لم يتوقع العراقيون وسط ما يعيشونه من أزمات بمختلف جوانب حياتهم، أن لهجتهم العراقية المميزة عربيًا، تُدرَس في معاهد خاصة في قلب مدينة “رمات غان” الإسرائيلية التي تقع في الجنوب الشرقي من تل أبيب، حيث إسرائيليون يبدون اهتمامًا بتعلم اللهجة العراقية، عبر التسجيل للانضمام إلى دورات تعلم “اللغة العراقية المحكية” التي تُقام في المدينة الإسرائيلية.
لكن الجهود الإسرائيلية لم تقف عند دروس في اللغة العراقية وحفظ مفرداتها، بل تُوِجت محاولات اتصال وزارة الخارجية بالعراقيين بإطلاق صفحة باسم “إسرائيل باللهجة العراقية” على “فيسبوك”، في 6 من مايو/أيار عام 2018، مستغلة حالات الفوضى والانفلات الأمني من أجل بث دعايتها السياسية السامة.
“شكو ماكو؟”.. سفارة رقمية للتطبيع مع العراقيين
عبر صورة شائعة لفرقة موسيقية عراقية يتوسطها الموسيقار العراقي محمد القبانجي مع الشقيقين العراقيين اليهوديين صالح وداود الكويتي، حاولت “إسرائيل” مغازلة مشاعر العراقيين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتوظيف اللغة العربية لمخاطبة جاليات اليهود المنحدرين من أصل عراقي الذين يعيش معظمهم حاليًا في “إسرائيل”.
وبحسب الخارجية الإسرائيلية، فإن الصفحة العراقية الجديدة تأتي كنوع من “السفارة الرقمية” التي ستركز على المحتوى المتعلق بالجمهور العراقي، سواء كان قصصًا عن الجالية اليهودية في “إسرائيل” أم نقاط تشابه بين الثقافات الإسرائيلية والعراقية، وتأتي أيضًا تعويضًا عن غياب سفارة لتل أبيب في بغداد.
وقالت الوزارة في تغريدة نشرتها على حسابها باللغة العربية في تويتر: “هذه الخطوة تهدف إلى خلق تواصل وحوار مثمر بين الشعبين الإسرائيلي والعراقي وإظهار الوجه الحقيقي لـ”إسرائيل”، وأضافت “هناك تاريخ حافل يجمع اليهود ببلاد الرافدين بعد أن عاشوا فيها أكثر من 2500 عام”، مشيرة إلى أن “المتحدرين من بلاد الرافدين لا يزالون يحملون ذكرياتهم ومساهماتهم في بناء العراق الحديث”.
أطلقت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذا الصباح صفحة جديدة – “إسرائيل باللهجة العراقية” – لخلق تواصل وحوار مثمر بين الشعبين الإسرائيلي والعراقي وتعميق مشاعر الود والتقارب والتفاهم بما يخدم الشعبين ولإظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل.https://t.co/a9i1HsYfsJ pic.twitter.com/vI19aeTWJH
— إسرائيل بالعربية (@IsraelArabic) May 6, 2018
وخاطبت الصفحة العراقيين: “هذه الصفحة الحوارية تستهدف الإجابة عن أسئلتكم بمنتهى المصداقية والشفافية”، وسرعان ما تمخض المشروع عن اهتمام في صفوف مواطنين عراقيين أبدوا التعاطف المتنامي تجاه “إسرائيل” والشعور بالحنين تجاه الجالية اليهودية، كما أبدوا إعجابهم بالصفحة، بل حتى الإعجاب بـ”إسرائيل” وتمنى البعض زيارتها، وفق ما يمكن رصده في تعليقات ورسائل زوار الصفحة.
يعكس ذلك أحد دوافع المشروع التي تحدث عنها يوفال روتيم المدير العام لوزارة الخارجية في 6 من مايو/أيار، بقوله: “العراقيون في السنوات الأخيرة باتوا يعجبون بـ”إسرائيل”، ولمسنا ذلك من خلال ردود الفعل الإيجابية التي وصلتنا عبر صفحاتنا على الشبكات الإجتماعية “إسرائيل تتكلم بالعربية” من بغداد وكل أنحاء العراق”.
بدوره، استخدم المتحدث باسم رئيس حكومة الاحتلال إسرائيلي أوفير جندلمان، مصطلحات عراقية، عندما كتب عبر صفحته في فيسبوك “شكو ماكو؟” (جملة يقولها العراقيون عند لقاء أحدهم الآخر)، وأضاف جندلمان “وزارة الخارجية الإسرائيلية أطلقت صفحة جديدة على الفيسبوك تسمى “إسرائيل باللهجة العراقية””.
محاولة اختراق جديدة.. يتحدثون العربية ويستشهدون بآيات من القرآن
تعد هذه الصفحة الثانية على مستوى اللغة العربية، بعد إنشاء صفحة “إسرائيل باللغة العربية”، لكن الغريب في الأمر، أن مسؤول الصفحة الذي يجيد اللهجة العراقية، يرد على كل التعليقات حتى المنددة بالحركة الصهيونية، كما يستعين أيضًا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ناهيك عن تاريخ العراق القديم والحديث.
وفي بالون اختبار، أطلقت الصفحة، مؤخرًا، تهنئتين للعراقيين؛ الأولى بمناسبة الانتخابات النيابية، والثانية، كانت على إثر تتويج الشابة العراقية دموع تحسين بلقب “أحلى صوت” في برنامج “ذا فويس” الذي تعرضه قناة MBC، فيما أوضحت في أحد التعليقات بأن تطبيع العلاقة مع بغداد يعود إلى الحكومة العراقية، وشركاتها ترغب في إعادة إعمار المناطق المحررة.
وفيما حصدت الصفحة آلآف الإعجابات في أيام معدودة، كانت التعليقات لمدونين عراقيين متباينة بين حث الحكومة العراقية على تطبيع العلاقة مع “إسرائيل”، مقابل تحذيرات الآخرين من الأهداف الصهيونية في بلاد ما بين النهرين، التي ضمت نحو 150 ألف يهودي قبل قيام “إسرائيل” عام 1948، ونزحوا بشكل جماعي بين عامي 1948 و1951 مع اتساع أعمال العنف ضدهم.
لم يستغرب كثير من العراقيين هذه الخطوة، فقد سبق ذلك حملة ترويج إعلامي واسعة للتطبيع مع تل أبيب، بدأت منذ بضع سنوات
ولم يستغرب كثير من العراقيين هذه الخطوة، فقد سبق ذلك حملة ترويج إعلامي واسعة للتطبيع مع تل أبيب، بدأت منذ بضع سنوات حين أطلق ساسة عراقيون دعوات لإبرام معاهدة سلام مع “إسرائيل”، وإعادة أملاك يهود العراق الذين هجروا إبان وبعد قيام دولة “إسرائيل”، ومن بينهم النائب مثال الآلوسي الذي أعلن زيارته لتل أبيب بشكل رسمي عام 2005.
ورغم أن تاريخ العلاقة بين الطرفين مليء بالمشاكل والأزمات منذ إعلان قيام “إسرائيل” عام 1948 والحروب التي خاضها العراق ضد الكيان الجديد، فإن ذلك لم يمنع من حدوث اتصالات بين أطراف عراقية معارضة و”إسرائيل”، وكان من بينهم الزعيم الكردي الراحل مصطفى البارزاني وآخرون.
ورغم القطيعة المعلنة بين الطرفين فإن عراق ما بعد 2003 شهد تحولات كبيرة في هذا المجال، تضمنت زيارات لشخصيات عراقية عامة بشكل علني أو سري، وتداولت وسائل الإعلام أنباء عن زيارة 20 شخصية سياسية عراقية لتل أبيب، وهو ما نفاه مجلس النواب العراقي عادًا إياها مجرد “شائعات”.
بما أن لدينا أعداءً مشتركين فنحن أصدقاء
أفيخاي أدرعي يستغل وسائل التواصل في محاولة التحريض والحشد ضد إيران
يبدو أن الإسرائيليين وجدوا ضالتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة هذه الصفحة التي جاءت في ظل وجود خشية كبيرة من نزاع مفتوح بين طهران وتل أبيب، بسبب ادعائها بشن هجمات إيرانية ضدها، في محاولة من بعض قياداتهم للحشد ضد إيران وتحقيق مآرب أخرى، وسط الاعتقاد بأن تل أبيب وبعض الدول العربية مثل السعودية أصبحت في خندق واحد.
وفي هذا الصدد، يقول يوناثان غونين الذي يرأس الفرع العربي في قسم الدبلوماسية الرقمية بوزارة الخارجية الإسرائيلية: “رغم أن العراق لا يزال في حالة حرب رسمية مع “إسرائيل”، ويخضع لنفوذ إيراني هائل، فإن مواطنيه هم الأكثر تعاطيًا مع صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية””، مشيرًا إلى أن “قرار إنشاء الصفحة تم بعد الطلبات الهائلة من العراقيين أنفسهم”.
المتحدث باسم جيش الاحتلال الرائد أفيخاي أدرعي يستغل وسائل التواصل لمحاولة اختراق العالمين العربي والإسلامي، ومحاولة التحريض والحشد ضد إيران
وعن توقيت هذه الخطوة، يرى السياسي الكردي محمود عثمان الذي رافق البارزاني في زيارتين إلى تل أبيب في حديثه للجزيرة، أن محاولات الانفتاح هذه جاءت بسبب القرب الجغرافي والحدود الطويلة التي تجمع العراق بإيران التي تشجع “إسرائيل” على الدخول لهذه الساحة الجديدة، من أجل محاربة نفوذ طهران انطلاقًا من الأراضي العراقية.
ووفق ما تراه صحيفة ذي وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن العامل المشترك بين الإسرائيليين والبعض في العالم العربي فهو عداء إيران، وخاصة في ظل التنافس بين الرياض وطهران على النفوذ الإقليمي، والعداء بين تل أبيب وطهران إزاء الطموحات الإيرانية للحصول على السلاح النووي.
وتقول الحكاية إن المتحدث باسم جيش الاحتلال الرائد أفيخاي أدرعي يستغل وسائل التواصل لمحاولة اختراق العالمين العربي والإسلامي، ومحاولة التحريض والحشد ضد إيران، وذلك من خلال استخدامه العربية نفسها، أي أنه يحاول الوصول إلى مبتغاه بلغة القوم الذين يريد التخاطب معهم، مما يتطلب اهتمامًا بالعربية من جانب “إسرائيل”، وهو ما تقوم به وتسعى للسير فيه قدمًا في هذا المجال.
ما لم تفعله السياسة يفعله الفضاء الإلكتروني
على مدى السنوات الماضية، حاولت “إسرائيل” استغلال حالات الفوضى والانفلات الأمني في دول عربية من أجل بث دعايتها السياسية، ورغم أنها لا تقيم علاقات دبلوماسية مع معظم جيرانها، لكنها تستغل وسائل التواصل للنفوذ إلى العرب وتعزيز المؤاءمة المتنامية مع دول عربية مسلمة سنية.
السعودية – على سبيل المثال – كانت الدولة الأكثر تأثيرًا من بين هذه الدول، حيث اختار جيش الاحتلال الإسرائيلي موقعًا إلكترونيًا سعوديًا لإجراء أول مقابلة عبر وسائل الإعلام العربية مع رئيس أركانه الجنرال غادي إيزنكوت منذ أكثر من عشر سنوات، وصرح وقتها لموقع إيلاف الإلكتروني السعودي – الذي يتخد من لندن مقرًا له – بأن إيران تشكل “أكبر تهديد في المنطقة”، مضيفًا أن هناك اتفاقًا كاملاً بين “إسرائيل” والسعودية بهذا الشأن.
وتحاول بعض القيادات الإسرائيلية التواصل مع العرب، من خلال بعض وسائل التواصل مثل فيسبوك وتويتر ممارسة التطبيع الرقمي مع العرب، بحجة أن “عدونا مشترك”، وعلى رأسهم أفيخاي أدرعي، ففي حين يحظى أدرعي بنحو 1.2 مليون من المتابعين على صفحته على فيسبوك العربية، فإنه يحظى بأكثر من 181 ألف متابع على حسابه في تويتر.
تعمل هذه الصفحات بشكل مكثف على تسويق ونشر الدعاية الإسرائيلية لكسب العرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي
وتعتبر “إسرائيل” من الرائدين في مجال الدبلوسية الرقمية في العالم حاليًّا، حيث أنشأت وزارة خارجية الاحتلال قسمًا ضخمًا تابعًا لمبنى الوزارة ولجهاز الاستخبارات الاسرائيلية “أمان”، تحت مسمى “قسم الدبلوماسية الرقمية” الذي تأسس سنة 2011، ويعمل بهذا القسم موظفون ومستشارون من الوزارة كما تم استقطاب العديد من طلبة الجامعات تطوعًا، أو مقابل إعفاءات من بعض الرسوم الجامعية وذلك حتى تتسع رقعة الانتشار أكثر فأكثر.
ولـ”إسرائيل” عدة صفحات رسمية وغير رسمية بأكثر من 20 لغة، تعمل من خلالها لتحقيق التطبيع الرقمي، ومن أبرز هذه الصفحات الموجهة نحو الشعوب العربية “صفحة إسرائيل تتكلم العربية” وصفحة “أفيخاي أدرعي” وصفحة “المنسق”، وهو رئيس وحدة تنسيق أعمال الحكمة بالمناطق، حتى صفحة رئيس الوزراء الإسرائيلي شخصيًا بدأت بالعمل على هذا التحقيق، من خلال هذه الصفحات، فكمية التفاعل ومدى استقطابها للشباب العربي كبير جدًا.
هذه الصفحات – وغيرها الكثير – تعمل بشكل مكثف على تسويق ونشر الدعاية الإسرائيلية لكسب العرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعادة ما تنشر نفس الكلام وبنفس الطرق التي عادة ما تقوم على مبدأ الجذب الثلاثي الذي يعد من أهم ركائز نجاح الدعاية السياسية.