في شهر رمضان على وجه الخصوص أنت لست بحاجة لأن تسأل عن موقعك أو مكانك إذا كنت في شوارعها، فالزينة التي ظللت سماءها، ومكبرات صوت المساجد التي غردت في صلاتها، وموائد الرحمن التي رسمت لوحة فنية في ميادينها وحواريها، والليالي الرمضانية التي شعت بنورها من بين جنباتها، كلها كفيلة أن تخبرك وبصوت مرتفع: أنت في مصر.
يتميز المصريون في رمضان بطقوس غير تقليدية، ورثوها من قديم الزمن، بعضها استمد عن طريق الفراعنة كالأغاني والأهازيج وعلى رأسها أنشودة “وحوي وحوي” أشهر أغاني رمضان في مصر، والآخر من العصر الفاطمي كمدفع الإفطار والفوانيس والزينة وغير ذلك من المظاهر الاحتفالية التي عرف بها المجتمع المصري.
ظلت مصر في هذا الشهر المبارك قبلة للأشقاء العرب والمسلمين وحتى الأجانب، الباحثين عن الروح الرمضانية الجميلة المستترة داخل تلك الطقوس التي باتت سمة ومظهرًا جماليًا وحضاريًا دفع الجميع من مختلف دول العالم لشد الرحال إليها في هذا التوقيت من كل عام.
ولكن.. خلال السنوات الأخيرة على وجه التحديد غابت الكثير من تلك المظاهر والطقوس، فلم تغط الموائد شوارع مصر طولاً وعرضًا كما كان في السابق، حتى الأصوات الجميلة للمصلين في صلاة التراويح التي كان يأنس بها الناس في منازلهم تم وأدها بصورة كبيرة، إضافة إلى الليالي الرمضانية التي كان يلتف على موائدها بسطاء المصريين في الريف والربوع بعد صلاة العشاء وحتى منتصف الليل لملمت أمتعتها هي الأخرى ورحلت.. ليبقى السؤال: ما السبب؟ ولماذا غابت؟ ومن المسؤول عن إجهاض تلك الروح الإيمانية التي كانت السمة الأبرز للمصريين في هذا الشهر الكريم؟
طقوس مميزة
لرمضان في مصر رونق خاص، فالمصريون يتعاملون مع رمضان ليس كونه شهر صيام وقرآن فحسب، بل بالنسبة لهم عيدًا وفرحًا يمتد 30 يومًا كاملة، منذ استطلاع هلاله وحتى وداعه، عليك فقط أن تسير وسط شوارع القاهرة ليلاً أو قبل أذان المغرب لتتعرف عن قرب على مكانة هذا الشهر في نفوس الشعب المصري، بدءًا من زينتها التي حجبت نور السماء عن الأرض، مرورًا بفوانيسها المتلألئة من شرفات المنازل وكأنها النجوم المفعمة ضياء، وصولاً إلى البسمة الحانية المرسومة على وجوه المصريين رغم الوضع المأساوي الذي يعيشونه.
علاوة على ذلك كان السلام الحار والعناق الدافئ وتبادل التهاني بين الناس مع قدوم الشهر سمة مميزة، فضلاً عن العديد من الطقوس الأخرى، كالمسحراتي وانتشار بائعي المشروبات الرمضانية المتوارثة (العرقسوس – تمر هندي – سوبيا)، وتبادل الزيارات العائلية.
ثم تأتي الموائد الرمضانية التي لا يكاد يخلو شارع منها لترسم بدورها أجمل سيمفونيات التكافل والحب والإخاء بين أبناء البلد الواحد، حتى إن بعض المسيحيين كانوا يعدون عددًا منها، فالشهر – وفق تصورهم – موسمًا لنشر المحبة والتسامح والتعاون أكثر منه ملمحًا دينيًا حكرًا على فئة دون غيرها، وأمرًا إلهيًا كلف به المسلمون وحدهم.
وزارة الأوقاف المصرية حرصت خلال العامين الماضيين تحديدًا على الإجهاز على ما تبقى من الطقوس التعبدية للمصريين في هذا الشهر
كانت تلك الموائد قبلة للكثير من المحتاجين أو المغتربين على حد سواء، فعليها تجد الطالب والعامل البسيط والفقراء، بل ربما تجد أحيانًا بعض علية القوم ممن حل عليهم أذان المغرب وهم في طريقهم، حينها من الصعب أن يفلتوا من أيدي أصحاب تلك الموائد ممن يلجأون في بعض الأحيان إلى محاصرة السيارات لإرغام ركابها على النزول لتناول الإفطار، في مشهد يوحي إليك أنه حقًا لا جائع ولا فقير في مصر في هذا الشهر على وجه الخصوص.
وبعد الإفطار مباشرة تتحول شوارع العاصمة المصرية إلى كرنفالات من الاحتفالات وموائد الذكر وقراءة القرآن، فضلاً عن صلاة التراويح التي يتميز بها المصريون لما يملكونه من أصوات عذبة وجميلة في قراءة القرآن، تصدح بها مكبرات الصوت التي حولت شوارع وميادين مصر إلى مسجد كبير.
بينما في ريف مصر وربوعها، في محافظات الوجه البحري أو الصعيد على حد سواء، فبجانب الطقوس سالفة الذكر هناك أيضًا ما يميزها عن غيرها، حيث الليالي الرمضانية، وهي عبارة عن مجالس ذكر يعقدها كبراء القوم في القرى والنجوع، يأتون فيها بقارئ للقرآن يتلو بعض الأيات من بعد صلاة العشاء وحتى وقت السحور تقريبًا.
وفيها يلتف بسطاء القرية حول الشيخ، يطربون آذانهم بصوته الجميل، يستمعون إلى القرآن ويتدبرون آياته، كذلك تتميز هذه المجالس ببعض المرح والفسحة وتبادل السمر وتناول بعض أنواع الطعام والحلوى والشراب، في مشهد كرنفالي يعمق روح هذا الشهر المبارك في نفوس المصريين.
غير أنه وفي السنوات الأخيرة بدأت هذه المظاهر أو معظمها في الانقراض تدريجيًا، فما عادت الموائد سمة الشوارع كما كان، بل اقتصرت على علية القوم فقط وفي أماكن محددة، كذلك الليالي الرمضانية التي منعت في كثير من القرى والنجوع، هذا بخلاف صلاة التراويح التي اقتصرت على الحضور بالمسجد وفقط، وما عاد من في البيت على بينة إذا ما كان المصلون فرغوا من صلاتهم أم لا، عكس ما كان في السابق، فالمكبرات تم نزعها نزعًا، والأصوات خفتت.. وبات السؤال الأكثر حضورًا على ألسنة الكثير: لماذا غابت روح رمضان عن الشارع المصري بهذه الصورة؟
صلاة التراويح في الساحات خارج المسجد كانت أبرز سمات رمضان في مصر
الأزمة الاقتصادية
كانت الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعاني منها المصريون حاضرة وبقوة في تفسير غياب كثير من الطقوس الرمضانية خلال السنوات الأخيرة، على رأسها موائد الرحمن التي شهدت تراجعًًا كبيرًا مقارنة بالسابق، خاصة بعد القفزات الجنونية في أسعار السلع في أعقاب قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه) في الثالث من نوفمبر 2016.
الارتفاع الجنوني في الأسعار الذي وصل إلى 200% في بعض السلع، صاحبه زيادة غير مسبوقة في معدلات التضخم وصلت إلى 30.7% خلال 2017، نجم عنها ارتفاع مؤشرات البطالة لتبلغ نهاية نوفمبر 2017 نحو 11.9%، مقارنة بـ9% في ديسمبر/كانون الأول 2010، كل هذا أدى إلى طفرة هائلة في معدلات الفقر في مصر، لتبلغ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8%، فيما تشير أرقام وإحصاءات إلى وجود أكثر من 30 مليون مصري يعيشون دون حد الكفاف.
كانت تلك الموائد قبلة للكثير من المحتاجين أو المغتربين على حد سواء، فعليها تجد الطالب والعامل البسيط والفقراء، بل ربما تجد أحيانًا بعض علية القوم ممن حل عليهم أذان المغرب وهم في طريقهم
وأمام هذه الأزمة تراجع الكثير ممن كانوا يعتادون إقامة موائد الرحمن في هذا الشهر الكريم، بل إن الحد الأدنى من مظاهر إفطار الصائمين والمتمثل في وجبات التمر والعصائر وبعض ثمار الفاكهة اختفت في كثير من الشوارع والطرقات، وحين التقينا بعضًا من أهل الخير الذين أوقفوا إقامة الموائد كانت الإجابة: “ما باليد حيلة، الأسعار قصمت ظهورنا وما عدنا نستطيع الوفاء، من كان يقيم مائدة تكفي مئة بات يقيم أخرى تكفي عشرة وهكذا، لكن الله يعلم أننا ما قصرنا وأن غلقنا لهذا الباب الخير كان فوق قدراتنا وطاقاتنا”.
التراجع الملحوظ في عدد الموائد ألقى بظلاله القاتمة على الفقراء والمغتربين ممن كانت قبلتهم الأساسية لقضاء أيام رمضان دون تحمل أعباء الإفطار، هذا في الوقت الذي منيت به الموائد المتبقية بتكدس غير مسبوق، إما بسبب النقص الواضح في أعدادها أو لزيادة معدلات الفقر ما دفع الكثير من الأسر إلى البحث عن أي مائدة تجنبًا لإرهاق ميزانتهم المحدودة أو المنعدمة بطبيعتها، إضافة إلى العراقيل والشروط التي وضعتها الحكومة لإقامتها التي أثارت خوف وقلق البعض ما دفعهم لوقفها.
الأوضاع الاقتصادية المتردية أفقدت المصريين فرحتهم بالشهر
بفعل فاعل
العامل الاقتصادي ليس وحده من اغتال روح رمضان لدى الشارع المصري عبر إخفاء طقوسه التي اعتادها أبناء المحروسة، فبعيدًا عن الأسعار التي أدت إلى نقص عدد موائد الرحمن وأفعال الخير على سبيل المثال، هناك روحانيات أخرى كان المصريون يتنسمون من خلالها عبير الشهر المبارك ويشبعون أرواحهم بنفحاته العطرة، لكنها اختفت مؤخرًا بفعل فاعل.
وزارة الأوقاف المصرية حرصت خلال العامين الماضيين تحديدًا على الإجهاز على ما تبقى من الطقوس التعبدية للمصريين في هذا الشهر، فأصدرت قراراتها بمنع استخدام مكبرات الصوت خارج المساجد في أثناء صلاة التراويح، وهي الأصوات التي كانت تضفي البهجة على الكثير من البيوت الملاصقة للمسجد، كونها أحد العلامات البارزة أنك في هذا الشهر الفضيل.
تراجع الكثير ممن كانوا يعتادون إقامة موائد الرحمن في هذا الشهر الكريم، بل إن الحد الأدنى من مظاهر إفطار الصائمين والمتمثل في وجبات التمر والعصائر وبعض ثمار الفاكهة اختفت في كثير من الشوارع والطرقات
الشيخ زكريا الخطيب، وكيل وزارة الأوقاف المصرية، كشف أن قرار وزير الأوقاف السابق بمنع مكبرات الصوت من المساجد في أثناء صلاة التراويح في شهر رمضان وعدم استخدام مكبرات الصوت في غير الأذان وشعائر صلاة الجمعة والاكتفاء بالسماعات الداخلية، يأتي في صالح طلاب الثانوية العامة والمرضى والموظفين والعمال الذين يستيقظون لأعمالهم مبكرًا.
مضيفًا أنه قد تم التشديد على العاملين في المساجد سواء كانوا مؤذنين أم خطباء على الالتزام به وعدم المخالفة وتشديد الرقابة على ذلك حتى لا يتعرض المتسبب للمساءلة، هذا بالتزامن مع قرار غلق المساجد بعد الصلاة، ومنع الإقامة فيها سواء لقراءة القرآن أم قضاء ما فات من الصلوات.
المنع لم يقتصر على استخدام مكبرات الصوت وفقط، بل وصل إلى منع صلاة التراويح خارج المسجد في الساحات الكبيرة، وهي السمة الأبرز للصلاة في مصر، حيث اشتهر بذلك بعض المساجد الشهيرة كعمرو بن العاص في القاهرة ومصطفى محمود في الجيزة التي كانت تستوعب عشرات الآلاف من المصلين يوميًا، تتضاعف في العشر الأواخر من الشهر.
وتواصل الأوقاف المصرية سلسلة إجراءاتها الإصلاحية لتجديد الخطاب الديني التي تبنتها مع قدوم الوزير الحاليّ محمد مختار جمعة، عبر منع إقامة الليالي الرمضانية التي كانت تشتهر بها ربوع مصر وقراها، وسواء كان القرار صادر عن الوزارة أو الجهات الأمنية، غير أن البسطاء فقدوا نافذتهم الوحيدة لتنسم عبير رمضان واستقبال روحانياته.