لم يدر بخلد الدكتورة وفاء البازدي، وهي أم قطرية لثلاثة أبناء يحملون الجنسية البحرينية، أنه قد يأتي اليوم الذي تخير فيه بين وطنها وأبنائها، فعليها الآن الخيار إما أن تنتقل للعيش في البلد الذي يحمل زوجها جنسيته (البحرين) تاركة أهلها وعائلتها التي تربت ونشأت بينهم، ويترك أبناؤها كذلك جامعاتهم التي يتعلمون بها، أو أن يتخلى أبناؤها عن جنسية بلدهم ويتنازلوا عنها لأجل البقاء في دولة والدتهم.
حيرة ما كانت تتوقعها البازدي خاصة في منطقة الخليج، تلك المنطقة التي تتشابك فيها العائلات بصورة عنكبوتية مترابطة، مقارنة بالدول الأخرى، لكن المأساة تتفاقم حين يأتي رمضان وكل في مكان، الوالد والأبناء في بلد، والأم في بلد آخر، فبأي حال يكون رمضان وخيوط التشتت والتفرق تشوه اللوحة العائلية الجميلة.. هذا بعض من حصاد الأزمة الخليجية التي اندلعت في الـ5 من يونيو/حزيران العام الماضي وما زالت تلقي بظلالها القاتمة على المشهد برمته.
“أواجه خطر فقدان أطفالي، وحلم حياتي هو تربيتهم حولي، كيف تكون الحياة وهم في مكان وأنا في مكان آخر، أهكذا وصل بنا الحال في منطقتنا؟ وممن؟ من بلدان هم إخواننا وأخواتنا، وجيران عاشوا بيننا، ولماذا”، كان هذا تعليق الأم القطرية على واقعها المشتت بينما تستقبل شهر رمضان الكريم.
6500 مواطن قطري متزوج من الإمارات والسعودية والبحرين، ما يعني أن هناك 6500 عائلة خليجية ستقضي رمضان هذا العام مشتتة ومقسمة، الزوج والأبناء في بلد، والزوجة في بلد آخر، ومن أراد من أي منهما العيش مع الآخر فعليه أن يتنازل عن جنسيته، مأساة حقيقية تعيشها مئات الأسر الخليجية جراء أزمة لا يعلم أحد لما بدأت ولا متى تنتهي.
https://www.youtube.com/watch?v=mckG9WzpnpQ
عبث بالحياة
كثير من العائلات تنتظر شهر رمضان على أحر من الجمر، كونه موسمًا للتزاور والإكثار من جرعة الترابط الاجتماعي التي ربما تعاني من فتور وتراجع بقية شهور العام، لكن الوضع في دول الخليج ربما يكون مختلفًا هذا العام، فالزيارات ممنوعة بأمر دول الحصار.
هل تتخيل أن يأتي عليك رمضان وأنت في بلد وزوجتك أو أبنائك في بلد آخر؟ لا يمكنك زيارتهم أو الإفطار معهم ولا قضاء يوم واحد معهم، هل كان يدور بخلدك يومًا أن تكون الهواتف النقالة أو تطبيقات التواصل هي الوسيلة الوحيدة للتهنئة ومعايشة الأهل في هذا الشهر الكريم؟
الوضع بصورته الحاليّة كما وصفته منظمة العفو الدولية نوع من “العبث بالحياة”، فآلاف المواطنين من سكان الخليج يفتقدون لدفء العائلة وروح الأسرة في نهار رمضان ولياليه، وهو ما قد ينشر “المعاناة والخوف” في مختلف دول الخليج بلا استثناء بحسب المنظمة.
الوالد البحريني يشتاق لرؤية ابنته وزوجته وهما كذلك، لكن ما السبيل؟ لا يمكنه مغادرة بلاده وإلا وقعت عليه العقوبة التي قد تصل إلى إسقاط الجنسية عنه في بعض الأحيان، كذلك البنت تخشى السفر لزيارة والدها فلا تتمكن من العودة مرة أخرى لوالدتها
“العفو الدولية” حملت كل من الرياض وأبو ظبي والمنامة مسؤولية تفكك الأسر الخليجية وتشتتها وفقدانها روح الترابط، وهو ما اتضح بصورة أكثر مأساوية في رمضان، حيث كل في مكانه، لا لقاءات أسرية، ولا اجتماعات عائلية، ولا تبادل زيارات، فقط كل يطمئن على الآخر عبر جواله، وكأن الجميع بات في سجن كبير وإن لم تحكمه الأسوار الحديدية، وهو ما دفع المنظمة إلى التحذير بأن أوضاع العائلات الخليجية المختلطة باتت “في خطر”.
السلطات القطرية كشفت في إحصاءات رسمية لها أن ما يقرب من 8 آلاف سعودي، وأكثر من 750 إماراتيًا و2300 بحريني يعيشون فوق أراضيها، ينعمون بحقوقهم كافة، غير أن هذا العدد بلا شك قد تقلص بشكل أو بآخر بعد طلب دول الحصار من رعاياها مغادرة الدوحة.
منظمات دولية تصف تعنت دول الحصار بـ”العبث بحياة” آلاف الأسر الخليجية
مأساة
جسدت شهادة مواطنين من دول الخليج عن معاناتهم في رمضان بسبب تشتت أسرهم وتفرق عائلاتهم، الواقع المأساوي الذي تحياه المئات من الأسر الخليجية جراء تعنت دول الحصار وأنظمتها الحاكمة التي لم تلق بالاً لانعكاسات قراراتها على شعوبها ومجتمعاتها.
الشهادات التي أوردتها المنظمات الحقوقية وبعض وسائل الإعلام تطرقت إلى فقدان هذه الأسر الشعور بهذا الشهر الكريم، في ظل تشتت أفرادها ما بين دولة وأخرى، فهذا مهندس قطري يقيم مع عائلته في الإمارات منذ أكثر من 10 سنوات، وبسبب الأزمة الأخيرة، مُنع من دخول دبي، كذلك منعت زوجته من الذهاب إليه إلا حين تتنازل عن جنسيتها أولاً.
السلطات القطرية كشفت في إحصاءات رسمية لها أن ما يقرب من 8 آلاف سعودي، وأكثر من 750 إماراتيًا و2300 بحريني يعيشون فوق أراضيها، ينعمون بحقوقهم كافة
أما أبناؤه فيحلمون الجنسية القطرية تبعًا لأبيهم، وما كان عليهم إلا مغادرة دبي، لتبقى الزوجة وحيدة في بلدها وأبنائها وزوجها في بلد آخر، ليأتي رمضان وكل في مكانه، فلا الرجل قادر على الذهاب لمرافقة زوجته، ولا الزوجة قادرة على قضاء رمضان بين أبنائها وزوجها.
وذاك شاب سعودي يعمل في الدوحة مدرسًا بإحدى الجامعات، متزوج من قطرية، رفض الانصياع لقرار بلاده مغادرة قطر بداية اندلاع الأزمة، وآثر الحياة مع زوجته متمسكًا بوظيفته، اليوم والدته مريضة، ويود الذهاب للاطئمنان عليها في رمضان، خاصة بعد استغاثتها له أن يأتي لزيارتها.
وهنا يجد السعودي نفسه في مأزق حقيقي، فكيف يأتي رمضان دون أن يقبل يد والدته، ويتحسس تراب أقدمها برًا بها وتوددًا إليها، إلا أنه في الوقت ذاته، يخشى السفر فلا يقدر على العودة، إذ من المحتمل أن يتم منعه من سلطات بلاده، خاصة بعد تصميميه على البقاء هناك ضاربًا بقرار المغادرة عرض الحائط، وهنا يقول: “إذا عدت إلى موطني، لن أستطيع رؤية زوجتي، وإذا بقيت هنا، لن أستطيع رؤية أمي”.
تشتت مئات العائلات الخليجية أجهض فرحة رمضان لديهم
وهذه شابة بحرينية، تدرس في إحدى الجامعات القطرية، رفضت الخضوع لقرار بلادها بالمغادرة، فبقيت وسط أصدقائها وزملائها في الدراسة، كذلك اختارت أن تكون مع والدتها التي تحمل الجنسية القطرية، بينما ذهب والدها إلى المنامة، الأمر كان في بدايته ربما يكون مقبولاً رغم آلامه لكن في رمضان الوضع صار أكثر صعوبة.
الوالد البحريني يشتاق لرؤية ابنته وزوجته وهما كذلك، لكن ما السبيل؟ لا يمكنه مغادرة بلاده وإلا وقعت عليه العقوبة التي قد تصل إلى إسقاط الجنسية عنه في بعض الأحيان، كذلك البنت تخشى السفر لزيارة والدها فلا تتمكن من العودة مرة أخرى لوالدتها.
“العفو الدولية” حملت كل من الرياض وأبو ظبي والمنامة مسؤولية تفكك الأسر الخليجية وتشتتها وفقدانها روح الترابط، وهو ما اتضح بصورة أكثر مأساوية في رمضان، حيث كل في مكانه، لا لقاءات أسرية، ولا اجتماعات عائلية، ولا تبادل زيارات
مأساة أخرى تحياها الطالبة، إذ تقول إن جواز سفرها انتهت صلاحيته قبل شهر تقريبًا، ولا تستطيع السفر إلى أي مكان في العالم مع والدتها، ومن ثم عليها الذهاب إلى البحرين لتجديده، غير أنها تخشى منعها من العودة إلى قطر مرة أخرى.
يبدو أن دموع المشتتين من الأسر الخليجية وأنات المبعدين قهرًا، لم تحرك ساكنًا لدى الأنظمة الحاكمة في دول الحصار، فالأهواء السياسية ما تحدد بوصلة التوجهات وترسم خريطة القرارات والمواقف، دون أدنى اعتبارات إنسانية أو اجتماعية.
ويأتي شهر رمضان بكل ما فيه من معاني الود والترابط والتزاور، لنجد والدًا لا يستطيع الإفطار مع أبنائه وزوجته، وأم تتحسس أنفاس زوجها وأبنائها دون أن تقدر على إحياء ليالي الشهر المبارك معهم، وهكذا تدور الأيام وتنقضي الليالي، كل على أمل أن تنقشع هذه الغمة التي ظللت سماء أكثر مناطق العالم تماسكًا وترابطًا، وحتى يتحقق هذا، تبقى الهواتف وتطبيقات التواصل الاجتماعي المنصة الوحيدة للالتقاء بين مئات الأسر الخليجية.