في ختام سلسلة ملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار”، والتي تمّ التسليط الضوء من خلاله على العديد من الإمبراطوريات التي نجحت في إقامة دول تحولت إلى سلطنات حكمت القارة الإفريقية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نختتم بإمبراطورية أشانتي التي كانت تعتبر إحدى القوى العظمى في غرب إفريقيا.
تميّزت الإمبراطورية بتأثيرها الواسع في المنطقة قبل دخول المستعمرين الأوروبيين، ونشأت هذه الإمبراطورية في منطقة غرب إفريقيا المعروفة باسم ساحل الذهب، وسيطرت على ما يُعرف الآن بجنوب غانا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وامتدت من نهر كوموي في الغرب إلى جبال توغو في الشرق.
مملكة أشانتي .. الكرسي الذهبي
في الفترة بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلادي، هاجر الأشانتيون القدماء، وهم جزء من شعوب الأكان (مجموعة عرقية لغوية من سكان ساحل غينيا)، من المناطق المجاورة لنهر النيجر باتجاه حزام الغابات المعروف اليوم بأكانلاند، وتشكّلت هذه المجموعة العرقية من عدة فروع متفرقة، وتم توثيق هجرتها عبر دراسة أنماط الكلام والكلمات المستخدمة عبر غرب إفريقيا.
مع هجرة الأشانتيين، بدأت تنشأ ولايات وأنظمة سياسية، من بينها ممالك مثل أشانتي، وبرونغ أهافو (أحد أقاليم غانا حاليًا)، ورغم تأسيس هذه الكيانات إلا أنها لم تصل إلى مستوى الدولة المستقلة حتى منتصف القرن السابع عشر، عندما تم تأسيس اتحاد أشانتي الذي دخل الاتحاد في حرب مع دولة دينكيرا المجاورة، وانتصر عليها في معركة فياسي، ما ساهم في بروز أشانتي كقوة إقليمية بارزة في المنطقة.
ترأّس الأشانتي خلال الحرب ضد دولة دينكيرا الملك أوسي توتو (رئيس دولة كوماسي الصغيرة)، الذي تحالف مع الكاهن أنوكوي الذي تقول الأسطورة إنه أمر خلال الحروب بإحضار الكرسي الذهبي من السماء باعتباره مستودعًا لروح الأمة، إلى حضن الملك أوسي توتو.
وأعلن أنوكوي أن الكرسي هو رمز اتحاد الأشانتي الجديد، وإلى اليوم هذا الكرسي مقدس لدى الأشانتي لأنه يُعتقد أنه يحتوي على روح شعب الأشانتي.
في عام 1701، أعلن الملك أوسي توتو استقلال دولته بعد 31 عامًا من تأسيسها الفعلي وانفصالها عن دولة دينكيرا، وأسماها إمبراطورية أشانتي، حيث شهدت فترة حكمه توسعًا إقليميًا كبيرًا، وأجرى إصلاحات تنظيمية على الجيش الملكي، وحوّله إلى قوة عسكرية فعّالة قادرة على فرض الهيمنة الإقليمية.
مرحلة التوسع
بعد تأسيس المملكة قاد الملك أوسي توتو عملية توحيد سريعة أخرى لشعوب آكان عبر الدبلوماسية والحرب، بالتعاون مع مستشاره، وحثّ الثنائي قادة مدن الأشانتي الأخرى على إعلان الولاء والالتزام بمدينة كوماسي عاصمة للمملكة الجديدة، وتشكلت بذلك أقوى دولة سياسية وعسكرية في المنطقة الساحلية.
كما عزز الملك أوسي توتو مركزية الحكم، ووسّع صلاحيات النظام القضائي داخل الحكومة المركزية، فأصبحنا أمام إمبراطورية مترامية الأطراف تتطلع إلى توسيع حدودها، وكان لدى المناطق المحتلة حديثًا خيار الانضمام إلى الإمبراطورية أو أن تصبح دولًا تابعة.
في فترة تولي أوبوكو وير الحكم فترة 1720-1750 خلفًا لأوسي توتو، بلغت المملكة أقصى اتساع لها، حيث امتدت من نهر كوموي في الغرب إلى جبال توغو في الشرق (كانت حدودها متوافقة تقريبًا مع حدود غانا اليوم)، وأسّس وير وخلفاؤه دولة مركزية قوية، مع بيروقراطية فعّالة قائمة على الجدارة ونظام اتصالات جيد.
وكانت مهمة الملك الحفاظ على السلام الداخلي والعلاقات مع السلالات الأخرى في المنطقة، فضلًا عن حماية الكرسي الذهبي الذي يرمز إلى الحكم ويجسّد أرواح الأسلاف، وله وظيفة دينية أيضًا، فهو الوسيط بين الأهالي الأحياء والأموات.
خلال فترة ملكها التي امتدت نحو 200 سنة، جمعت إمبراطورية أشانتي القرى في أقسام إقليمية، وكان رئيس القرية الرئيسية هو الرئيس الأعلى للقسم، ومجلس قريته بمثابة مجلس القسم، فيما كان الرئيس الأعلى للعاصمة الوطنية، كوماسي، هو رئيس الكونفدرالية، أي الملك ويطلق عليه لقب الأشانتهيني.
تجارة الذهب
تمكّنت المملكة من الوصول إلى خليج غينيا والتجارة الساحلية للمحيط الأطلسي مع الأوروبيين، لا سيما الهولنديين، حيث كان اقتصاد المملكة يعتمد بشكل أساسي على تجارة الذهب والصادرات الزراعية، بالإضافة إلى الحرف اليدوية والتجارة مع الأسواق في الشمال.
ويعود ظهور الذهب في المنطقة إلى بداية القرن الثامن عشر، وبرزت الأشانتي كلاعب رئيسي في هذه التجارة المدرّة للأرباح الكثيرة، ما عاد بالنفع على الشعب الذي أصبح بدوره ثريًا.
في بداية حكمه، جعل الإمبراطور أوسي توتو مناجم الذهب ممتلكات ملكية، وحوّل مسحوق الذهب إلى العملة الرسمية في الإمبراطورية، وكانت طبقة التجار الأثرياء، وحتى المواطنين العاديين، تجمع الذهب بشكل متكرر، ويستخدمه الفقراء لتزيين ملابسهم.
أما العائلة المالكة والأثرياء فامتلكوا حليًا ذهبية أكبر قيمة، والتي كانت تُصهر دوريًا لتصنيع مجوهرات وتماثيل جديدة، ما ساهم في ترسيخ مكانة الذهب في الثقافة والاقتصاد داخل الإمبراطورية.
في أوائل القرن التاسع عشر، تحول الاقتصاد في الإمبراطورية من الاعتماد على الذهب إلى تجارة العبيد، إذ أصبحت المملكة مصدرًا رئيسيًا لتوريد العبيد للتجار الأوروبيين، مثل البريطانيين والهولنديين والبرتغاليين، مقابل سلع فاخرة وأسلحة نارية.
هذا التبادل عزز من قوة المملكة، وساعدها في توسُّعها الإقليمي وحروبها ضد الممالك والجماعات المجاورة، في حين كان البرتغاليون شركاء بارزين للأشانتي، إذ قدّموا لهم الأسلحة التي مكّنتهم من فرض سيطرتهم ونفوذهم في المنطقة.
صراع النهاية
ورغم الثروة الكبيرة التي جمعتها المملكة من الذهب وتجارة العبيد ومكّنتها من مدّ سطوتها على أراضٍ واسعة في المنطقة، إلا أنها أنهكت قوتها في الوقت نفسه، فنتيجة البحث عن عبيد جدد كانت الإمبراطورية في حروب مستمرة ودائمة مع جيرانها.
أنهكت هذه الحروب المتواصلة قوة الإمبراطورية، بالتوازي مع ذلك نشأت فئة جديدة تستأثر بالقوة والثروة بعد أن كانت حكرًا على العائلة الحاكمة، وأضحت هذه الفئة منافسًا قويًا على الحكم، فانتشرت الفوضى والاضطرابات في البلاد.
رغم هذا الضعف، كانت هناك رغبة قوية من الأشانتي للتوسع أكثر في المناطق الساحلية، فاستغل البريطانيون هذا الأمر، وأخذوا يتوسعون في أراضيها خطوة بخطوة، وقاومت الأشانتي في فترة 1823-1873 التعدي البريطاني على مناطق نفوذها، وخاضت حروبًا كثيرة.
دارت الحرب الأولى بين البريطانيين وإمبراطورية الأشانتي بين عامي 1824 و1831، حيث دعم البريطانيون قبيلة الفانتي في صراعها ضد الأشانتي، ورغم هذا الدعم تمكّنت الأشانتي، أصحاب الكرسي الذهبي، من هزيمة البريطانيين وحلفائهم، وبعد عدة مواجهات تم توقيع معاهدة سلام بين الطرفين في عام 1831، لتجنُّب الصراع بينهما على مدى الـ 30 عامًا التالية.
الحرب الثانية بين الطرفين وقعت بين عامي 1863 و1864، وخسرت الإمبراطورية جزءًا كبيرًا من أراضيها وقُتل العديد من مقاتليها.
في عام 1867، أنشأت بريطانيا مستعمرة “ساحل الذهب” رسميًا، وبعد شراء مستعمرة الهولنديين، بما فيها مدينة إلمينا التي طالبت بها الأشانتي، قررت الأشانتي غزو المحمية البريطانية الجديدة.
نشبت الحرب الثالثة بين الأشانتي والبريطانيين بين عامي 1873 و1874، وسُمّيت “بعثة الأشانتي الأولى”، أما الحرب الرابعة التي وقعت بين عامي 1895 و1896، وعُرفت باسم “بعثة الأشانتي الثانية”، اندلعت بعد رفض الأشانتي عرضًا بريطانيًا غير رسمي لتحويل أراضيهم إلى محمية ورفض ملكهم التخلي عن سيادته.
بعد الحرب الرابعة، سعت الإمبراطورية إلى التفاوض وتقديم تنازلات بشأن تجارة الذهب والموارد الأخرى، كما أبدت استعدادًا للخضوع للتاج البريطاني، لكن البريطانيين رفضوا وأصرّوا على السيطرة الكاملة خوفًا من المنافسة الفرنسية والألمانية.
تلت ذلك الحرب الخامسة المعروفة بـ”بعثة الأشانتي الثالثة“، التي أسفرت عن إخضاع الأشانتي بشكل كامل، حيث أُعلن في 1 يناير/ كانون الثاني 1902 أشانتي مستعمرة بريطانية رسمية، وتمّ نفي العديد من قادتها، حيث شكّلت المقاطعات الشمالية السابقة في اليوم نفسه بشكل منفصل محمية الأقاليم الشمالية لساحل الذهب.
قاومت الإمبراطورية الاختراق البريطاني لعقود طويلة، رغبة منها في المحافظة على سيادتها، إلا أن هذه المقاومة كانت دون جدوى، إذ تمكن البريطانيون منها وأنهوا حكم إحدى أغنى السلالات وأكثرها قوة واستمرارية في غرب إفريقيا، ورغم خروجهم من تلك المنطقة في خمسينيات القرن الماضي، لم يسمحوا بإعادة تشكُّل هذه الإمبراطورية مجددًا خوفًا على مصالحهم الكثيرة في المنطقة.