة بحق المتظاهرين الفلسطينيين السلميين المشاركين في مسيرات العودة على الشريط الحدودي لقطاع غزة، استشهد فيها 62 فلسطينيًا وجرح 3188، وكان المتظاهرون السلميون يحتجون على نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة ويحيون الذكرى الـ70 للنكبة، ولا يكاد الفلسطينيون في غزة يفرغون من دفن شهدائهم الذين اغتالتهم يد الإرهاب الصهيوني حتى يستقبلون شهداء جددًا.
وارتكبت هذه الجرائم بدم بارد، وهي ليست سوى فصل جديد من فصول الوحشية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني المستمرة منذ 70 عامًا، حتى صارت دماء الفلسطينيين أرخص الدماء، وصار حالنا كما قال الشاعر: “قتْل امرئ في غابة جريمة لا تغْتفر، وقتْل شعب كامل مسألة فيها نظر”، فحين يقتل أو يخطف يهودي أو نصراني أو حتى بوذي تقوم الدنيا ولا تقعد، وتتحرك الهيئات الدولية ترغد وتزبد، وتستنفر وسائل الإعلام لاستنكار ما حدث والثأر ممن قتل أو خطف، أما المسلمون فلا بواكٍ لهم، تباد شعوب بأكملها وتشرد عن أوطانها وتنْتهب خيراتها وتستباح أعراضها، فلا تكاد تسمع منكرًا أو تجد مغيثًا وناصرًا.
ولعل المجازر الصهيونية في حق شعب غزة، هي في المحصلة، نتيجة للصمت العربي الذي يتكرر مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، بعد أن علم الصهاينة والأمريكان أن العرب والقيادة الفلسطينية تحديدًا ظاهرة صوتية، وأن لا خيول للعرب ليركبوها ولا سيوف لهم ليشهروها، فسيوفهم حطب وخيولهم خشب، في ظل حالة العجز والهوان التي يعيشها العالم العربي والإسلامي من القدرة على التأثير على “إسرائيل” وواشنطن.
ساهم العالم بفعله أو بصمته العاجز في قتل الفلسطينيين وتجويعهم وحصارهم
فاليوم قطاع غزة يواجه حرب إبادة شاملة، شهداء وحصار خانق، وكعادتها تماهت الإدارة الأمريكية مع الاحتلال الصهيوني وشاركها الأوربيون، فانتقل الحصار من حالة إسرائيلية ليتخذ شكلًا أمميًا شاركت فيه معظم حكومات العالم، وضمنها بعض الدول العربية، إما اصطفافًا مع المشاريع الصهيونية والأمريكية، أو خشية من العصا الأمريكية الرادعة، وكانت النتيجة أن منع وصول المساعدات والتحويلات المالية للفلسطينيين من الخارج.
وساهم العالم بفعله أو بصمته العاجز في قتل الفلسطينيين وتجويعهم وحصارهم، وكانت قمة الاستهانة بالأرواح الفلسطينية قد صدرت من واشنطن بعد قرار فتح السفارة الأمريكية بالقدس وتصريح الرئيس الأمريكي أن “إسرائيل” – في كل هذه المجازر الدموية – كانت تمارس حق الدفاع عن النفس! ولفظاعة ما حدث اهتزت أمريكا اللاتينية من هول ضحايا الحرب القذرة التي تشن على قطاع غزة، فكان أن اتخذ بعض من قادتها مواقف بطولية ضد العدوان الإسرائيلي، أكثر عروبة من مواقف الدول العربية.
وفي الوقت الذي تتعرض فيه القضية الفلسطينية لأخطر مؤامرة لتصفيتها، تتسارع خطوات تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، والرضا بأبشع مراتب المذلة والتنازل عن الكرامة والحقوق بعد أن تحول وسط العاصمة المصرية القاهرة يوم 8 من مايو/أيار 2018 إلى منصة لاحتفال غير مسبوق في تاريخ مصر أقيم في الذكرى السبعينية لقيام الصهاينة باغتصاب جزء كبير من فلسطين وإقامة كيانهم المسخ المسمى “إسرائيل” بدعوة من السفارة الإسرائيلية في القاهرة وزمرة من المطبعين المصريين، لجعل الوجود اليهودي في فلسطين أمرًا طبيعيًا، والتسليم للكيان الصهيوني بحقه في الأرض العربية بفلسطين وبناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين وتدمير القرى والمدن العربية، في محاولة لتركيع الشعب الفلسطيني والمقاومة ونزع سلاحها وإجبارها على توقيع اتفاقية هدنة من طرف واحد، وفقًا لشروط العدو الصهيوني، تقبل فيه المقاومة بمعادلة التهدئة الدائمة مقابل العيش بأمن وسلام، حتى لو استمر الحصار من البحر والجو والبر.
إننا أمام تجربة فريدة يجسدها الصمود الفلسطيني الذي قارب المعجزة، للذود عن الأعراض والمقدسات بكل ما أوتوا من قوة
وعلى الرغم من حجم الدمار والحصار والخسائر البشرية الباهظة التي من شأنها أن تدفع أي شعب مهما كانت قوته للخضوع حفاظًا على أرواح أبنائه، فإن الشعب الفلسطيني أبى إلا أن يواصل صموده، في موقف بطولي يفوق تصور البشر، مقارنة بما يحدث في بعض دول الوطن العربي، حيث يعتقل أفراد في بلد يبلغ تعداد سكانه الملايين، ويلزم الآخرون بيوتهم، حتى وإن كانوا على حق، خوفًا من البطش والتنكيل.
وحدهم الفلسطينيون يستطيعون إدخال الصهاينة إلى الملاجئ، ويجعلون من جنودهم الذين كانوا يحملون صفة “الجيش الذي لا يقهر” يحملون صفة الجيش المهزوم.
إننا أمام تجربة فريدة يجسدها الصمود الفلسطيني الذي قارب المعجزة، للذود عن الأعراض والمقدسات بكل ما أوتوا من قوة بلا تردد أو خوف، فإما النصر وإما الشهادة، حيث ما زال الشعب صامدًا صابرًا ومحتسبًا ومستعدًا لبذل المزيد، قادرًا على تسجيل ملاحم البطولة والصمود، رافضًا رفع الراية البيضاء والإذعان للإملاءات الصهيونية والغربية، يقولون للعالم “لا يوجد ما نخسره، وحدنا قادرون على الصمود، يموت منا طفل ويولد آخر”، عدد الشهداء يقابله عدد المواليد في غزة، تلك إرادة الله وإرادة النصر.