على الرغم من أنّ الكثير من الشعوب المختلفة قد حافظت على العديد من العادات والتقاليد المرتبطة بشهر رمضان وعيد الفطر الذي يليه بشكلٍ كبير، إلا أنه مما لا شكّ فيه أنّ ثورة التكنولوجيا الحاصلة في القرن الواحد والعشرين تسعى جنبًا إلى جنب مع قوى العولمة ومظاهرها، إلى إحداث تغييرات كبيرة وملحوظة في التفاصيل اليومية المتعلقة بهذا الشهر.
وكغير أثرها على رمضان، لا تكاد آثار التكنولوجيا تتنوع ما بين الإيجابية والسلبية. فبدءًا من التطبيقات الإلكترونية التي باتت تُصمّم خصيصًّا للعبادات الدينية المتعلقة برمضان، مثل معرفة أوقات الصلوات، وتطبيقات قراءة القرآن وتفسيره وتطبيقات الأدعية أو النصائح الدينية التي تلقى رواجًا في هذا الشهر على عكس بقية الشهور، وانتهاءً بالسلوكيات السلبية التي تسلب الشهرَ قيمتَه وتحوّله لأداةٍ استهلاكية تخضع لمعايير العولمة والرأسمالية.
قبلَ عقدٍ من الزمان تقريبًا، كنّا نناقش كيف كان التلفاز يشكل تفاوتًا كبيرًا في الطابع الذي كان يشهده الشهر الفضيل مسبقًا وما يشكلّه طابع هذا الشهر في الوقت الحالي
ولعلّ أبسط تلك السلوكيات هي ارتفاع نسبة مشاهدة التلفاز بشكلٍ واضحٍ وجليّ خلال الشهر، لا سيّما وأنّ الإنتاج التلفزيونيّ خلاله يتعدّى بقية السنة، خاصة وإن نظرنا لحجم البرامج والمسلسلات المُنتجة خصّيصًا لرمضان، سواء البرامج الدينية المختلفة أو برامج الطعام والطبخ، والمسلسلات الدراميّة التي يبدأ عرضها مع اليوم الأول من الشهر وتنتهي بانتهائه.
وبالتالي، تحظى القنوات العربية، خلال شهر رمضان، بشعبية أكبر من أي وقت آخر في باقي أوقات العام، ولعلّ هذا يكونَ فرصةً لتجمّع العائلة والتقاء أفرادها أمام الشاشة، في الوقت الذي بات فيه التلفاز يختفي من المشهد اليوميّ للأفراد بصورةٍ ملحوظة، أمام سيطرة الهواتف والألواح الذكية.
فربما نستطيع القولَ أنّ تلك البرامج والمسلسلات تتيح ملاذًا جيّدًا لأفراد العائلة بالتسمّر والتجمّع معًا بهدفٍ واحد بعيدًا عن أجهزتهم الإلكترونية الخاصة التي ينفردون بها. لاحظ هنا أنّنا قبلَ عقدٍ من الزمان تقريبًا، كنّا نناقش كيف كان التلفاز يشكل تفاوتًا كبيرًا في الطابع الذي كان يشهده الشهر الفضيل مسبقًا وما يشكلّه طابع هذا الشهر في الوقت الحالي.
أصبح من الممكن ألّا يجتمع الأفراد في الساعة ذاتها أمام الشاشة لمشاهدة مسلسلٍ أو برنامجٍ ما، طالما بإمكانِ أيّ فردٍ في أيّ وقت مشاهدته على مواقع الإنترنت التي توفّره
فكنّا نتحدث عن أنّ التلفاز أدّى إلى تغييرِ الطابع الفضيل للشهر، إذ جعل من الأفرادِ يهتمون بما يرونه على الشاشة أمامهم غير مبالين بمن حولهم وبالعلاقات الاجتماعية التي كان يطغى عليها التزاور والتواصل والالتقاء مع الأقارب والسهر وتبادل أطراف الحديث، بعكس ما يطغى من رسمية على العلاقات حاليًا.
وبكلماتٍ أخرى، نستطيع القولَ أنّ التلفاز كان أداة التسلية الوحيدة في رمضان، إذ تجتمع حوله العائلة سواء في ساعات النهار أو من وقت الإفطار وحتى وقت السحور، خاصةً وأنّ شاشاته لا تتوقف أبدًا عن بث الدراما والفكاهة والمسابقات على مدار اليوم. وبغياب البديل الآخر، كان الجميع يجد في متابعة القنوات التلفزيونية متعةً وفرصةً للمشاركة الاجتماعية، لكن الإنترنت قد غيّر الكثير.
فتراجعت قيمة التلفاز في الوقت الحالي، وصار “يوتيوب” ومنصات البث المرئي ومواقع التواصل مصادر تسلية خطفت جزءًا كبيرًا من مشاهدي التلفزيون، وأصبح من الممكن ألّا يجتمع الأفراد في الساعة ذاتها أمام الشاشة لمشاهدة مسلسلٍ أو برنامجٍ ما، طالما بإمكانِ أيّ فردٍ في أيّ وقت مشاهدته على مواقع الإنترنت التي توفّره.
إذن، فقد سيطرت الهواتف الذكية وتطبيقاتها الإلكترونية على المشهد اليوميّ الرمضانيّ، وبات كلُّ فردٍ يجد في تلك التطبيقات ملاذًا جيّدًا يساعده في تضييع وقت الصوم والالتهاء عن تعبه، سواء في منشورات فيسبوك وتويتر أو صور إنستجرام وسناب شات، أو حتى تطبيقات المحادثات والرسائل النصية العديدة.
أما فيما يتعلّق بالمحتوى الإلكتروني المتداول في شهر رمضان، فتطغى منشورات “النسخ واللصق” على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويتحوّل المشهد فيها إلى دينيّ بشكلٍ شبه كامل، فيبدأ الناس بمشاركة الآيات والأدعية وما قرأوه من قرآن فيما بينهم، حتى وإنْ لم يقرأوا بأنفسهم ما نشروه، فالمهمّ هو المشاركة في سياق هذا العالم.
تحوّلت وجبة الإفطار إلى مائدة يتمّ تداولها على إنستغرام، ويقضي العديد من الأفراد الكثير من أوقاتهم في استعراض موائدهم وتزيينها لتظهر بصورةٍ تليق بمشاركتها
وشيئًا فشيئًا، تحوّل الطقس الدينيّ الرمضانيّ من صيغته الروحانية الخاصة إلى صيغةٍ عمومية يتمّ تداولها وتشاركها بين الأفراد بمنشورٍ فيسبوكيّ أو بصورةٍ على إنستجرام، تمامًا كما كانت أعمال الخير والتبرّع تتمّ على نطاقٍ خاصً سرّي وضيّق وتحوّلت اليوم بفعل تلك المواقع والتطبيقات إلى “مسرحٍ” أو “فرجةٍ” لحشدِ أعداد كبيرة من المتطوعين الذين يتسابقون في “إظهارِ” خيرهم وإيمانهم أمام تلك المنصات وروّادها من جهة، وإلى عددٍ كبيرٍ من المحتاجين الذين باتوا أداةً يستخدمها أولئك المتطوّعين من جهةٍ أخرى.
كما لا يخلو انستجرام وسناب شات من الصور التي تنقل معظم تفاصيل رمضان، من السحور وصوت المسحراتي إلى تفاصيل اليوم والتجهيز لوجبة الإفطار وانتظارها، إلى صلاة التراويح والذهاب إلى الجوامع والمساجد، وانتهاءً بالسهر ولحظات تجمّع العائلة.
فقد تحوّلت وجبة الإفطار إلى مائدة يتمّ تداولها على إنستغرام، ويقضي العديد من الأفراد الكثير من أوقاتهم في استعراض موائدهم وتزيينها لتظهر بصورةٍ تليق بمشاركتها، والتفاخر بأصناف الطعام في المائدة، أو تصويرها قبل الأذان والشكوى من الجوع والتعب والتعبير عن لهفة انتظار الأذان لأجل تلك المائدة.
تحاول التكنولوجيا شيئًا فشيئًا التغيير من ملامح رمضان التي اعتدنا عليها وعرفناها لسنواتٍ طويلة، ولا ندري على أيّ شكلٍ ستصبح عليه طقوسنا الدينية في عصر التكنولوجيا بعد سنواتٍ أو عقودٍ من الآن
أما على تويتر، فيشتكي الكثير من المغرّدين أيضًا طوال اليوم من تعب رمضان وصومه، ومن طول يومه وملله، ويقوم البعض منهم بحساب عدد الأيام والساعات المنقضية في تغريدةٍ أو أكثر، أو اشتياقه لشرب القهوة خلال ساعات النهار وتعبه الناتج عن غيابها وما إلى ذلك من المواضيع المتشابهة التي يحوّلها المغرّد إلى مواد سخية تصلح لبدء المحادثات مع أصدقائه ومتابعيه. وبهذا نستكشف جزءًا من الطريقة التي أثرت بها التكنولوجيا على رمضان والتفاصيل المتعلفة به.
وعلى نحوٍ أكثر خطورة، عملت التكنولوجيا بكونها واحدةً من إنتاجات الرأسمالية، على تسويق الحياة الدينية ورأسملتها، بحيث أصبح الاستهلاك والامتلاك والشراء شعاراتٍ مرافقة لرمضان، إذ ظهر ما يُعرف في السنوات الأخيرة بظواهر من قبيل “مهرجانات رمضان” أو “خيم رمضان” التي تنتشر في كلّ مكان وتستخدم من مواقع التواصل الاجتماعيّ فرصةً للإعلان عن نفسها والتسويق لفعالياتها، والأفراد بدورهم يتبادلون صورًا وفيديوهات على تلك المواقع أثناء تواجدهم في تلك المهرجانات.
وبالتالي، تحاول التكنولوجيا شيئًا فشيئًا التغيير من ملامح رمضان التي اعتدنا عليها وعرفناها لسنواتٍ طويلة، قد يكون جلّ تلك التغييرات تسير بشكلٍ سلبيّ يتعارض مع عاداتنا ويغيّر من تقاليدنا بطريقةٍ تسلب الشهر روحانيّته وأساسه الدينيّ والإيمانيّ، ولا ندري على أيّ شكلٍ ستصبح عليه طقوسنا الدينية في عصر التكنولوجيا بعد سنواتٍ أو عقودٍ من الآن.