رمضان ذكرى ألم الماضي وفرح الحاضر وعودة الحياة من جديد، حين نقول الألم فإننا نعنيه بكل تفاصيله بعمق وجعه وبشدة الفقد والعوز والجوع؛ شتان بين اليوم والأمس، ما سيذكر ربما لن يصدقه عقل ولن يعقله الناس لكن هذا ما حدث فعلًا وعلى لسان حال أهلها ومن عاش تلك الفترة، وقد نكون تحفظنا على جزء لا يسعنا ذكره.
سنة مضت بين شهر رمضان قد أفل بقسوته وعوزه وظلمه وقصفه وشظاياه، ورمضان جديد يكلله الفرح ومفعم بالحمد لأيام ولت لا أعادها الله بأوجاعها، وبين هذا وذاك أبحرنا، فتمالك أنفاسك وتمعن بحجم كل ذاك العوز والألم والحرمان والصبر على المصائب وتخطيها.
الناس يبحثون عن الماء والطعام في المخازن والمحلات ولكن دون جدوى، أطفالهم يصرخون من شدة الجوع والعطش، الأب هائم يجوب الأرض ليحصل على فتات خبز أو حبات قمح ليسد بها جوع طفله
المراسل والصحفي عمر الجبوري يقول: “خلال أيام الحرب صام أهالي الموصل قبل قدوم شهر رمضان، تعرضت المدينة لحصار خانق وهم رازحون تحت وطأة داعش، ولم يكن رصاص القناصين كفيلاً بقتلهم فقط، بل كان الجوع والعطش يتربص بهم من كل جانب”.
وأضاف: “الناس يبحثون عن الماء والطعام في المخازن والمحلات ولكن دون جدوى، أطفالهم يصرخون من شدة الجوع والعطش، الأب هائم يجوب الأرض ليحصل على فتات خبز أو حبات قمح ليسد بها جوع طفله، الأم تسقي طفلها من ريقها وقد بدأت أحشاؤه تجف وتتيبس من شدة العطش، وأخيرًا وجد الأب قطًا نحيل الجسم قد تمكن الجوع منه، لا يقل سوءًا عن حال البشر”.
ومضى إلى القول: “الناس أموات أقرب ما يكونوا أحياءً، أحدهم مات وهو صائم وفاضت روحه قبل وقت الإفطار بـ3 دقائق، طلب الأهل منه أن يفطر، ولكن لا يوجد طعام ليأكل، هرع ابنه ليحضر له حساء الحنطة ولكن فات الأوان، أما اليوم فقد حل رمضان من جديد وأهالي المدينة بين فاقد لأهله أو فاقد لداره وبين مهجر ونازح”.
واستدرك قائلًا: “رمضان هذه المرة أتى خاليًا من الموت والدمار، ولكنه لا يخلو من الحزن والألم والحسرة، والناس يتذكرون موتاهم الذين قضوا في المعارك، من فقد أهله ومن فقد منزله ومن فقد صحته، ولكنهم يأملون أن يكون رمضان القادم أفضل من الذي سبقه وأن يعودوا إلى ديارهم بعد إعمارها”.
هل يُعقل أن ينفذ الغذاء في مدينة كانت تسمى بسلة خبز العراق؟
أما الصيدلاني أيوب ذنون فإنه يقول: “رمضان قبل عام فقط عندما كنا هناك تحت مرمى النيران والجوع والخوف، والمرض قد تسلل عبر فتحات أُحدثت في جدران المنازل لتكون ملاذًا لهروب مسلحي داعش ومصدر رعب لسكان الموصل القديمة في قصة قد لا تصدق لمن سيسمعها ولم يعشها، فهل يعقل أن ينفذ الغذاء في مدينة كانت تسمى بسلة خبز العراق إلى درجة لم تبق كسرة خبز في المنزل، كسرة خبز بمعناها الحقيقي وليس المجازي، ليس هذا فقط بل لم تبق شربة ماء صالحة للشرب، بدأ البحث عن الماء تحت الأرض، حفر عبود بيديه بئرًا زاد عمقه على 14 مترًا تحت درج منزله العتيق بحثًا عن ماء، رغم أنه غير صالح للشرب واستمر في ذلك أكثر من أسبوعين”.
بعد أن نفدت البضائع بأنواعها كافة بدأ التفنن بإيجاد بدائل، فكان “اللبن” بمثابة وجبة غذائية مع ماء البئر وبضع من كسرات الخبز إن وجدت للكثير من العائلات المحاصرة، لاحتواء اللبن على مواد سكرية وأملاح بعد وصول سعر كيلو السكر إلى 120 دولارًا
“وجاء رمضان لكن بأي حُلة، فقد جاء قبل أن يأتي وحُكم على الأهالي التي بقيت محاصرة بالصوم المؤبد مع الخوف والقلق لحين مجيء العيد (الحرية والتحرير) ليس العيد كأي عيد هذه المرة كما كان رمضان مختلف العيد مختلف، مع ذلك كله فقد صام أهالي الموصل القديمة وتحملوا أشد أنواع العذاب حتى أتاهم الفرج”.
وأضاف: “بعد أن نفدت البضائع بأنواعها كافة بدأ التفنن بإيجاد بدائل، فكان “اللبن” بمثابة وجبة غذائية مع ماء البئر وبضع من كسرات الخبز إن وجدت للكثير من العائلات المحاصرة، لاحتواء اللبن على مواد سكرية وأملاح بعد وصول سعر كيلو السكر إلى 120 دولارًا”.
من جانبه يقول الأستاذ عبد الرحمن محمود يونس كاسب: “رمضان السابق كنا نعيش وسط غرفة 4×4 ونحن 6 أفراد وطفلان، طعامنا يقتصر على بعض الحنطة عند الفطور وماء البئر، بالإضافة إلى طعامنا كانت المدافع والطائرات والهاونات تنزل علينا بكل ثقلها، كنا نتحمل ونتحمل من أجل أهلنا من أجل أطفالنا، تحملنا جوعنا من أجل إطعام أطفالنا لكن بعد كل هذا تقابلنا بنقص الحنطة المفقودة أصبحت في تلك الأيام ونقص مياه البئر لعدم قدرتنا على الوصول إلى الآبار”.
“ومع كل هذا كنا نمسي على فقدان أحد الأقارب ونصبح على فقدان أحد الأصحاب، آآآه كم ذقنا ما لم يذقه آبائنا وأجدادنا، ذهبت ولن تعود بإذن الله تلك الأيام”.
وتحدثت أم داليا بأوجاع عاشتها خلال تلك الفترة، فهي ابنة شهيد متزوجة وأم لـ3 أطفال تقول: “عشنا في المنطقة المنكوبة القديمة في منطقة النبي جرجيس أيام الحرب والتحرير أمر الأيام، كنا نعتقد أننا سنُحَرر بسرعة لكن للأسف طالت المدة كثيرًا وهذا ما لم نكن نتوقعه، وجاءنا شهر رمضان وبأي حال جاء؟ نحن جوعى وعطشى ليس لنا إلا الصبر نتسحر به والسلوان الذي أنعم الله به علينا لنستمر في هذه الأيام الشريفة، وبعد التحرير تعصف بي رياح الذكريات فأتذكر جوع أطفالي وافتقارنا لأبسط متطلبات العيش، ورغم كل الظروف ووابل الهاوانات والصواريخ صمنا وأفطرنا على ألم فراق الأهل وفقد بعض منهم”.
وأضافت: “كل ما بقى بذاكرتي يوم تحريرنا في الأول من يوليو/تموز وساعة تحريرنا في الرابعة والنصف عصرًا، هذا حقًا ما تبقى والأشياء المؤلمة نحاول أن نتناساها لنعيش بقلب خالٍ من الأوجاع ومن جديد”.
قضينا فترة رمضان ونحن نأكل خبز الحنطة وماء البئر فقط
وتحدث الأستاذ عمر هلال القيسي بمرارة قائلًا: “أنا واحد من المنطقة القديمة التي ذاقت الأمرين من داعش وكنا محاصرين، صدقت أخي العزيز لأن عندنا وصل سعر السكر ١٥٠ ألف دينار والله المستعان، قضينا فترة رمضان ونحن نأكل خبز الحنطة وماء البئر فقط، نسأل الله ألا يعيد تلك الأيام وها نحن نذكرها ونتذكرها بألم وحسرة”.
هناك قصص كنا نسمعها فقط لكن في الموصل حدثت ورأيناها بأم أعيننا، وهناك ناس عاشوا هذه الحقيقة المرة ونحن منهم
وأشار الأستاذ حمزة الشيخاوي: “ما مر على هذه المدينة المنكوبة لم يمر على غيرها، فهي وأهلها غصوا بما لم يتوقعوه يومًا وذاقوا الأمرين ليستمروا بالعيش ما استطاعوا، وتلك أيام قد خلت اسأل الله ألا يعيدها لا علينا فقط بل على الانسانية أجمع، أسال الله في هذه الساعة المباركة أن يرحم جميع الشهداء ممن سقطوا على مدار 3 سنوات، لكم الرحمة والشهادة والمنزلة العظيمة جميعًا وجميع أهالي الشهداء”.
وأشار الأستاذ عبد الله العمري إلى المعاناة العظيمة التي عاشها أهله في المنطقة القديمة، وبصبرهم وجلدهم تخطوا الأزمة رغم خطورتها وتعاستها، فقد وصل الحال ببعض العوائل إلى أكل الحشائش من شدة الجوع وبعضهم أكل مادة الكارتون!
“هناك قصص كنا نسمعها فقط لكن في الموصل حدثت ورأيناها بأم أعيننا وهناك ناس عاشوا هذه الحقيقة المرة ونحن منهم، الحمد لله على كل حال وأتمنى من كل الناس أن يتعظوا هداهم الله”.
شهر رمضان المبارك وفرحة التحرير
وأكد الأستاذ خالد صالح أحد سكان المنطقة القديمة المنكوبة: “رمضان هذه السنة مفعم بفرحة التحرير حيث كنا برمضان الذي مضى في حال يرثى له من الجوع والعطش والحرمان لأبسط متطلبات العيش، وكان السرداب “القبو” الذي عشنا فيه حينها يشبه القبر حيث إننا عشنا الموت وأجواء القبر قبل أن نموت! لا يوجد أي منفذ فيه، المنافذ الوحيدة هي الشبابيك وأغلقناها مرغمين بـ”الطابوك” خوفًا من الشظايا، وكنا نتسحر خبز وماء فقط ونحمد الله على ذلك لأن هناك أناس حتى الخبز لا يمتلكونه ونفد لديهم”.
وأضاف: “في حينها أصبح الكيلو الواحد للطحين بـ12 ألف وكنا نفطر على الأرز أو شوربة الأرز لكي نقتصد به خوفًا من أن ينفد، كنا نأكل ربع وجبة من أجل أطفالنا لكي يشبعوا هم لأن الحصول على الأرز كان صعبًا، ولأنه غال ولا يباع إلا في منطقة واحدة خطرة، وماء الشرب نحصل عليه بشق الأنفس من منطقة الميدان من النهر نضيف الكلور عليه ونضعه في بطل على الهواء لكي يبرد قليلًا ويروينا بعد الإفطار من حر الصيف، نحمد الله الآن على التحرير والخلاص من هؤلاء المجرمين القتلة، والفرق شاسع وكبير بين رمضان هذه السنة والسنة الفائتة، نسأل الله أن يعيده علينا وعلى العراقيين جميعًا بخير وأمن وأمان”.
واستذكر معي الأستاذ محمد عز الدين الموظف في وزارة الصناعة والمعادن ذكرياته الماضية تلك الفترة، حيث قال: “كنت الوحيد بين أخوتي أقطن في الجانب الأيسر من الموصل حيث تم تحريره بسرعة دون توقف لكن ما كان يقتلني كل يوم ويسلب فرحتي أن أهلي جميعهم في الجانب الأيمن المنكوب، كان اتصالنا بهم شبه مستحيل وإن تم فهو خطر عليهم وربما يؤدي لإعدامهم من الحسبة آنذاك”.
كنا كلما وضعنا الإفطار تتساقط دموعنا حسرة على أهلنا لأننا نعرف أنهم دون طعام وما لديهم لا يكاد يسد الرمق
“أيام لا تنسى ولم يرتح لنا بال حتى سمعنا خبر نجاتهم وكحلت أعيننا برؤيتهم سالمين، وبحمد الله نجا الجميع من القصف وحرروا، والآن نقضي ونؤدي صوم رمضان معًا بعد تحريرنا بفضل الأبطال، رحم الله شهدائنا جميعًا ممن قضوا حتفهم تحت الأنقاض ورحم الله شهدائنا الغيارى وأسكنهم فسيح جناته”.