استقلوا قطار الهجرة هربًا من الفقر في بلدانهم بحثًا عن لقمة العيش وحياة أفضل تسد رمق أبنائهم المهددين بواقع مرير ومستقبل أكثر بؤسًا، لتنتهي رحلتهم وسط صحراء قاحلة، جثث قد تعفنت وأرواح غابت عن الحياة وأسماء نُقلت من خانة الأحياء – حتى إن عاشوا أمواتًا – إلى سجلات المتوفين رسميًا، وإن مُزقت الجثث وشُوهت ملامحها.
116 مصريًا اُكتشفت جثامينهم في الصحراء غرب حقل البستر بمنطقة أجدابيا شرق ليبيا، مدفونة في الرمال فترة تقترب من العام، حسبما أعلنت منظمة الهلال الأحمر الليبي، غالبيتهم من محافظات المنيا وأسيوط جنوب مصر، وجارٍ فحص الأوراق الثبوتية للجثث التي عُثر عليها.
المنظمة في بيان لها أمس نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي رجحت أن يكون سبب الوفاة الجوع والعطش وحرارة الشمس التي تعرض لها المتوفون في أثناء عبورهم من الأراضي المصرية إلى الليبية في هجرة غير شرعية.
حالة من الغضب خيمت على الشارع المصري مع كشف تلك المأساة الجديدة التي تضاف إلى سجلات المعاناة التي يتجرع المصريون كؤوسها منذ سنوات، في ظل واقع معيشي متأزم وأوضاع اقتصادية متدهورة، دفعت الجميع بلا استثناء إلى البحث عن بدائل، حتى لو كان الموت إحداها.
ليست الأولى
رغم نفي المتحدث باسم الهلال الأحمر الليبي لهذه الأنباء غير أن بعض المصادر أكدتها من أكثر من جانب وصلت إلى نشر بعض الأوراق الثبوتية للمتوفين، هذا بخلاف أنها ليست المرة الأولى التي تبتلع فيها صحراء ليبيا أرواح المصريين، جوعًا وعطشًا.
ففي يوليو 2017 لقي نحو 20 مهاجرًا غير شرعي، يحملون الجنسية المصرية، مصرعهم جنوب بوابة الـ200 بنحو 250 كيلومترًا، بالقرب من وادي علي داخل منطقة الرمال، في ليبيا، فيما قال مدير عام مركز طبرق الطبي الدكتور فرج الجالي فى تصريحات صحفية، إن جثث المصريين التي عُثر عليها في الصحراء، كانت متحللة، ولهذا رفضت مشرحة مركز طبرق الطبي استقبال الجثث، لأنها تتسبب في نقل الجراثيم.
نائب رئيس المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان: الهجرة غير الشرعية لن تنتهي، ومصر أصبحت طاردة لشبابها رغم أنهم يعلمون أن هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر، لكن الأمل في حياة أخرى يجعلهم يلعبون على الحظ
وفي سبتمبر من نفس العام أعلنت قوات الأمن الليبية عثورها على 16 جثة لمهاجرين مصريين في الصحراء قرب حدود ليبيا مع مصر، وقال أحمد المسماري المتحدث باسم ما يعرف بالجيش الوطني الليبي المتمركز في شرق ليبيا إنه جرى العثور على الجثث على بعد نحو 310 كيلومترات جنوب غربي مدينة طبرق الساحلية، ولم تحدد جمعية الهلال الأحمر وقتها تاريخ وقوع الحادث، إلا أنها قالت إن الجثث التي وجدت متحللة.
هذا بخلاف عشرات الأحداث التي تقع يوميًا ما بين قتل وتنكيل وتعذيب لمصريين هناك داخل الأراضي الليبية، لعل أبرزها ذبح 21 قبطًيًا مصريًا على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في فبراير 2015، وهي الحادثة التي أثارت جدلاً كثيرًا حينها، وقد أعادت السلطات الليبية رفاتهم إلى مصر قبل يومين بعد 25 شهرًا من قتلهم.
مقتل 21 قبطيًا مصريًا بأيدي “داعش” فبراير 2015
واقع معيشي متأزم
منذ ثورة يناير 2011 ومعاناة المصريين في تزايد مستمر، غير أن السنوات الأربعة الأخيرة على وجه التحديد كانت الأشد وطأة على واقعهم المعيشي بلغت ذروتها عقب قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه) في الثالث من نوفمبر2016؛ مما تسبب في انهيار قيمته الشرائية ومن ثم قفزات جنونية في الأسعار لم يتحملها المواطن الذي تعاني دخوله من شلل تام.
هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار انعكس بدوره على معدلات التضخم لتهرول بدورها نحو مستويات قياسية غير مسبوقة، لتصل إلى 30.7% خلال 2017، مقارنة بـ10.2% في 2010، ورغم تراجعه تدريجيًا اعتبارًا من أغسطس الماضي وفق البيانات الحكومية الرسمية، فإن المعدلات لا تزال هي الأكبر خلال الخمسين عامًا الأخيرة.
الأسعار والتضخم قادوا إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، فإن معدل البطالة بلغ بنهاية نوفمبر/تشرين الأول 2017 نحو 11.9%، بينما كانت هذه النسبة نحو 9% في ديسمبر/كانون الأول 2010، ويشير خبراء في مجال التوظيف إلى أن نسبة البطالة الحقيقية تتجاوز 25% خلافًا لما تعلنه الحكومة.
الدكتور سعيد صادق: الدولة المصرية منذ السبعينيات ارتأت أن الحل يكمن في ترحيل أبنائها إلى دول أخرى، لما يدر ذلك عليها من عشرات المليارات من العملة الخضراء (الدولار)
كل ما سبق أدى في نهاية المطاف إلى طفرة هائلة في نسب الفقر ومعدلات الفقراء في مصر، فوفقًا للبيانات الرسمية قفزت نسبة الفقراء من 25.2% عام 2011 إلى 26.3 عام 2013 ثم 27.8% في 2015، بينما تشير بيانات غير رسمية إلى تجاوز معدلات الفقر 40% من إجمالي السكان بعد موجات الغلاء الأخيرة وانهيار القدرات الشرائية للمصريين.
جهاز التعبئة العامة والإحصاء في بياناته كشف أنه خلال عامي 2014 و2015 فقط سقط ما يقرب من 1.4 مليون مصري جديد تحت خط الفقر، فيما ذهب خبراء إلى مضاعفة هذا الرقم خلال العامين التاليين لقرار تعويم الجنيه.
في 2016 بلغت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8%، وفقًا لبحث الدخل والإنفاق لعام 2015، وفي عام 2017 ذكر الجهاز أيضًا أن 27% من سكان مصر لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، ما يعني وقوع 30 مليون مصري تحت خط الفقر.
يذكر أن الحكومة المصرية قدرت خط الفقر بمن يحصلون على دخل شهري بنحو 482 جنيهًا (27.3 دولار)، بينما خط الفقر العالمي يصل إلى 57 دولارًا شهريًا، وهو ما يعادل أكثر من ألف جنيه، وفق سعر الصرف الرسمي حاليًّا، مما يعني أن الرقم المعلن للفقراء في مصر ربما يتضاعف بصورة غير مسبوقة لو تم اعتماد المنسوب العالمي لخط الفقر.
30 مليون مصري تحت خط الفقر وفق البيانات الرسمية
طاردة لأبنائها
الواقع المعيشي المتدني، في ظل اقتصاد مترهل وبطالة متفشية وغياب السياسات القادرة على تحسين الأجواء، دفع المصريين إلى الهروب بأي ثمن، سواء كان ذلك بطريقة شرعية أم غير شرعية، حتى لو حملت في طياتها مغامرة ربما تكلفهم حياتهم، وهو ما كشفته الأرقام المعلنة عن أعداد المصريين المتوفين في صحارى ليبيا خلال السنوات الأخيرة، ممن كان يراودهم الأمل في إيجاد فرصة عمل أفضل داخل الأراضي الليبية رغم ما بها من مخاطر في ظل وضع أمني وسياسي غير مستقر أو عبور البحر إلى أوروبا حتى ولو كان الموت أقرب السيناريوهات المحتملة.
يبدو أن “الهجرة غير الشرعية لن تنتهي، ومصر أصبحت طاردة لشبابها رغم أنهم يعلمون أن هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر، لكن الأمل في حياة أخرى يجعلهم يلعبون على الحظ” حسبما جاء على لسان عبد الغفار شكر، نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان ورئيس الحزب الشعبي الاشتراكي المصري.
شكر في تصريحات له تعليقًا على هجرة الشباب المصري غير الشرعية قال: “هما عارفين إنهم ممكن يموتوا ورغم ذلك يلجأون إلى الهجرة غير الشرعية، أنا فاكر إن في شاب حاول الهجرة 6 مرات، تم إنقاذه وهو بيغرق في البحر، ولما أنقذوه قالهم إنه هيرجع تاني يهاجر”، مؤكدًا أن مصر تفتقد لظروف الحياة المناسبة.
فيما قال الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إن الاقتصاد المصري طارد لأبنائه، لافتًا إلى أن الدولة المصرية منذ السبعينيات ارتأت أن الحل يكمن في ترحيل أبنائها إلى دول أخرى، لما يدر ذلك عليها من عشرات المليارات من العملة الخضراء (الدولار).
مدير عام مركز طبرق الطبي: جثث المصريين التي عُثر عليها في الصحراء، كانت متحللة، ولهذا رفضت مشرحة مركز طبرق الطبي استقبال الجثث، لأنها تتسبب في نقل الجراثيم
غير أن معدلات البطالة تفاقمت بشكل غير مسبوق بعد ثورة يناير، حيث تآكلت فرص العمل، ومن ثم زادت الرغبة في الهروب خارج البلد، حسبما أشار صادق في حديثه الذي أوضح من خلاله أن غالبية الشباب المصري الآن يشعرون بأنهم “عايشين زى الميتين بالظبط”، وتابع “حينما تستوي الحياة بالموت توقع أي شيء”.
يذكر أنه وفي دراسة رسمية صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي) كانت قد كشفت أن معظم المحافظات المصرية طاردة لأبنائها، غير أنها حددت 10 محافظات على وجه التحديد كانت السبب في تزايد ظاهرة الهجرة غير الشرعية بين المصريين هي: الشرقية والدقهلية والقليوبية والمنوفية والغربية والبحيرة وكفر الشيخ (الوجه البحري ومنطقة الدلتا شمال مصر) والفيوم وأسيوط والأقصر (صعيد مصر).
ومن ثم فمن الواضح أن جثث المصريين في صحاري ليبيا التي عُثر عليها بالأمس لن تكون الأخيرة كما أنها ليست الأولى، وهو ما يزيد من مأساوية المشهد ويضفي حالة من القلق على مستقبل الملايين ممن فقدوا الأمل في تحسن أوضاعهم المعيشية في ظل استمرار ذات السياسات.
فالحكومة لا تملك برنامجًا اقتصاديًا واضحًا ومحددًا لعلاج الملفات المعيشية الأكثر خطورة على مستقبل المصريين، وهو ما يجهض أي نظرة للتفاؤل بشأن القدرة على الحد من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وسط إصرار كامل من الحكومة المصرية على رفع الدعم لمواجهة العجز في الموازنة والتضخم، هذا بخلاف ما يثار بشأن النية في التخلص من الملايين من العاملين بالجهاز الإداري استجابة لخطة الإصلاح الاقتصادي التي أقرها صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني استمرار مسلسل الهجرة غير الشرعية ومواصلة قطار الهروب من جحيم الفقر رحلته التي كثير من الأحيان تنتهي عند محطة الموت، غرقًا في قاع بحر المتوسط، أو جوعًا وعطشًا في بحر رمال ليبيا.