هناك أقفُ مدهوشة أرى المشهد ولا أفهمه، أعرف المكان ولا أعرف كيف يجب أن أتصرف، كيف يجب أن أشعر حياله.
أول زيارة وعقلي تعطل فجأة عن العمل، عاجز عن خلق فكرة كاملة، انبطاع، ترجمة المشاهد إلى شيء يُحس.
أراقبُ الجميع، المشهد كاملا، ويعمل عقلي كآلة تصوير تصورُ مشاهدا متلاحقة، ترصد فيها أدق أدق التفاصيل إلا أنها لا تعيها ولا تعرف ما تعنيه.
أقف بعيدة عنهم، الدقائق الخمس بدت لي دهرًا أُصِبتُ فيه بالشلل التام لا أتفاعل، لا أشعر، لا أقدر أن أتحرك با تجاههم.
أقف على حافة المشهد، أشعر كأنه تم أقتطاعي من عالم آخر وإلقائي فجأة هنا، أُشبه أبطال الأفلام حين يسافرون عبر الزمن فيجدون أنفهسم في زمن آخر لا يعرفونه ولا يجيدون التصرف فيه.
أثناء ذلك كان صوت شاب هاديء برتم ثابت يكرر “ما تعيطيش”…”ما تعيطيش”…”ما تعيطيش”… في البداية أسمع الصوت ولا أفهمه، لا ألتفت إليه ولا أنتبه .. عقلي تعامل معه كجزء من صخب الأصوات ،كأمر عاديّ يتعلق بطبيعة المشهد هنا. لم أنتبه إلى الصوت إلا بعد أن سحبني أحدهم من مكاني لبرهة لأجدني وسط دائرة العناق والسلامات، تبادل العبارات السريعة، والاطمئنان على الأحوال، حين عدتُ لمكاني ثانية انتبهتُ لإنقطاع الصوت ثم عودته ثانية بذات الرتم “ما تعيطيش”…”ما تعيطيش”…”ما تعيطيش”…
ألتفتُ إلى الصوت شاب بنظارة طبية، يجلس بجوار امرأة اربعينه ضئيلة عيناها حمرواتان ولا تتوقفان عن البكاء، يربت على كتفها.. يقبلُ جبينها. ثم يقول ” ما تعيطيش” يربتُ على كتفها،. يقبلُ جبينها..ثم يقول ” ما تعيطيش”..يربتُ على كتفها..يقبلُ جبينها..ثم يقول “ما تعيطيش” .
يكررُ الأمر مرارًا ومرارًا، لا يفعل شيئا سواه ولا يقول سوى ذات الكلمة ولا تتوقف هي عن البكاء ،يستمر الأمر هكذا إلى انتهاء الزيارة، يعانقها، تتعلق به، تفسحُ المجال لشابٍ أصغرْ يشبههُ بدرجة كبيرة يتعانقان ثم يضع يده على كتفه قائلا” ما تخليهاش تعيّط”…
بعدها بأيام بدأتُ أسترجع المشاهد جميعها، يستعيد عقلي المشاهد..الوجوه..الأصوات،.الكلمات،التفاصيل
ويترجمُ، يحللُ كل شيء، تتجسد لحظات الزيارة أمامي وكأنني أخيرا فهمت ما كان يجري هناك.
يعود مشهد الشاب وأمه، يتكرر أمامي فيما يشبه الصور المثبتة عند حركة معينة التي توحي لك بأن الماثلين فيها يظلون على تلك الوضعية إلى الأبد.
يُربتُ على كتفها.. يقبلُ جبينها. ثم يقول ” ما تعيطيش”. يُربتُ على كتفها،. يُقبلُ جبينها..ثم يقول ” ما تعيطيش”.يُربتُ على كتفها..يُقبلُ جبينها..ثم يقول “ما تعيطيش”.
يكرر الأمر مرارا ومرارا وهذه المرة لا يتوقف ولا يتقيد بوقت الزيارة، أنتظر أن ينتهي، أن ينتقل لمشهد العناق مع أخيه ولا يفعل و يبدو لي أن لا شيء في العالم سيوقفه.
لأيام ظلَ المشهد يمرُ أمامي، و أعجز ُعن إيقافه، مقاطعته وهو جالس مع والدته .. أنتظر في كثير من الخجل أن ينتهي من التربيت. التقبيل وأقول ربما “ما تعيطيش” القادمة ستكون هي الأخيرة.
الشاب في ذهني صار مسؤلا،لا وظيفة له ولا هم ولا شاغل سوى أن يطلب من هذه المرأة أن لا تبكي..لا هدف من وجوده إلا أن يوقف انسكاب الدمع ويحفظ قلب أمه من الانفطار بكاءً.
حين وضع يده على كتف أخيه ” ما تخليهاش تعيط” بدا كأنه يسلمُ مهمته المقدسة، مقاليد الأمر الأهم في هذا الكون “ما تخليهاش تعيط” وهو يعلم جيدا أن أخاه المسكين لا حيلة له في الأمر، أن العالم أجمع غير قادر على ايقاف دموعها، لا شيء قادر، لا شيء سوى أن يسير هو معها، يدهُ، بيدها، عبر هذه البوابات.
من وقت لآخر أعاودُ سؤال من كانوا معي في الزيارة عنها، ولا يعرفها أحد..أقلب في صور المعتقلين-علّني ألمح وجه الشاب فأتعرفه و لا أصادفه.. أستعيد المشهد ثانية ربما تفوه أحدهم بإسم الآخر ، أستعيد أصوات السجّانة، الحرس ربما نادى أحدهم اسمه..
الأم الباكية حين تعود لذهني، أتقمصُ دور ابنها وأظل اردد ” ما تعيطيش” ” ما تعيطيش” ” ما تعيطيش” ارددها كتعويذة انهي بها بكاءها ولو في المشهد.
في صباحات عديدة أستيقظ و صوتٌ بداخلي يُلحُ عليّ أن أجوب المدينة أطرقُ أبواب المنازل جميعها إلى أن تفتحَ لي هــــيّ فأطلب منها برفق “ما تعيطيش”.