جميعنا نتذكّر بكلّ تأكيد كم كان من الصعب علينا أنْ نتذكّر معلومةً ما تتعلق بدولة، أو بمسلسلٍ تحبّه، أو ممثّل تفضّله، أو في أيّ عامٍ كان ذلك الحدث التاريخيّ، قبل عقدٍ من الزمان. لكن ولحسن الحظّ ربما، فإنّك اليوم خلال لحظةٍ واحدة، تستطيع البحث في الإنترنت، وتحصل على الإجابة الصحيحة بمنتهى السهولة.
أو تذكّر متى كانت آخر مرة حفظت فيها رقم هاتف أحد أفراد أسرتك أو أصدقائك، ربما ستردّ بشكلٍ مباشر أنْ لا حاجةَ لذلك، فهاتفك يعمل بمثابة ذاكرةٍ خارجيةٍ لك، يمكنك اللجوء إليه وقتما تشاء فينقذلك. أليس كذلك؟
وعلى الرغم من أنّ سهولة الحصول على المعلومات في العالم الحديث قد حسّنت من حياتنا بطرق عديدة، إلا أنها تعمل أيضًا على تغيير كيفية عمل الدماغ ومعالجته. ما يجعل من الباحثين بطرح الأسئلة فيما إذا كانت تلك التغييرات تسير نحو الأفضل أو الأسوأ وإلى أيّ مدىً يمكن أنْ تصل في نهاية المطاف.
اعتمادنا على هواتفنا وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ لاسترجاع معلوماتنا وحفظ ذكرياتنا المختلفة يقلل من احتمالية تذكّر تلك المعلومات ويسهّل ولوجها لدائرة النسيان في الدماغ
فمما لا شكّ فيه أنّ التكنولوجيا تعمل على تغيير الطريقة التي نعيش بها حياتنا اليومية، والطريقة التي نتعلم بها، والطريقة التي يسير فيها إدراكنا وانتباهنا وتركيزنا، فقد أوحت مجموعة كبيرة من الأبحاث أنه قد يكون لها تأثيرات عميقة على ذاكرتنا، سواء على المدى القصير أو البعيد، بطريقةٍ تضعف وظيفتها وتؤثر عليها سلبًا.
فقد توصلت إحدى الدراسات أنّ اعتمادنا على هواتفنا وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ لاسترجاع معلوماتنا وحفظ ذكرياتنا المختلفة، تمامًا كما اعتمادنا على خرائط جوجل وتقنيات تحديد الموقع مثل GPS، يقلل من احتمالية تذكّر تلك المعلومات ويسهّل ولوجها لدائرة النسيان في الدماغ، فيما بات يُعرف بمصطلح “تأثير جوجل“.
ونظرًا لأنّ ذاكرة الإنسان تنشط من خلال تنشيط الخلايا العصبية التي تحمل المعلومات التي نودّ تذكّرها، ما يعني زيادة نشاط تلك الخلايا واتصالها بغيرها كلما تمّ تحفيزها، أي أنّ محاولة تذكّر معلومة قديمة يسهّل الحصول على المعلومة نفسها في المستقبل. لكن ومع توفر المزيد من المعلومات عبر الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى، أصبحنا أكثر اعتمادًا على الرجوع إليها بشكل تدريجيّ في حياتنا اليومية، ما يؤدي إلى انخفاض نشاط الدماغ وخلاياه العصبية شيئًا فشيئًا مع الوقت، وهذا يفسّر تمامًا سرعة نسيانا لمعلومةٍ كنّا قد حصلنا عليها من الإنترنت سابقًا.
المعلومات التي تنتج عن البحث السريع في الإنترنت تُنسى بسرعة
وبكلماتٍ أخرى، يعمل الدماغ على تقوية قدرات ذاكرته في كل مرة نسترجع فيها معلومةٍ ما، تمامًا كما يقوم بنسيان المعلومات غير المرغوب فيها أو غير الهامّة التي قد تشتتنا. ونظرًا لأنّ المعلومات التي تنتج عن البحث السريع في الإنترنت تُنسى بسرعة، فمن الواضح أنّ لهذا تأثيرٌ طويل المدى على حالة الذاكرة لدينا.
وفي دراسة أخرى أُجريت لمعرفة أثر التقاط الصور في المتحف على الذاكرة والإدراك، اكتشف الباحثون أنّ الأشخاص الذين التقطوا صورًا لما رأوه في المتحف سجّلوا احتمالاتٍ أقل لتذكّر تفاصيل ما شاهدوه، على عكس أولئك الذين لم يلتقطوا الصور ولم يستخدموا هواتفهم، إذ كانوا أفضل بكثير في تذكر التفاصيل التي رأوها ولم يتم تصويرها.
سبب آخر يمكن عزو ذلك الأثر إليه، فإنّ احتواء الإنترنت على هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي يمكن الوصول إليها بسرعة، يجعلنا نميل أكثر إلى عدم بذل جهدٍ عظيم في حفظها وتذكّرها، لشعورنا بتواجدها دائمًا وإلى عدم الحاجة إلى تذكرها طالما يمكن العثور عليها في أية لحظة، الأمر الذي يقلّل من كمية المعلومات التي يمكن للدماغ الاحتفاظ بها مع الوقت. إضافةً إلى خلق حالة من التشتّت والفوضى في الذكريات والمعلومات، مما يجعل من الصعب تذكّرها وترتيبها لاحقًا.
كما تعمل التكنولوجيا على تقويض التذكّر بوصفه عملية اجتماعية، نظرًا لكوننا نتذكر معلومات معينة ونشاركها مع الآخرين، وبالتالي نعتمد عليهم لملئنا بالمعلومات والتفاصيل التي نسيناها. فإلى حدٍ ما، باتت شبكات الإنترنت وهواتفنا الذكية هي التي تعمل على تذكّر تلك التفاصيل المتعلّقة بالآخرين، وبتنا ننظر إليها بكونها جزءًا خارجيًا بعيدًا عنّا لم نشاركْ في تكوينه أو خلقه، وكأنّ هاتفك أصبح قرصًا صلبًا خارجيًا لدماغك.
جميع القدرات الإدراكية للدماغ معرّضة لآثار التكنولوجيا السلبية المرتبطة بالذاكرة، نظرًا لحدوث اختلالٍ في أدمغتنا وخلاياه العصبية
ولكن النسيان أو عدم القدرة على التذكر ليس هو المشكلة الكبرى ببساطة، فهناك مشاكل أكبر تتعلّق بالأمر تتمحور حول قدرتنا على التركيز والانتباه واتخاذ القرارات وحل المشكلات، أيْ أنّ جميع القدرات الإدراكية للدماغ معرّضة لآثار التكنولوجيا السلبية المرتبطة بالذاكرة، نظرًا لحدوث اختلالٍ في أدمغتنا وخلاياه العصبية التي تعمل بشكل سلسلة مترابطة ومتراصّة هي المسؤولة عن تكويناتنا وقدراتنا وشخصياتنا.
بطبيعة الحال، الجدلية في إيجابيات وسلبيات التكنولوجيا ستبقى قائمة طويلًا، لكن ما نحتاج أن نركّز عليه هو الجانب الذي تعمل فيه التكنولوجيا على تحسين تجاربنا وقدراتنا الإدراكية والمعرفية، لا الجانب الذي تعمل فيه على تدمير أدمغتنا والحدّ من قدراتنا وإمكانياتنا وكأنّنا نعترف بشكلٍ لا واعٍ أنّ تلك الأجهزة هي الأذكى والأقدر وبالتالي فلا ضير من أنْ نرضخ لها ونتخلى عن أدمغتنا العبقرية.